خفي الألطاف ..."اللطيف"
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وصحبه ومن والاه.. وبعد
فمن أسمائه سبحانه اللطيف..
وفي اللغة: اللطيف: الذي يوصل إليك أَرَبَكَ في رفق..
واللطف أصله خفاء المسلك ودقّة المذهب..
فالله سبحانه " هو المحسن إلى عباده في خفاء وستر من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم أسباب معيشتهم من حيث لا يحتسبون "
فهو ذو لُطف وخفاء ودقّة في إكرامه وإحسانه.. وفي عصمته وهدايته.. وفي تقاديره وتصاريفه..
فمع بالغ قدرته، وعظمة علمه، وبصره بمخلوقاته، إلا أنّه ذو لطف فيما يحوط به العبد من هداية وإكرام وإحسان.. لا تفجؤك أفضاله بل يسبقها برياح البشرى.. ويهيّئ قلبك لاستقبالها، ثم إذا نزلت بك الأفضال جعل لها من الأسباب التي تسبقها ما تكون بها ممهّدة الوقوع.. وكأنّها من محض كسب العبد وهي على الحقيقة إكرام بحت من عظيم المنّ والعطاء..
وتأتي بلطفه عظائم المقادير والتي تستبعد أكثر العقول توسّعا وقوعها.. فيجعلها كائنة.. حاضرة.. كل خيط من ذلك المقدَّر يمسك به قدرٌ من لطفه.. فلا تنتبه إلا _وبقريب من المعجزات_ قد بات بساحتك ! لا تعلم كيف أمكنه أن يحدث، وتعلم أن حولك وقوّتك أقل من أن تحدثه.. فتنظر إلى السماء وتقول: " الله لطيف بعباده "..
إذا أراد اللطيف أن ينصرك أمر ما لا يكون سببا في العادة فكان أعظم الأسباب..
وإذا أراد اللطيف أن يكرمك جعل من لا ترجو الخير منه هو سبب أعظم العطايا التي تنالك..
وإذا أراد اللطيف أن يصرف عنك السوء جعلك لا ترى السوء، أو جعل السوء لا يعرف لك طريقاً، أو جعلكما تلتقيان وتنصرفان عن بعضكما وما مسّك منه شيء..
وإذا أراد اللطيف أن يعصمك من معصية.. جعلك تبغضها.. أو جعلها صعبة المنال منك.. أو أوحشك منها، أو جعلك تقدم عليها فيعرض لك عارض يصرفك به عنها..
وعباد الله يرقبون تلك الألطاف من اللطيف، ويبصرونها ببصائرهم وكأنّ كل قضاء ينالهم به بصمة لطف يدركونها وحدهم..
عندما أراد اللطيف أن يُخرج يوسف عليه السلام من السجن.. لم يدكدك جدران السجن، لم يأمر مَلَكاً أن ينزع الحياة من أجساد الظلمة، لم يأذن لصاعقة من السماء أن تقتلع القفل الحديدي.. فقط جعل الملِك يرى رؤيا في المنام تكون سبباً خفيّا لطيفاً يستنقذ به يوسف الصدّيق من أصفاد الظلم !
ولما شاء اللطيف أن يعيد موسى عليه السلام إلى أمّه لم يجعل حرباً تقوم.. يتزعّمها ثوّار بني إسرائيل ضد طغيان فرعون يعود بعدها المظلومون إلى سابق عهدهم.. لا، بل جعل فم موسى لا يستسيغ حليب المرضعات.. بهذا الأمر الخفيّ اللطيف يعود موسى إلى أمّه بعد أن صار فؤادها فارغاً..
ولما شاء اللطيف أن يخرج رسولنا عليه الصلاة والسلام ومن معه من عذابات شعب بني عامر لم يرسل صيحة تزلزل ظلم قريش.. فقط أرسل الأرَضَة تأكل أطراف وثيقة الظلم وعبارات التحالف الخبيث.. فيصبحون وقد تفككت عُرى الظلم بحشرة لا تكاد ترى..
لغيرك ما مددت يـــــــدا وغيرك لا يفيض ندا
وليس يضيق بابــــــــــــك بي فكيف ترد من قصــــــدا
وركنك لم يزل صمــــــــــــــدا فكيف تذود من وردا
ولطفك يا خفيّ الــــــــــــلطف إن عادي الزمان عــــــــــدى
إنّه اللطيف سبحانه.. بأيسر الأمور يقدّر أعظم المقادير.. وتتمّ إرادته على ما شاء، وعبده غير مدرك بأن شيئا ما يحدث..
تنام فيحبّ أن تقول تصلي بين يديه.. فيرسل ريحا هادئة تحرّك نافذتك.. أو طفلا من أسرتك يمرّ ويحدث ضوضاء بجوار غرفتك، أو حاجة شديدة في شرب شيء من الماء.. فتستيقظ وتنظر إلى الساعة.. وبعد دقائق تكون واقفاً على السجّادة تناجيه ولا تعلم أنّه هو من أيقظك..
تقود سيارتك في مرتفعات الجبال ثم فجأة ترى من الضرورة أن توقف سيّارتك جانباً لتتأكد من وجود شيء في درج السيارة (هويّتك أو محفظة نقودك).. وبعد ثوانٍ ترى أمامك صخرة عظيمة هابطة من أعلى الجبل لو لم تقف لدكدكتك وسيارتك.. فتكمل رحلتك سالماً.. ولا تعلم أنّه هو من أنقذك !
تخطط لمعصيته.. تخرج ليلاً.. تفاصيل الخطّة محكمة، فجأة تمرّ سيارة من بعيد، فتشك أنت أن أحدهم يراقبك، فتنغّص تلك السيارة المارّة فكرة الذنب لديك.. فتبرد إرادتك وتعود إلى بيتك.. ولا تعلم أنّه هو من صرفك بلطفه عن معصيته !
وكم لله من لطفٍ خفــــــــــــــيّ يدقّ خفاه عن فهم الذكيّ
وكم أمر تساء به صباحـــــــــــــــا فتأتيك المسرّة في العشيّ
إذا ضاقت بك الأحوال يوما فثق بالواحد الفرد العليّ
ولا بد للطيف أن يكون عليماً.. فكيف يكرمك ويمنّ عليك ويهديك بلطفٍ من لا يعلم مكامن هذا اللطف؟ ولا بد أيضاً أن يكون خالقاً.. إذ أن كمال اللطف يقتضي في بعض الأمور إيجاد ما ليس موجوداً وخلقه.. وها هي أسماء الله وصفاته يشير بعضها إلى بعض، ويقتضي ويستلزم بعضها البعض.. يقول تعالى: " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ".. كيف لا يعلم وقد بلغ من علمه أن أخفى عطاءاته فكانت دقيقة الحضور.. هادئة النور.. باهرة الشعور.. كيف لهذا الرب الذي يكرم بخفاء.. ويهدي بخفاء.. ويصرف بخفاء.. ألا يعلم كل هذا اللطف الذي يحدثه سبحانه؟
يقول الشيخ السعدي: " وهو اللطيف الذي أحاط علمه بالسرائر والخفايا، وأدرك البواطن والخبايا "
وها هي رؤيا من أعظم رؤى البشرية يراها يوسف عليه السلام وهو في حالة تقول كلّ مؤشّراتها الطبيعية باستحالة تحققها.. يحكي رؤياه فيقول: " إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين "..
وتأويل الرؤيا أن أباه وأمّه وإخوته الأحد عشر سيسجدون له إكراماً وتوقيراً..
جميع المؤشّرات لا تدل على تحقق مثل هذه الرؤيا..
فإخوته يكرهونه فكيف سيسجدون له.. بل بلغ من كرههم أن يخططوا لقتله.. بل إن كرههم دفعهم لإلقائه في البئر، فهذه المؤشرات تقول باستحالة أن يحدث سجودهم له في يوم ما !
ثم إنّ الأحوال تقلّبت به فصار عبداً في بيت عزيز مصر.. وحال العبودية تلك تقضي أيضاً بتأكيد معنى الاستحالة هذه !
ثم انتقل من كونه عبدا خادما في قصر.. إلى عبد حبيس في سجن.. فبعدت المسافة أكثر بينه وبين تحقق تلك الرؤيا..
ولكنّ اللطيف سبحانه يقدر الأقدار، ويصرّف الأمور، ويخرجه من السجن، ويجعله في منصب رفيع، ثم يقدّر القحط على البلاد، ثم يأتي بإخوته في ثياب الذل.. وما تزال أقدار اللطيف تلتف لتحقق تلك الرؤيا القديمة.. فينبهر يوسف لسجود والديه وإخوته ويقول: " يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقّا.. "
وإلا فلولا إرادة ربّه لما تحققت..
" وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي "
هذا اختصار للطف الذي سيطر على المشهد ثم يضع التوقيع النهائي فيقول:
" إنّ ربي لطيف لما يشاء ".. نعم إنّه اللطيف إذا أراد شيئا هيّأ أسبابه بكامل اللطف وتامّ الخفاء.. حتى إنّه ليقع ما يستحيل في العادة أن يقع.. لأنّه الله اللطيف الخبير..
إذا رأيت الأرض صفراء بلقعاً.. ثم تكوّم السحاب فوقها.. ثم تصافعت الرعود ونزل المطر فاهتزت تلك الأرض واخضرّت فلا تقل إن مثل هذا أمر طبيعي.. وتدبّر: " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير "
مهما تباعدت أحلامك وصار بينك وبينها مفاوز شاسعة فاللطيف يأتي بها: " يا بني إنها إن تك مثال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير ".. فلا تيأس وربّك لطيف لما يشاء..
تأمّل حبّة الخردل .. إنّك لا تكاد تراها إن لم تكن محدّقا فيها.. انظر إلى حجمها بالنسبة لكفك.. ثم بالنسبة لحجم غرفة مثلا.. ثم بيت.. ثم قارن حجمها بحيّك.. ثم بمدينتك.. ثم بدولتك.. وبعد ذلك بقارّتك.. ثم بالأرض.. ثم بالسماوات الفسيحة.. ثم ثق: إن أرادها الله فسيأتي بها " إن الله لطيف خبير "..
فمن بلغ بلطفه أن يأتي بحبة الخردل من متاهات هذا الكون العظيم.. ألا يمكن للطفه أن يقود قدرا إليك _ كل المقدّمات المنظورة لا توصله إليك.. ولا تدلّه عليك _ بلى والله..
يصل صاحبي في رحلة شاقة متعبة إلى حدود الأردن.. عنده في صباح الغد محاضرات في جامعة مؤتة يجب عليه حضورها، وفي الحدود وبعد قطعه لمسافة مئة كيلو متر يتذكر أن جواز سفره في بيته، نسي جوازه ! يتكدّر ويقرر العودة وعدم السفر ذلك الأسبوع..
في الغد يقرأ في الصحف عن أنّ بعض الطلبة الأردنيين قاموا بأعمال شغب ضد إخوانهم السعوديين في جامعة مؤتة مما أسفر عن جرحى !
اللطيف أنساه الجواز.. حتى لا يرى الدم.. أو حتى لا يصبح الصباح وهو في المستشفى !
ارقب ألطاف اللطيف.. هي ولا شك تترا.. في كل قدر لطف ما.. وفي كل لحظة ألطاف تحوطك من قبل اللطيف الخبير..
انظر لنفسك لحظة أن تدخل الغرفة في اللحظة التي يكاد طفلك أن يسقط فيها من على السرير وتساءل: لماذا الآن بالذات دخلت الغرفة؟
تأمّل ذاتك يوم أن تدخل المطبخ لتشرب الماء فإذا بك تسمع أزيز الكهرباء من فيش الغلاية أو الميكرويف.. فتفصله وأدخنة الحريق كانت في بدايتها.. وتساءل: مالذي أدخلك في هذه اللحظة بالذات.. لماذا لم تتأخر خمس دقائق فقط؟
وبعد هذا الإبحار الهادئ مع هذا الاسم العظيم.. والذي لم نأت إلا على شيء من معناه.. وبقي من خبايا معناه ما أتركه لفهمك وتأمّلك ورجوعك لكتب أهل العلم فيه..
وبعد هذا الإبحار.. ألا يستحق هذا اللطيف أن تحبّه؟ أن تتأمّل عطاياه.. أن تزيد في قلبك من ذكره ومراقبته وحبّه ورجائه وخوفه..
أن تعيش مع هذا الاسم أياما.. تدعوه به.. وترقب ألطافه.. وتفيض عيناك لرؤية خفيّ هداياته وهداياه..
قل في خشوع:
يا خفيّ الألطاف نجّنا مما نخاف..
اللهم يا لطيف الطف بنا.. والطف لنا.. وقدّر لنا من ألطافك الرحيمة ما تقوّم به عوج نفوسنا.. وتهدي به ضال قلوبنا.. وتجمّل به شعث حياتنا..
هذا وصلى الله وسلّم على سيّدنا محمد..
مختارات