الآفة الخامسة عشرة - سوء الظن
والآفة الخامسة عشرة التي يبتلى بها نفر من العاملين، وتصيبهم، وتصيب العمل الإسلامي بآثار مهلكة، وعواقب وخيمة، إنما هي: " سوء الظن ". وحتى يتخلص من هذه الآفة من ابتلوا بها، ويتجنبها من سلمهم الله منها، فإننا سنتناولها من الجوانب التالية: أولا: تعريف سوء الظن: يطلق الظن لغة على معان عدة نذكر منها: 1 - الشك، تقول: بئر ظنون: لا يدرى أفيها ماء أم لا؟، ومنه قوله تعالى: {من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيـده ما يغيظ} (الحج: 15). 2 - التهمة، تقول: أظنَّ به الناس، تعني: عرضه لتهمتهم، ومنه قوله تعالى: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا} (الأحزاب: 10)، {اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} (الحجرات: 12). 3 - الحسبان أو ا لعلم بغير يقين، تقول: ظننت الشمس طالعة أي حسبتها أو علمتها علما غير يقيني، ومنه قوله تعالى: {وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} (الأنبياء: 87)،{وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله} (الحشر: 2)، {ومالهم به من علم إن يتبعون إلا الظن} (النجم: 28). 4 - اليقين، تقول: ظن فلان الشيء بمعنى تيقنه، ومنه قوله تعالى: {واستعيوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعـون} (البقرة: 45، 46)، {فأما من أوتى كتابه يمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أنى ملاق حسابيه} (الحاقة: 19، 20)، {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} (المطففين: 1-5). () ولا تعارض بين هذه المعاني جميعا، إذ هي تصوير لمراتب الظن من بدايته إلى نهايته، وكأن الظن: إنما هو تخمين أو هاجس أو خاطر يقع في النفس لأمارات تظهر، وقرائن تبدو، فإذا قويت، وتأكدت هذه الأمارات، وتلك القرائن أثمرت علما يقينياً أو تصديقا قطعيا، وإذا ضعفت أو تلاشت لم تثمر إلا مجرد الشك أو التوهم، أو العلم الغير يقيني. والسوء لغة يطلق على معنيين: الأول: أن السوء هو كل ما يقبح أو ما يقابل الحسن، قال تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون} (الأنعام: 160)، {ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء} (الأعراف: 95)،{ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة} (الرعد: 6). الآخر: أن السوء هو كل ما يغم الإنسان من أمور الدارين سواء أكان في نفسه أو في غيره. () ولا تعارض بين المعنيين، إذ القبيح أو الشر يعود على النفس بالهم والغم، والقلق الاضطراب النفسي كما قال سبحانه: {ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا} (الجن: 17)، {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} (طه: 124). وإذ قد عرفنا معنى: " الظن " ومعنى " السوء " كل على حدة فإننا نقول: إن سوء الظن هو تخريص أو تخمين ينتهي بوصف الغير بما يسوءه ويغمه من كل قبيح من غير دليل، ولا برهان. ثانيا: مظاهر سوء الظن، ووضعه في ميزان الإسلام: لسوء الظن مظاهر عدة، وأمارات كثيرة تدل عليه، نذكر منها: 1 - القعود عن نصرة دين الله - عز وجل - في الغير أو في النفس وفي الغير معاً بدعوى أننا أهل الله وأولياؤه، وقد عملنا طويلا وتعبنا كثيرا وما حصلنا من وراء ذلك نصرة على أعدائنا بل على العكس كانت الشدائد والامتحانات شدة بعد شدة، وامتحانا بعد امتحان، كما حكى الله - عز وجل- عن نفر من الناس يوم أحد: {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم مالا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا} آل عمران: 154، أو بدعوى أن ذنوبنا كثيرة لن تغفر، ولا يمكن أن تغفر. 2 - الولوغ في المعاصي والسيئات بدعوى أن الله لا يرى، ولا يعلم، كما قال سبحاته:{وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين} (فصلت: 23)، أو بدعوى أنه لا بعث، ولا حساب كما قال سبحانه: {وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحـــدا} الجن: 27، {ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا}الكهف: 35، 36، {ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى} فصلت: 50. 3 - توقع هلاك المؤمنين، واستئصال شأفتهم أمام كثرة العدو عددا وعتادا مع تقدم هذا العدو، ونبوغه، كما قال سبحانه عن المنافقين وموقفهم من المؤمنين يوم الحديبية: {بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا} الفتح: 12. 4 - الرجاء أو الخوف من الخلق ظنا أنهم يعطون ويمنعون، ينفعون ويضرون. 5 - التقصير في عمل من أعمال البر المعروفة، مثل عيادة المريض، وتشييع الجنائز، ورد السلام، وإجابة الدعوة، وبذل النصيحة، وتشميت العاطس، ومساعدة ذوي الحاجة، وإماطة الأذى عن الطريق، والتزاور ونحوها لأسباب خارجة عن الإرادة، مثل السفر أو المرض، أو القيام بواجب أكبر، أو عدم العلم، أو غير ذلك فيظن سيئ الظن أن هذا التقصير نشأ من التكبر والاستعلاء أو من الاحتقار وعدم الاهتمام، أو من البخل والشح، وهكذا. 6 - القيام بأعمال البر المعروفة من: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدقات، وإرشاد الناس وتعليمهم والإصلاح بين المتخاصمين ونحوها، فيظن سيئ الظن: أنه إنما يفعل ذلك رياء أو شهرة أو طمعا في مغنم، والحقيقة أن البار ما كان يفعل ذلك إلا لأنه المعروف الذي دعانا الله إليه، وحذرنا من تضييعه والتفريط أو التقصير فيه. ولقد حكى لنا القرآن الكريم ما كان يصنعه المنافقون مع المتصدقين من المسلمين، إذ كانوا يقولون: إنهم يصنعون ما يصنعون للرياء والشهرة، فأنزل الله فيهم قوله سبحانه: {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم} التوبة: 79. 7 - إتقان السعي المعاشي من تجارة أو صناعة أو زراعة ونحوها، امتثالا لما أمر الله - عز وجل - به من السعي والضرب في الأرض في قوله: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} الملك: 15، {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} الجمعة: 10، فيظن سيئ الظن أن هذا تكالب، وتهافت وحب للدنيا وبغض للآخرة. 8 - إتقان الشعائر التعبدية من صلاة وزكاة وصيام وحج، وقراءة للقرآن، وذكر، ودعاء، واستغفار ونحو ذلك، فيظن سيئ الظن أن هذه رهبانية وعزلة أو انقطاع للعبادة وترك للحياة الدنيا. 9 - الحرص على الحياة في الوقت الذي يقتضي الحرص على الحياة، والإقدام على الموت في الوقت الذي يقتضي الإقدام على الموت كما أمر الإسلام بذلك، فيظن سيئ الظن أن هذا جبن وأن ذاك تهور، إلى غير ذلك من المظاهر الدالة على سوء الظن. ولقد حرم الإسلام سوء الظن بالله وبرسوله وبالمؤمنين المعروفين بصلاح الحال واستقامة الخلق، ونظافة السيرة، وإن وقع منهم تقصير في معروف أو تجاوز لمباح أو خدش لمروءة، وأمر بتدارك هذا التقصير، أو هذا التجاوز والخدش عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون أن يتغير قلب المسلم على أخيه المسلم قيد شعرة، ولو للحظة واحدة، إذ يقول سبحانه: {إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} الأنعام: 11،{وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا} يونس: 36، {يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} (الحجرات: 12). وإذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث "، () " يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي "، () " لايموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى "، () "... ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على شفير جهنم يرعد السعفة في يوم عاصف، فجاءه رجاؤه في الله - عز وجل-فاستنقذه من ذلك ومضى ". () وأوجب سوء الظن بكافر معلن بكفره وعداوته لله ولرسوله وللمؤمنين، وإن وقع منه معروف أو عمل من أعمال البر، لأنه إذا كان قد أنكر وجود الله أو وحدانيته، وخان نعمه التي تغمره من أعلاه إلى أدناه، فكيف يفي لنا، ويصدق معنا، وصدق الله العليم بالنفوس وخفاياها إذ يقول: }يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم} (التوبة: 8)، }يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون} (آل عمران)، {وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ} (آل عمران: 119). وكذلك وجوب سوء الظن بمسلم عرف عنه المجاهرة بالمعصية، والصد عن سبيل الله، وعدم الالتزام بالإسلام، لجواز أن يكون أداة في أيدي الكافرين لتنفيذ مخططاتهم ومؤامراتهم على الإسلام والمسلمين، كما يشهد بذلك الواقع اليوم، ويكون سوء الظن بهؤلاء حينئذ من باب الحذر والحيطة، اتقاء لشرهم، وإبطالا لكيدهم ومؤامراتهم. إذ كان من هديه صلى الله عليه وسلم حين يدخل عليه الغريب من الناس أن يحذره ويحترس منه من غير أن يطوي عنه بشره ولا خلقه. وهكذا يدور سوء الظن بين الحرمة والوجوب، وأما الأحاديث التي وردت في الدعوة إلى سوء الظن بإطلاق فإنها ضعيفة ولا تصح مثل: " من حسن ظنه بالناس كثرت ندامته "، () " الحزم سوء الظن "، () " احترسوا من الناس بسوء الظن ". () ثالثا: أسباب سوء الظن. ويوقع في سوء الظن أسباب كثيرة، وبواعث عدة، نذكر منها: 1 - سوء النية وخبث الطوية: كأن ينشأ الإنسان تنشئة غير صالحة فيقع كثيرا في المعاصي والسيئات حتى تورثه تلك المعاصي وهذه السيئات سوء الظن بمن ليس أهلا له، ويصبح ذلك مظهرا من مظاهر سوء النية وخبث الطوية، كما قال سبحانه وتعالى: {ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا} (الفتح)، {بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا} (الفتح)،{وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء} (آل عمران: 154)، {وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئاً} (يونس: 36)، {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا} (الأحزاب: 10). 2 - عدم التنشئة على المبدأ الصحيح في الحكم على الأشياء و الأشخاص ذلك أن المبدأ الصحيح في الحكم على الأشياء والأشخاص إنما يتمثل في: أ - النظر إلى الظاهر وترك السرائر إلى الله، فهو وحده المطلع عليها العليم بكل ما فيها، فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار ". () وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أقال لا إله إلا الله، فقتلته؟ " قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح، قال: لا أفلا شققت عن قلبه، حتى تعلم أقالها أم لا " فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ... الحديث. () ب - والاعتماد على الدليل أو البرهان قال تعالى: {قل هـاتوا برهـانكم إن كنتم صـادقين} (البقرة: 111)، {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء} (النور: 13). ج - والتأكد من صحة هذا الدليل أو ذلك البرهان، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا} (النساء: 94)، {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} (الحجرات: 6). د - وأخيرا عدم معارضة الأدلة، أو البراهين لبعضها البعض، هذا هو المبدأ الصحيح في الحكم على الأشياء والأشخاص، ومن يربى على غير هذا المبدأ فإن أموره وأحكامه كلهما تبنى على الظنون والأوهام التي قد تصيب مرة وتخطيء مائة مرة ومرة، ولقد أشار القرآن إلى هذا السبب وهو يناقش المشركين في دعواهم أن وقوعهم في الشرك من الله، قائلين: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} (الأنعام: 148)، فرد عليهم سبحانه بقوله: {كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعـون إلا الظن وإن أنتم إلاّ تخرصـون} (الأنعام: 148). 3 - البيئة قريبة كانت أو بعيدة: وقد ينشأ المرء في بيئة معروفة بسوء الخلق، ومنه سوء الظن، سواء أكانت هذه البيئة قريبة - ونعني بها البيت - أم بعيدة - ونعني بها الأصدقاء - فيتأثر بها، ولا سيما إذا كان في مرحلة الحضانة أو البناء والتكوين، ولما يصلب عوده ويحصن بعد ضد هذه الأخلاقيات وتلك السلوكيات، وحينئذ يصاب بسوء الظن. ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أثر البيئة على الإنسان عندما قال: " ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء " ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الــدين القيم} (الروم: 30) () " إنما مثل الجليس الصالح، وجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا منتنة ". () 4 - اتباع الهوى: ذلك أن الإنسان إذا اتبع هواه حتى صار هذا الهوى إلهه الذي يعبده من دون الله، فإنه يقع لا محالة في الظنون الكاذبة التي لا دليل عليها ولا حجة، ولا برهان؛ نظرا لأن حب الشيء يعمي ويصم، كما أن البغض يستوجب التماس العثرات، وتصيد الأخطاء، فمثلا إذا مال الإنسان بهواه إلى آخر فإن هذا الميل ينسيه أخطاءه ويحمله على تحسين الظن به، وإن كان مخطئا في الواقع، ونفس الأمر، وإذا أبغض الإنسان آخر لأنه لا يميل إليه بهواه، ولم يكن هذا الإنسان منصفا، فإن هذا البغض يحمل على سوء الظن، وما يتبعه من التماس العثرات وتصيد الأخطاء وإن كان مصيبا في الواقع ونفس الأمر، من باب: وعين الرضا عن كل عيب كليلة وعين السخط تبدي المساويا وقد لفت الحق تبارك وتعالى الأنظار إلى هذا السبب حين قال: {إن يتبعون إلاّ الظن وما تهوى الأنفس}(النجم: 23)، {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين} (القصص: 50) {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله عن علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون} (الجاثية: 23). 5 - الوقوع في الشبهات: وقد يكون الوقوع في الشبهات عن قصد، أو عن غير قصد، بل وعدم تبرير الوقوع في هذه الشبهات إن كانت عن غير قصد، أو غير تعمد من الأسباب التي تغري الآخرين أن يقعوا في سوء الظن، ولعل هذا بعض أسرار تأكيده صلى الله عليه وسلم على البعد عن الشبهات إذ يقول: " الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه "، () " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة ". () بل وضربه صلى الله عليه وسلم المثل من نفسه لنقتدي به ونتأسى في البعد عن كل شبهة، إذ تقول السيدة صفية بنت حيي أم المؤمنين رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا، فحدثته، ثم قمت لأنقلب فقام معي ليقلبني - وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد - فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " على رسلكما، إنها صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله، قال: " إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا- أو قال: شيئا ". () 6 - عدم مراعاة آداب الإسلام في التناجي: ذلك أن الإسلام أدبنا: أنه إن كان ولا بد من التناجي لصلاح الحياة واستقامة الحال، فإن هناك آداباً يلزم مراعاتها وهذه الآداب هي: أ- حرمة انفراد اثنين فما فوقهما بالنجوى دون الآخر حتى يوجد معه من يناجيه أو يختلط الجميع بالناس، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: " إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه ". () ويدخل في هذا الأدب: حرمة تناجي اثنين فما فوقهما دون الجماعة بلسان غير لسان الجماعة، لاتحاد العلة، وللمشابهة المتمثلة في الإحزان والإغضاب. ب - وأن تكون النجوى في الطاعة والمعروف، لا في المعصية والمنكر، إذ يقول سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا}(المجادلة: 9). ج- وأن تكون النجوى في أمر مهم لا يتم ولا يبرم إلا بعيدا عن أعين المرجفين، والمفسدين في الأرض. تلكم هي آداب الإسلام في التناجي، ومن يهملها أو لا يلتزم بها يمكن أن يفتح الطريق على نفسه لتتسرب إليها الظنون والأوهام الكاذبة التي لا دليل عليها، ولا برهان. 7 - الوقوع في المعاصي والسيئات ولا سيما مع المجاهرة أو الإعلان: فقد يقع الإنسان في المعاصي والسيئات وتصل به الحال إلى أن يجاهر أو يعلن بها، وحينئذ يفتح الباب أمام الآخرين ليظنوا به سوءا، نظرا لأنه خان نعمة الله عليه، ولم يقابلها بالعرفان والشكر، وإنما قابلها بالجحود والنكران، فكان أجدر أن يخافه الناس وأن يظنوا به سوءا أو شرا. ولهذا وغيره دعا الإسلام إلى الإسرار بالمعصية إن كان ولا بد من اقترافها فقال صلى الله عليه وسلم: " كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه ". () 8 - نسيان الحاضر النظيف والوقوف مع الماضي الدنس: فقد يفتتح الإنسان حياته بالوقوع في الرجس والدنس من المعاصي والسيئات، ثم يتوب الله عز وجل عليه فيقلع عن هذه المعاصي، وتلك السيئات، ويواظب على المعروف من البر والطاعات. ويأتي من ينسى أن قلوب العباد جميعا بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء، ويأخذ في تقييم هذا الصنف - الذي عصى ثم تاب الله عليه فتاب - من خلال ماضيه السيء، وليس من خلال حاضره النظيف، وحينئذ يجد الشيطان مدخلاً يدخل منه لتحريك الظنون الكاذبة والأوهام الباطلة التي لا دليل عليها، ولا برهان، ويعمل على تنميتها، حتى تصير خلقاً يتحرك به صاحبه بين الناس. ولقد علمنا الله في كتابه وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه سبحانه يتجاوز عن العبد ما دام قد تاب وصحت التوبة، إذ يقول سبحانه: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يُضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مُهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما}(الفرقان: 68- 70). وإذ يقول صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص وقد جاء يبايعه وأراد أن يشترط في البيعة مغفرة ما مضى من ذنوبه، يقول له: " أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله ". () وعن ابن عبا س: أن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو لحسن، ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما} (الفرقان: 68)، ونزل:{يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} () (الزمر: 53). 9 - الغفلة أو نسيان الآثار المترتبة على سوء الظن: وأخيرا فإن الغفلة أو نسيان الآثار المترتبة على سوء الظن قد تكون من بين الأسباب التي تؤدي إلى التردي في هذه الآفة، إذ الإنسان إذا غفل أو نسي عاقبة شيء تردى فيه، وإن كان فيه حتفه وهلاكه، قال تعالى: {ولكن متّعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا(الفرقان: 18). رابعا: آثار سوء الظن: ولسوء الظن آثار ضارة، وعواقب خطيرة يصطلي بنارها الفرد، وتصطلي بنارها الجماعة ودونك طرفا من هذه الآثار وتلك العواقب: أ - على الفرد: فمن آثار وعواقب سوء الظن على الفرد: 1 - الوقوع في المعاصي والسيئات: فقد يؤدي سوء الظن بصاحبه حين يريد أن يتحقق أو يتأكد من صحة ما ظن، أن يقع في سلسلة طويلة من المعاصي والسيئات، تسلم كل واحدة إلى التي تليها، مثل: التجسس أو التحسس، الغيبة، النميمة، التحاسد، التباغض، التدابر، التقاطع، الفرقة، وهلم جراً. وقد لفت القرآن الكريم والسنة النبوية النظر إلى هذا الأثر وهذه العاقبة حين ذكرا سلاسل المعاصي والسيئات مقترنة بسوء الظن في قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} (الحجرات: 12)، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: " إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ". () 2 - القعود عن أعمال البر والطاعات فضلا عن القلق والاضطراب النفسي: إذ الوقوع في سلاسل المعاصي والسيئات التي ذكرنا تكون سبباً في سواد القلب فيمرض فيقسو أو يموت فيقفل، ويختم عليه فيكون القعود عن الطاعات وأعمال البر، فضلا عن القلق والاضطراب النفسي وصدق الله العظيم: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم }(البقرة: 225)، {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية}(المائدة: 13). ويتأكد القلق والاضطراب النفسي من جانب آخر، وهو أن سيئ الظن يوجه كل ظنونه إلى ما يحمي به نفسه وعرضه وماله، وعشيرته، فتراه يتوهم أن الناس يتآمرون عليه لقتله أو هتك عرضه أو سلب ماله أو أنهم يحتقرونه، ولا يلقون له بالا ولا يقيمون له وزنا، ومن ثم يحيا قلقا من داخله، لا ينعم بأمن ولا باطمئنان نفسي: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا}، (طـه: 124)، {ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعداّ} (الجن). 3 - الحسرة والندامة: فقد ينتهي سوء الظن بصاحبه بعد البحث ومحاولة التحقق أو التأكد إلى عكس ما توهم، وهنا تكون الحسرة والندامة إن كانت لا تزال هناك بقية من خير في الفطرة. وعلى سبيل المثال لا الحصر: نجد أن الذين ظنوا بأم المؤمنين عائشة وصفوان بن المعطل ظن السوء، من أمثال حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وغيرهما، أصابتهم الحسرة وعمتهم الندامة لما نزلت البراءة لعائشة من السماء، وتمنوا لو أنهم لم يكونوا ولدوا حتى هذا اليوم، بل لقد ظلت الحسرة والندامة شبحاً مخيفا يلاحقهم في كل مكان حتى لقوا ربهم. 4 - كراهية الناس ونفورهم من أصحاب الظن السيء: ذلك أن الناس حين يعرفون عن واحد من الناس أنه سيئ الظن، وأن ظنونه هذه تنتهي إلى مجرد اتهام لا دليل عليه ولا برهان، ينفرون منه ويكرهونه أشد الكراهية، سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا، وماذا جنى المرء إذا كرهه الناس، ونفروا منه، والإنسان مدني بطبعه، كما أنه قليل بنفسه كثير بإخوانه. 5 - تضييع العمر فيما لا يفيد: ذلك أن سيء الظن يظل طول حياته يجري وراء هذه الظنون بغية المتحقق والتأكد من صحتها، وغالبا ما تكون كاذبة، فيكون قد ضيع عمره بددا، وحتى لو كانت صادقة فقد اطلع على ما يؤذي ويؤلم ويبقى خاسرا في الحالين. 6 - التعرض للغضب والسخط الإلهي: وفوق ما قدمنا فإن سوء الظن وما يترتب عليه من أعمال تؤكده أو تبطله يكون سببا في التعرض للغضب والسخط الإلهي، ومن يطيق غضب الله وسخطه وهو سبحانه يقول: {ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى} (طه:81). ب - على الجماعة: ومن آثار وعواقب سوء الظن على الجماعة: 1 - الفرقة وتمزيق الصف: ذلك أن شيوع سوء الظن يؤدي إلى أن يتراشق الناس بالتهم، ثم يسحبوا الثقة من بعضهم فيتباغضون، ويتدابرون، ويتقاطعون، الأمر الذي يؤدي إلى ذهاب ريحنا ونسلنا في مواجهة العدو، وذلك هو العذاب العظيم الذي حذرنا الله في أسبابه فقال: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} (آل عمران: 105-106). 2 - طول الطريق مع كثرة التكاليف: وكذلك إذا جثم العدو على صدرنا بسبب الفرقة التي هي من آثار سوء الظن، فإن التكاليف تكثر، والطريق تطول، إذ ليس من السهل أن يخلي العدو لنا طريقنا، وإنما يحتاج إلى جهاد ومجاهدة وصبر ومصابرة ومثابرة ومرابطة حتى يزحزح ويزاح من طريق الناس، وليلة تحت قيادة العدو تحتاج منا إلى تكاليف وتضحيات لسنة، لمحو آثار الشر التي غرسها في هذه الليلة وصدق الله: {إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون} (الممتحنة: 2). وحتى يدرك القارئ خطورة هذه الآثار نضع بين يديه نماذج أخرى غير ما قدمنا: - كان أحد الموظفين في بعض المؤسسات الخاصصة قد طلب من صاحب المؤسسة قرضاً لفرش وتجهيز سكناه، وحدد مقدار القرض الذي يريد، وإذا بصاحب المؤسسة يوافق على ثلاثة أثمان ما طلب فقط وأصر على ألا يزيد، في الوقت الذي يمنح من هم دونه منزلة وإحسانا القرض الذي يريدون، وعجبنا لصنيع صاحب المؤسسة، وظننا أنه يكره طالب القرض، ويريد التضييق عليه حتى يترك العمل، وبسؤال صاحب العمل أجاب أن هذا الموظف كبير في السن وليست له امرأة، وبحاجة إلى من يعينه على أمره، وهو الآن يقيم في دار ابنه المتزوج، وقد منحنا الابن سكنا به فسحة وسعة من أجل أبيه، وصرحنا بما صرحنا به من قرض ليتمكن من تجهيز غرفة خاصة به ضمن سكن ولده، ولو أعطيناه القرض الذي أراد لساعده ذلك على تجهيز سكن مستقل عن ولده ونحن لا نريد له ذلك لأنه كبير، ووجوده مع ولده خير له ألف مرة من عيشه لحاله. فانظر كيف ساء ظننا بصاحب العمل، وبالبحث والتحري تبين أنه لا يريد بما صنع إلا الخير على النحو الذي شرحنا. - قال عبيد بن عمير: بينما عمر بن الخطاب يمر في الطريق فإذا هو برجل يكلم امرأة فعلاه بالدرة، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما هي امرأتي، فقال له: فلم تقف مع زوجتك في الطريق تعرضان المسلمين إلى غيبتكما؟ فقال: يا أمير المؤمنين، الآن قد دخلنا المدينة ونحن تتشاور أين ننزل، فدفع إليه الدرة، وقال: اقتص مني يا عبد الله، فقال: هي لك يا أمير المؤمنين، فقال: خذ واقتص، فقال بعد ثلاث: هي لله، قال: الله لك فيها. () - ومر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم ففقال لرجل عنده جالس: " ما رأيك في هذا؟ " فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما رأيك في هذا؟ " فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا خير من ملء الأرض مثل هذا ". () - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لمم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج. وكان جريج رجلا عابدا فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتته أمه، وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: يا رب، أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أي رب، أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أي رب، أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات، فتذاكر بنو إسرائيل جريجا، وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه، فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه، وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك، قال: أين الصبي؟ فجاءوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتت الصبي فطعن في بطنه، وقال: يا غلام، من أبوك؟ قال: فلان الراعي، فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا. وبينما صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب على دابة فارهة، وشارة حسنة فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي، وأقبل إليه، فنظر إليه، فقال؟ اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديه، فجعل يرتضع) يقول راوي الحديث: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه بأصبعه السبابة في فيه، فجعل يمصها. قال: " ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون: زنيت سرقت وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع، ونظر إليها، وقال: اللهم اجعلني مثلها. فهنالك تراجعا الحديث. فقالت: مر رجل حسن الهيئة فقلت: اللهم اجعل ابني مثله، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، ومروا بهذه الأمة، وهم يضربونها ويقولون: زنيت سرقت، فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلت: اللهم اجعلني مثلها، قال: إن ذلك الرجل كان جبارا. فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها: زنيت، ولم تزن، وسرقت ولم تسرق فقلت: اللهم اجعلني مثلها ". () - وقال علي رضي الله عنه: أكثروا على ماريية أم إبراهيم في قبطي ابن عم لها يزورها ويختلف إليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خذ السيف فانطلق فإن وجدته عندها فاقتله " قال: قلت: يا رسول الله، أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكة المحماة، لا يثنيني شيء حتى أمضي لما أمرت به، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب لا فأقبلت متوشحا السيف فوجدته عندها، فاخترطت السيف، فلما رآني عرف أني أريده، فأتى نخلة، فرقى فيها ثم رمى بنفسه على قفاه، ثم شال رجليه، فإذا به أجب أمسح، ماله مما للرجال لا قليل، ولا كثير، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: " الحمد لله الذي صرف عنا أهل البيت ". () - ويحكي الدكتور نجيب الكيلاني في كتابه: (المجتمع المريض ص 83- 85) قصة سجين قتل زوجته لظن كاذب، ثم ندم بعد فوات الأوان، فيقول على لسان هذا السجين: " كنت زوجا سعيدا أنعم ببيتي وزوجتي، ولم أكن أرى الحياة إلا باسمة مزدهرة، وأنا بطبيعتي أقنع بالقليل، وأومن بأن الرغيف الذي أحصل عليه هو كنز مقدر علي أن أشكر الله عليه.. كنت سعيدا بحق.. ومرت بي الأيام ناعمة هادئة. ثم جاء اليوم الذي تعكر فيه صفو أحلامي التي كنت أحيا فيها، وذلك حين تناهى إلى سمعي شائعة خيانة زوجتي وأنا يا سيدي من أسيوط، ونحن هناك نرى الشرف أرفع بكثير من أن يمس، ثارت ثائرتي، وخرجت من عملي مسرعا إلى البيت، وهناك رأيت زوجتي ومعها رجل كانا جالسين في صورة لا تثير ريبة أو شك في أن خيانة ما قد وقعت ولكني لم أكن أعرف الرجل، بل إني لم أره من قبل، وكنت حين دخولي أعاني ثورة نفسية عاتية وفي اضطراب شديد. سألت الرجل من يكون؟ فارتبك وتلعثم ولم يحر جوابا، ونظرت إلى امرأتي فرأيت في عينها خوفا مريعا، فجن جنوني وشعرت بدمائي الساخنة تنطلق إلى رأسي، وتركت في نفسي مشاعر عديدة من الشعور بالخيانة والرغبة في الانتقام من هذه المرأة التي أدخلتها قلبي وأطلعتها على سري، فقد كان بيننا عهود. أحسست بكل هذه المشاعر تموج بين جوانحي في لحظات سراع ثم راحت تتلاشى رويدا رويداً إلا شعورا واحدا كئيبا سيطر على خيالي في إصرار، كان هذا الشعور بأني مغفل، نعم مغفل. ورأيت ذلك السكين على المائدة، وكانت زوجتي في أقصى حالات الرعب وكنت أنا ثائرا أصرخ، وأهدد وأقترب منها ولففت ذراعي حول ظهرها ثم ذبحتها ذبح الخراف من غير أن تنبس ببنت شفة، ولكني سمعت عشيقها يرجوني بصوت متحشرج ألا أقتلها ثم غمغم بكلمات كثيرة لم أفهم منها شيئا، ولكني أجهزت عليها تماما، واتجهت إليه ولم يكن مصيره إلا مصير زوجتي. كان هذا الرجل الذي وجدته مع امرأتي يقطن في قرية مجاورة ويدعونه الشيخ محمود، وكان الناس يتبركون به ويلجئون إليه في الملمات، ودعته زوجتي إلى البيت مرات عديدة لأنها كانت لا تخرج مطلقا، دعته ليبرئها من العقم ويدعو لها أسياد السموات والأرض لينقذوها من هذه الأزمة، ولم يكن الذنب ذنبها يا سيدي بل ذنبي أنا، أنا كنت ألومها لأنها لم تنجب لي ابنا يرث قوتي ووجودي.. ثم عرفت أنها بريئة من كل خيانة، وأن الشيخ محمود كان من الأتقياء الصالحين، سيدي أنا معذب فليرحمني الله ". خامسا: علاج سوء الظن: وما دمنا قد وقفنا على حقيقة سوء الظن، وأسبابه، وآثاره، فإن العلاج معروف، ويمكن تلخيصه في الخطوات التالية: 1 - بناء العقيدة السليمة القائمة على تحسين الظن بالله، وبرسوله وبالمؤمنين الصالحين، فإن هذه العقيدة تحرسنا أن نظن ظن السوء بالآخرين من غير مبرر، ولا مقتضى، وحتى لو كان فإننا نبادر بالتوبة والرجوع إلى الله تبارك وتعالى. 2 - التربية على تغذية هذه العقيدة بما يثبتها في النفس وينميها، وذلك بترك المعاصي والسيئات والمواظبة على فعل الطاعات وأعمال البر، فإن التربية بهذه الصورة تجعلنا نتورع أن نقع في سوء الظن بمن ليس له أهلا، وإن وقعنا فالتوبة والندم. 3 - التنشئة على الالتزام بآداب الإسلام في الحكم على الأشياء والأشخاص من: الاعتماد على الظاهر وترك السرائر إلى الله وحده الذي يعلم السر وأخفى، ومن طلب الدليل والبرهان، ومحض ذلك الدليل وهذا البرهان، بل والتأكد من عدم تعارض وتضارب الأدلة مع بعضها البعض، فإن التنشئة بهذه الصورة تحرس الإنسان من التورط في سوء الظن بغير مبرر ولا موجب. 4 - التنشئة على الالتزام بآداب الإسلام في النجوى من عدم تناجي اثنين فما فوقهما دون الآخر حتى يوجد معه من يناجيه أو يختلط الجميع بالناس، ومن كون هذه النجوى في الطاعة والمعروف دون المعصية والمنكر، ومن كونها في أمر مهم لا يصح أن يقضى فيه إلا بعيدا عن سمع وبصر المرجفين، والمفسدين في الأرض. 5 - تجنب الوقوع في الشبهات ثم الحرص على دفع هذه الشبهات إن وقعت خطأ أو عن غير قصد، وقد مرت بنا قصته صلى الله عليه وسلم مع الأنصاريين، حين كان يودع أم المؤمنين صفية، وهو معتكف، وأسرعا السير واستوقفهما قائلا: " إنها صفية بنت حيي ". () وقاس العلماء على ذلك عدة صور فقالوا: - إذا كنت في خلوة مع محرم لك، أو مع أهلكك، ورآك الغير الذي تخشى عليه الشيطان، وجب أن تقول له: هذه أهلي كيلا تعين عليه الشيطان. - وإذا كنت قد صليت في بيتك، ثم جئت المسججد، فوجدت الناس يصلون فصل معهم وتكون الصلاة الثانية نافلة لك، لئلا يتخذ الناس قعودك وهم يصلون ذريعة لإساءة الظن بك وأنك لست من المصلين. جاء في الحديث: عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام شاب، فلما صلى إذا رجلان لم يصليا في ناحية المسجد فدعا بهما فجيء بهما ترعد فرائصهما فقال: " ما منعكما أن تصليا معنا "، قالا: قد صلينا في رحالنا، فقال: " لا تفعلوا، إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام، ولم يصل فليصل معه فإنها له نافلة. () وأمثلة البعد عن مواطن التهم في الإسلام كثيرة جدا، غاية ما في الأمر أنه يجب أن يكون هذا المعنى آكد، وأشد في حق العلماء والمربين، لأنهم أسوة وقدوة لغيرهم من الناس، وأي سلوك أو تصرف محسوب عليهم. يقول ابن دقيق العيد: " وهذا -أي التحرز من كل ما يوقع في التهم - متأكد في حق العلماء ومن يقتدي بهم، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلا يوجب سوء الظن بهم، وإن كان لهم فيه مخلص، لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم، وقد قالوا: إنه ينبغي للحاكم أن يبين وجه الحكم للمحكوم عليه إذا خفي عليه، وهو من باب نفي التهمة بالنسبة إلى الجور في الحكم ". () 6 - الحرص على سلامة البيئة، ولا سيما في مجتمع الأصدقاء، فإن ذلك له دور كبير في علاج سوء الظن وحماية النفس من أن تتورط فيه من جديد. 7 - مجاهدة النفس وقمع الهوى والشهوات، حتى تعرف النفس أنه ليس من السهل توجيه تهمة لأحد من الناس لمجرد ظن أو تخمين لا دليل عليه ولا برهان، وما في الدنيا شيء أعظم من أن يكون هوانا تبعا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول سبحانه: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}(آل عمران: 31). 8 - معاملة التائبين من الناس بحاضرهم لا بماضيهم، وإذا كان الملك الذي أساء هؤلاء وأجرموا في حقه قد تجاوز وعفا فنحن في التجاوز والعفو أولى وأحق، ولا سيما ونحن في المعاصي مثلهم وربما أشد. 9 - دوام النظر في كتب السيرة والتاريخ، ولا سيما تاريخ المسلمين، فإنها مليئة بصور حية عن الظن السيء وآثاره وطريق الخلاص منه، بحيث يسهل على النفس التخلص من هذا الداء. 10 - التذكير الدائم بعواقب سوء الظن في الدنيا والآخرة، وعلى الفرد، والجماعة، فان الإنسان كثيرا ما ينسى، وعلاج هذا النسيان بالتذكير، كما قال سبحانه: {وذكـر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} (الذاريات)، {فذكر إن نفعت الذكرى}(الأعلى).
مختارات