تابع " البسملة لدى القراء والفقهاء والمحدثين وعلماء عد الآي "
تابع " البسملة لدى القراء والفقهاء والمحدثين وعلماء عد الآي "
تابع المطلب الثالث: البسملة عند الفقهاء والمحدثين
رابعًا: الجمع بين أدلة الجهر والإسرار:
أي: الجمع بين أدلة الجهر بالبسملة وأدلة الإسرار بها في الصلاة.
يبدو من مجموع الأدلة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالبسملة في أول الدعوة، ثم أسر بها بسبب استهزاء المشركين؛ فقد كانوا إذا سمعوه يقرأ البسملة في الصلاة وفيها: " الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ " قالوا: لا نعرف إلا رحمن اليمامة، يعنون (مسيلمة الكذاب) فكانوا يسمونه (رحمن اليمامة).
فأُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفض صوته بالقراءة في قوله تعالى: " وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا " (والحديث أخرجه الطبراني في «الكبير» و«الأوسط» عن سعيد بن جبير، قال: الهيثمي في «مجمع الزوائد» رجاله موثقون، وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة في «المصنف» والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس) [الإسراء: 110] ونص الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ: " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ " يستهزئ منه المشركون، ويقولون: (محمد يذكر إله اليمامة) (أخرجه الدار قطني والطبراني في «الأوسط» وأخرجه البخاري من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية: " وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا " ورسول الله مختف بمكة، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن... الحديث في «المسند» )؛ فيكون المراد بـ(صلاتك) في الآية (البسملة).
وهذا لا يتعارض مع عموم الأمر بخفض الصوت في الصلاة بالقراءة كما في الروايات الأخرى لأسباب النزول (انظرها في «الدر المنثور»)، فإن البسملة من القراءة في الصلاة.
قال الحكيم الترمذي: وقد استمر العمل على ذلك بخفض الصوت بالبسملة إلى يومنا، مع عدم النسخ وزوال العلة، فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذكر الرسم، وإن زالت العلة (نقلاً من «الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد» بتصرف).
ويستفاد من ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلمكان يجهر بالبسملة في أول الدعوة، ولما استهزأ المشركون منه أسر بها، ولما هاجر إلى المدينة كان يجهر بها تارة ويسر أخرى، واختلفت الروايات بناء على ذلك، وحمل أحاديث الإسرار بها على ما بعد ذلك مع زوال العلة وعدم النسخ، وهو من باب الاختلاف المباح.
ويمكن حمل أحاديث الإسرار بها أيضًا على أن النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته بسورة الحمد لا بلفظ " الْحَمْدُ " وفيه تمسك بظاهر الحديث، ويقال لسورة الفاتحة: سورة الحمد، ولا يقال لها: سورة البسملة.
قلت: والمتأمل في أحاديث أنس في الباب يجد أنها نقلت الإسرار والجهر، وكلاهما صح من طرق، فدل هذا على جوازهما معًا، وقد تمسك أهل كل بلد بما جاء في مذهبهم، وربما تعصبوا له، وهذه هي مذاهبهم في الجهر بالبسملة في الصلاة وغيرها:
1- قيل: يُسن الجهر بالبسملة، كقول الشافعي ومن وافقه.
2- وقيل: لا يسن الجهر بها، كما هو قول الجمهور من أهل الحديث والرأي وفقهاء الأمصار.
3- وقيل: يُخير بين الجهر والإسرار، كما يُروى عن إسحاق، وهو قول ابن حزم وغيره (انظر: «مجموع الفتاوى»).
وقال ابن القيم: وكان النبي صلى الله عليه وسلميجهر بـ " بِسْمِ اللهِ " تارة، ويخيفها أكثر مما يجهر بها («زاد المعاد» بتحقيق شعيب وعبد القادر الأرناؤوط).
وقد أجمع العلماء على صحة صلاة من أسر ومن جهر بالبسملة (تفسير ابن كثير) على أن الجهر الدائم بالبسملة، يوحي بأن الإسرار بها لا يجوز، والإسرار الدائم بالبسملة يوحي بأن الجهر بها بدعة، فالأولى أن يسر بها تارة ويجهر بها أخرى جمعًا بين الأدلة.
خامسًا: بين القراء والفقهاء:
1- لم يرو عن أحد من أئمة القراءة جواز ابتداء القراءة في أول السورة بدون البسملة سوى براءة، واختلافهم في ذلك إنما هو في حالة وصل السورتين معًا، فمنهم من أثبتها، ومنهم من حذفها.
واتفقوا جميعًا على قراءة البسملة في أول الفاتحة وإن وصلت بغيرها.
2- ولا خلاف في أن البسملة كتبت في أول كل سورة في المصحف سوى براءة، وأن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على ذلك، ولم يكتبوا في المصحف مثلًا (آمين) أو (صدق الله العظيم).
3- وموافقة رسم المصحف شرط في صحة القراءة، وقد كُتبت البسملة في ثلاث عشرة ومئة سورة، وهؤلاء الأئمة الأعلام أئمة القراءات هم أهل الرواية المنقولة بالسماع والتلقي، شيوخًا عن شيوخ، في التلاوة والأداء، حتى وصل إلينا السند بالتواتر القطعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4- وعلى ذلك فإن مذهب الإمام مالك ومن معه في أن البسملة ليست آية أصلًا لا من الفاتحة ولا من غيرها لا يوافق قاعدة أصولية، ولا قراءة صحيحة، والقول بأنها ليست قرآنًا لا يتفق مع أمر النبي صلى الله عليه وسلم لكتاب الوحي قائلًا لهم: «اجعلوها في أول كل سورة»، ويخالف رسم المصحف، وهو شرط في صحة القراءة، كما يخالف إجماع الصحابة وأئمة القراءة، وهم الناقلون للبسملة بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجوه القراءات مقدمة على أقوال الفقهاء؛ لأن الفقه يستنبط منها، والقراءات قرآن منزل من عند الله تعالى.
سادسًا: بين قراءة حمزة ومذهب مالك:
1- من الثابت أن (حمزة الكوفي) وهو من القراء السبعة و(خلف العاشر) وهو آخر القراء العشرة، كل منهما يبتدئ القراءة بالبسملة كسائر القراء في أول السورة، لاسيما الفاتحة، ولكنهما يسقطان البسملة حالة وصل السورة بالسورة؛ لأن البسملة عندهما ليست آية معدودة من أول كل سورة، وإنما هي للتبرك والفصل، أما الإتيان بالبسملة في أول السورة فليعلم انتهاء السورة السابقة وابتداء السورة الآتية.
2- وعلى هذا: فلا مطعن في قراءة حمزة وخلف بالموازنة مع مذهب مالك، للفرق بينهما وبين مذهبه، ومالك لا يعد البسملة آية مطلقًا لا من الفاتحة ولا من غيرها.
3- وجميع القراء بما فيهم (حمزة وخلف) اتفقوا على الإتيان بالبسملة في أول الفاتحة، وإن وصلت بغيرها، والرواية المذكورة عن (حمزة وخلف) بوصل السورتين بدون البسملة بينهما، إنما تتناول جميع سور القرآن عدا الفاتحة.
4- قال الإمام ابن الجزري: ولذلك لم يكن بينهم – أي القراء – خلاف في إثبات البسملة أول الفاتحة سواء وُصلت بسورة قبلها أم ابتدئ بها (النشر في القراءات العشر).
الخلاصة:
1- تقرأ البسملة في القراءة السرية، ومنها الصلاة بإجماع القراء والفقهاء، إلا مالكًا.
2- وتقرأ جهرًا بإجماع القراء واختلاف الفقهاء عند ابتداء السور، ولاسيما الفاتحة، في الصلاة الجهرية وخارج الصلاة.
3- يفصل بين السورتين بالبسملة؛ لصحة الدليل في ذلك؛ ولكون البسملة نزلت للفصل والتبرك؛ ولكتابتها في المصحف.
4- البسملة آية من الفاتحة، ويؤتى بها للفصل بين السورتين بعدها.
5- يؤتى بالبسملة جهرًا في الصلاة حال وصل السورة بالسورة للإشعار بانتهاء سورة وبدء سورة أخرى.
6- يؤتى بالبسملة في أول السورة اتفاقًا، ووسطها اختيارًا، وبين السورتين للفصل بينهما، وأثناء سورة التوبة.
7- الأوجه التي بين الأنفاق وبراءة ليس فيها بسملة؛ لعدم تواتر الرواية بنزول البسملة في أولها؛ ولعدم كتابتها في المصحف.
8- بعض الفقهاء يعد البسملة آية في القرآن الكريم، وبعضهم يعدها آية في الفاتحة فقط، وبعضهم يجعلها آية للفصل غير معدودة في القرآن كله، وبعضهم لا يجعلها آية لا في العد ولا للفصل، وهو يجانب الصواب.
9- من القراء من بسمل بين السورتين حال وصلهما، ومنهم من سكت بينهما بدون تنفس، ومنهم من وصلهما بدون البسملة.
10- عدم الإتيان بالبسملة جهرًا في أول الفاتحة أحيانًا، وحال وصل السورة بالسورة في الصلاة وغيرها، يشعر بأن قراءتها جهرًا بدعة، وهو مجانب للصواب، وفيه تعصب للمذهب، وترك للأخذ بالأدلة.
مختارات