فقه الذكر (١)
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٤٢)} [الأحزاب: ٤١، ٤٢].
وقال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨)} [الرعد: ٢٨].
ذكر الله عزَّ وجلَّ هو قوت القلوب التي متى ما فارقها صارت الأجساد لها قبوراً.
وفي كل جارحة من جوارح الإنسان عبودية مؤقتة كالصلاة والصيام والحج، والذكر عبودية القلب واللسان، وهي غير مؤقتة.
والذكر جلاء القلوب وصقالها ودواؤها، وبه يزول الوقر عن الآذان، والبكم عن الألسن، وتنقشع الظلمة عن الأبصار.
زين الله به ألسنة الذاكرين، كما زين بالنور أبصار الناظرين، فاللسان الغافل كالعين العمياء، والأذن الصماء، واليد الشلاء.
والذكر هو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عباده ما لم يغلقه العبد بغفلته.
وبالذكر يصرع العبد الشيطان، وهو روح الأعمال الصالحة، فإذا خلا العمل عن الذكر كان كالجسد الذي لا روح فيه.
وقد أمر الله عزَّ وجلَّ بذكره، ونهى عن ضده من الغفلة والنسيان كما قال سبحانه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (٢٠٥)} [الأعراف: ٢٠٥].
وقال سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (١٩)} [الحشر: ١٩].
فالذكر هو التخلص من الغفلة والنسيان، والفرق بين الغفلة والنسيان: أن الغفلة ترك باختيار الغافل، والنسيان ترك بغير اختياره، ولهذا قال سبحانه: {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (٢٠٥)} [الأعراف: ٢٠٥].
فلم يقل: ولا تكن من الناسين؛ لأن النسيان لا يدخل تحت التكليف فلا ينهى عنه.
والذكر من حيث ما يذكر ثلاثة أنواع:
ذكر الله وأسمائه وصفاته ومعانيها والثناء على الله بها وتوحيد الله بها.
وذكر الأمر والنهي.
والحلال والحرام.
وذكر الآلاء والنعماء والإحسان.
وذكر الله تبارك وتعالى تارة يكون بالقلب واللسان وهو أعلى الدرجات.
وتارة يكون بالقلب وحده وهو في الدرجة الثانية.
وتارة يكون باللسان المجرد وهو في الدرجة الثالثة.
وذكر العبد لربه محفوف بذكرين من ربه له: ذكر قبله به صار العبد ذاكراً له، وذكر بعده به صار العبد مذكوراً، كما قال سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (١٥٢)} [البقرة: ١٥٢].
والذكر على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: الذكر الظاهر ثناءً أو دعاءً أو رعاية، والمراد بالظاهر ما تواطأ عليه القلب واللسان.
فذكر الثناء: نحو سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وذكر الدعاء: نحو: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣)} [الأعراف: ٢٣].
وذكر الرعاية: ما يستعمل لتقوية الحضور مع الله، وفيه رعاية لمصلحة القلب، وأنسه بالله، وثقته به كما قال سبحانه: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: ٤٠].
فيشعر قلب العبد أن الله معنا، وأنه يرانا، وأنه يسمعنا.
فيتولد من ذلك الحياء من الله، والإقبال على طاعته، والبعد عن معصيته، ودوام ذكره وشكره.
الدرجة الثانية: الذكر الخفي، وهو الذكر بمجرد القلب بما يعرض له من الواردات.
ويكون بالتخلص من الغفلة والنسيان، والحجب الحائلة بين القلب والرب سبحانه، وملازمة الحضور مع المذكور سبحانه، ومشاهدة القلب له حتى كأنه يراه، ولزوم القلب لذكر ربه.
تملقاً تارة.
وتضرعاً تارة.
وثناءً تارة.
وتعظيماً تارة.
ومحبة تارة.
وغير ذلك من أنواع المناجاة بالسر والقلب.
وهذا شأن كل محب وحبيبه.
الدرجة الثالثة: الذكر الحقيقي، وهو شهود ذكر الحق سبحانه إياك، فذكر الله لعبده هو الذكر الحقيقي، حيث ذكره فيمن اختصه وأهَّله للقرب منه، ولذكره فجعله ذاكراً له.
فهو سبحانه الذي جعل الذاكر ذاكراً، والموحد موحداً، والكافر كافراً، والأبيض أبيض، والقصير قصيراً، فله المنَّة والفضل، والعطاء والمنع، وله كل شيء، وبيده كل شيء، وهو رب كل شيء.
وحقيقة ذكر الله هي تركيز اتجاه القلب إلى الله سبحانه وتعالى في كل وقت من الأوقات بالذكر والدعاء، وعند الأوامر والنواهي، وسائر الأحوال.
فالمسلم يبدأ ذكر الله بلسانه نطقاً ومقالاً.
ثم بقلبه يقيناً واعتقاداً.
ثم بعمله طاعة وامتثالاً لأوامر الله سبحانه.
وذكر الله سبحانه هو ثمرة المعرفة بالله والإيمان به سبحانه، وقد أمرنا الله بذكره دائماً حتى نستحضر عظمته وجلاله، وجماله وكماله، لنطيعه ولا نعصيه، ونشكره ولا نكفره.
والهدف من ذكر الله:
هو إحياء جميع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان بالله، وتوحيده، وعبادته، والتزام شرعه، وطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
مختارات