100. العلاء بن الحضرمي
العلاء بن الحضرمي
"يحارب المرتدين في البحرين"
امتطى الكماة (١) الغزاة من طلاب الشهادة متون إبلهم (٢).
واستأنفوا نضالهم المرير مع صحراء الدهناء في الربع الخالي حتى قهروا - بإذن الله وفي سبيله - رمالها المحرقة …
وذللوا مفاوزها (٣) المهلكة …
وروعوا (٤) وحشها الضاري.
وجعلوها تشكو من وقع خطاهم أكثر مما شكوا منها.
وكانوا كلما أوشكوا أن يمسهم الونى (٥) برز لهم قائدهم العبقري الفذ العلاء بن الحضرمي؛ فسكب في أفئدتهم من روحه؛ ما يترعها (٦) عزيمة وتصميما …
وأفرغ فيها من حزمه وعزمه، ما يشعلها حمية (٧) وإقداما …
وذكرهم بفضل الله عليهم، ورحمته بهم في صحراء الدهناء …
فزادهم على إيمانهم إيمانا.
وما زال الجيش المؤمن يواصل كلال الليل بكلال النهار (٨)؛ حتى بلغ البحرين.
وعسكر في ضواحيها …
* * *
لم يضع القائد الملهم لحظة من وقته؛ فبث عيونه (٩) في كل مكان ليتسقطوا (١٠) له الأخبار …
ويستقصوا (١١) له الأحوال.
فعرف أنه ما كاد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه يلحق بجوار ربه حتى هب دعاة السوء يقولون:
لو كان محمد نبيا لما مات.
فارتد أهل البحرين جميعا عن دينهم …
وأسلموا قيادتهم للحطم بن ضبيعة …
ولم يبق منهم أحد على الإسلام إلا أهل قرية واحدة.
هي قرية "جواثا" (١٢).
* * *
وكان من خبر هذه القرية المؤمنة أنه كان فيها رجل من أخيار صحابة الرسول هو: الجارود بن المعلى …
فقد وفد على الرسول الأعظم ﷺ، ونهل (١٣) من هديه ما شاء الله أن ينهل …
ثم عاد إلى قومه، وأقام فيهم يدعوهم إلى الله ﷿ …
ويفقههم بدينه القويم.
فلما رأى قومه قد جنحوا (١٤) إلى الارتداد مع المرتدين جمعهم، وقال:
يا قوم إني سائلكم عن أمر؛ فأخبروني إن علمتموه؟.
فقالوا: سل.
قال: أتعلمون أنه كان لله أنبياء قبل محمد؟.
قالوا: نعم.
قال: فأين هم؟!.
قالوا: ماتوا.
قال: فإن محمدا ﷺ؛ مات كما ماتوا …
وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله …
وأن الله حي لا يموت …
فقالوا: أنت أفضلنا، وأعقلنا، وسيدنا …
وما قلت إلا حقا.
ثم ثبتوا على الإسلام؛ مخالفين في ذلك بني قومهم جميعا.
* * *
عند ذلك حاصرهم الحطم بجنوده، وأحكم عليهم الطوق (١٥).
ومنع عنهم القوت …
وتركهم ليموتوا جوعا من غير حرب ولا قتال.
فلم يثنهم (١٦) ذلك الحصار الشديد عن إيمانهم.
وقال شاعرهم يستنجد بالصديق رضوان الله عليه على البعد:
ألا أبلغ أبا بكر شكاة … وفتيان المدينة أجمعينا
فهل لكم إلى قوم كرام … قعود في "جواث" محصرينا
توكلنا على الرحمن إنا … وجدنا الصبر للمتوكلينا
* * *
ما كاد يصل العلاء بن الحضرمي إلى البحرين حتى أرسل رسولا متخفيا من قبله إلى "جواثا"، وأمره أن يخبر الجارود بقدوم جيش المسلمين، وأن يشد من عزيمته وعزيمة قومه …
وأن يطلب منهم الاستعداد للحظة الحاسمة؛ حين يقرر المسلمون الوثوب على عدوهم.
* * *
أدرك العلاء بن الحضرمي أنه لا طاقة له بقتال الحطم ورجاله، وذلك لكثرتهم وقلة جيشه.
وقوتهم وضعفه …
ووفرة عدتهم وعتادهم (١٧) وشح موارده …
فاحتفر لجيشه خندقا يتترس به.
وكذلك فعل الحطم؛ لأن خوفه من المسلمين لم يكن بأقل من خوف المسلمين منه.
* * *
تذرع (١٨) القائد المسلم المحنك (١٩) بالصبر.
واتخذ الحيطة والحذر …
وظل الفريقان شهرا كاملا؛ يتداولان القتال الخفيف في النهار، ويعودان إلى خنادقهما في الليل.
وقد كان العلاء خلال ذلك مرهف (٢٠) السمع.
حديد البصر.
مشدود الانتباه لكل ما يجري وراء خنادق العدو …
ترقبا للفرصة التي تتيح له الانقضاض (٢١) على عدوه في غفلة من غفلاته.
* * *
وفي ذات ليلة؛ سمعت طلائع المسلمين وعيونه هرجا (٢٢) ومرجا في معسكر العدو …
ورأت - على البعد - حركة غير مألوفة.
فقال العلاء لرجاله: من يأتينا بخبر القوم؟.
فقام إليه رجل يدعى عبد الله بن حذف، وقال:
أنا آتيك بخبرهم أيها الأمير.
فندبه لذلك الأمر، وحذره، وأوصاه، واستودعه الله.
* * *
مضى عبد الله بن حذف نحو خنادق العدو؛ مستترا بجنح الظلام …
واجتاز الخنادق في خفة وحذر.
فلما غدا داخل معسكرهم … نذروا (٢٣) به.
وقبضوا عليه …
عند ذلك؛ جعل يستصرخ مستغيثا وينادي: يا أبجراه؛ يا أبجراه …
والأبجر الذي استغاث به؛ رجل من بني عجل مرموق (٢٤) المكانة في جيش الحطم، وكانت أم عبد الله عجلية.
فجاءه الأبجر وسأله عن نسبه؛ فانتسب له.
وقال له: إنكم أخوالي.
فعرفه وأجاره، واستفسر منه عن أمره؛ فقال:
لقد ضللت طريقي …
ونزلت بين جنودكم فأخذوني أسيرا.
فقال له الأبجر: والله إني لأظنك بئس ابن أخت قوم جاء أخواله.
فقال له عبد الله: دعنا من هذا، وأطعمني؛ فقد قتلني الجوع.
فقدم له طعاما.
فجعل يأكله في أناة ومهل؛ ليتعرف على أحوال القوم …
ويقف على خفايا أخبارهم.
فلما تحقق له ما أراد قال:
زودني (٢٥)، واحملني، وأجزني (٢٦) حتى أبلغ معسكر قومي.
فزوده، وحمله على دابة، وبعث معه من أجازه حتى بلغ مأمنه.
فلما وصل إلى معسكر المسلمين؛ أخبر العلاء بأن القوم يحتفلون بمناسبة من مناسباتهم …
وأنهم قد نثروا دنان (٢٧) الخمور في كل مكان …
وأقبلوا عليها يعبون منها عبا؛ حتى غلب عليهم السكر.
فغدوا بين نائم وواجم (٢٨) …
ومعربد لا يدري ما يفعل.
وأن صاحبه العجلي كان من الفريق الأخير.
* * *
لم يضيع العلاء دقيقة من الوقت سدى …
فأرسل إلى الجارود من يأمره بالهجوم على الأعداء من الخلف …
وانطلق هو بجيشه نحوهم من الأمام؛ انطلاق السهام في غبش (٢٩) الظلام.
واقتحم على الجيش المخمور خنادقه المنيعة (٣٠) من كل صوب …
وأعمل السيوف في رقاب جند العدو من غير هوادة (٣١).
فانجلت المعركة عن شر مستطير (٣٢) للجيش المرتد وقائده الحطم …
أما قائد الجيش؛ فكان نائما حين نزل المسلمون على معسكره نزول الصاعقة.
فلم يوقظه من غيبوبته إلا صليل السيوف، وطعن الرماح …
وأصوات التهليل والتكبير.
فهب مذعورا، وامتطى صهوة جواده.
لكنه ما لبث أن انقطع ركاب سرجه (٣٣)؛ فجعل ينادي:
أنا الحطم … من يصلح لي ركابي؟.
فأقبل عليه أحد جنود المسلمين، وقال له:
ارفع رجلك - أيها الأمير - لأصلحه لك.
فلما رفع رجله أهوى (٣٤) عليه بسيفه فبترها (٣٥) عن جسده بترا …
فسقط على الأرض والدماء تنزف منه، والآلام تكوي كبده كيا.
عند ذلك؛ جعل يسأل كل من يمر به أن يجهز (٣٦) عليه ليتخلص من آلامه … ولينجو من وقع أقدام المنهزمين التي تمر فوقه.
وظل على حاله هذه؛ حتى قتله أحد جنود المسلمين، وهو لا يعرف من حقيقته شيئا.
وأما الجيش؛ فقد حلت به هزيمة ماحقة نكراء (٣٧).
ففريق سقط قتيلا في خنادقه التي احتفرها بيديه؛ فغدت قبورا له …
وفريق وقع أسيرا في أيدي المسلمين.
إلا أن جمهرة الجيش الكبرى لاذت بالسفن الراسية على الشواطئ، وولت الأدبار هاربة إلى جزيرة دارين.
* * *
لقد حرر العلاء بن الحضرمي البحرين، وأعادها إلى حوزة (٣٨) الإسلام …
ولكن أتظن أن في وسع بطل مجاهد مثله أن يطمئن له جنب، أو يغمض له جفن … ما دام المرتدون يسرحون ويمرحون قريبا منه …
متحصنين بجزيرة دارين؟!.
_________
(١) الكماة: الشجعان البواسل.
(٢) متون إبلهم: ظهور جمالهم.
(٣) المفاوز: الصحاري.
(٤) روعوا: أفزعوا.
(٥) الونى: التعب.
(٦) يترعها: يملؤها.
(٧) حمية: شجاعة.
(٨) كلال الليل بكلال النهار: تعب الليل بتعب النهار.
(٩) فبث عيونه: نشر رقباءه.
(١٠) يتسقطوا الأخبار: يتتبعوها ويبحثوا عنها.
(١١) يستقصوا الأحوال: يبلغوا الغاية في البحث عن أحوالهم.
(١٢) جواثا: قرية بالبحرين، وهي أول موضع أقيمت فيه صلاة الجمعة بعد المدينة المنورة.
(١٣) نهل: ارتوى.
(١٤) جنحوا: مالوا.
(١٥) أحكم الطوق: شدد الحصار.
(١٦) يثنهم: يرجعهم ويردهم.
(١٧) العتاد: كل ما هيئ من سلاح ودواب وآلة حرب.
(١٨) تذرع: تمسك وتحلى.
(١٩) المحنك: المجرب الحكيم.
(٢٠) مرهف السمع: دقيق السمع.
(٢١) الانقضاض: الهجوم المفاجئ.
(٢٢) الهرج والمرج: الصياح والاختلاف والاضطراب.
(٢٣) نذروا به: علموا به.
(٢٤) مرموق المكانة: ذو مكانة عالية ينظر الناس إليها بإعجاب.
(٢٥) زودني: حملني بالزاد.
(٢٦) أجزني: ساعدني على الجواز والمرور.
(٢٧) دنان الخمور: أوعيتها، والمفرد: دن.
(٢٨) واجم: حزين ساكت عن الكلام.
(٢٩) غبش الظلام: ظلمة آخر الليل.
(٣٠) الخنادق المنيعة: الخنادق التي يتعذر الوصول إليها.
(٣١) من غير هوادة: من غير لين ولا رفق.
(٣٢) شر مستطير: شر شديد قوي.
(٣٣) ركاب سرجه: موضع القدم من رحل الدابة.
(٣٤) أهوى بسيفه: نزل به.
(٣٥) فبترها: فقطعها.
(٣٦) يجهز عليه: يقضي عليه.
(٣٧) ماحقة نكراء: شديدة مهلكة.
(٣٨) حوزة الإسلام: حدوده ونواصيه.
مختارات