فقه الحكمة (٢)
وللفراسة سببان:
أحدهما: جودة ذهن المتفرس، وحدة قلبه، وحسن فطنته.
الثاني: ظهور العلامات والأدلة على المتفرس فيه.
فإذا اجتمع السببان لم تكد تخطئ للعبد فراسة، وإذا انتفيا لم تكد تصح له فراسة، وإذا قوي أحدهما وضعف الآخر، كانت فراسته بين بين.
والحكمة في القرآن وردت على عدة أوجه:
الأول: صفة من صفات الله عزَّ وجلَّ، والمراد بها إيجاد الأشياء على غاية الأحكام والدقة كما قال سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)} [آل عمران: ١٨].
الثاني: القرآن الكريم كما قال سبحانه: {يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢)} [يس: ١،٢].
الثالث: السنة النبوية كما قال سبحانه: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)} [البقرة: ١٢٩].
الرابع: الموعظة كما قال سبحانه: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (٥)} [القمر: ٥].
الخامس: العلم والفقه كما قال سبحانه: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٢٦٩)} [البقرة: ٢٦٩].
السادس: النبوة كما قال سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣)} [الزخرف: ٦٣].
السابع: الفهم كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢)} [لقمان: ١٢].
فسبحان الحكيم العليم الذي فتق الأرض بالنبات، وفتق الحبة عن الشجرة، وفلق ظلمة الليل عن ضوء النهار، وفلق ظلمة الجهل والشرك بنور الوحي والنبوة.الذي كما اقتضت رحمته وحكمته أن لا يترك عباده في ظلمة الليل سرمداً، بل هداهم بضوء النهار إلى مصالحهم ومعايشهم، كذلك اقتضت رحمته وحكمته أن لا يتركهم في ظلمة الجهل والغي، بل هداهم بنور الوحي والنبوة إلى مصالح دنياهم وآخرتهم.
فما أسعد النفوس التي تأخذ به، وما أشقى النفوس التي تعرض عنه إلى حكم الجاهلية: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)} [المائدة: ٥٠].
والله سبحانه جعل سعادة العباد في معاشهم ومعادهم بالدين، فياسعادة من عرف ربه، وعرف الطريق الموصل إليه، وعرف حكمته ورحمته وإحسانه إلى خلقه، وعمل بموجب ذلك.
فالله عزَّ وجلَّ حكيم عليم، كما أنه البر الرحيم الودود المحسن، فهو الملك الحكيم العدل، فلا تناقض حكمته رحمته، بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه، ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه، وكلاهما مقتضى عزته وحكمته.
وهو العزيز الحكيم، فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب، ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته كما قال سبحانه: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥)} [القلم: ٣٥].
وقد فطر الله قلوب العباد على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضع الرحمة والإحسان، وكذلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام موضع العقوبة والانتقام.
فما بال بعض العقول والفطر لا تشهد حكمة الرب البالغة، وعزته وعدله في وضع عقوبته في أولى المحال بها، وأحقها بالعقوبة، وهم الكفار الذين كفروا بالله ونعمه ودينه، والمشركون الذين أشركوا مع الله غيره من خلقه.
فهذه المحال لو أوليت النعم لم تحسن بها ولم تلق، ولظهرت مناقضة الحكمة.فهكذا نعم الله لا تليق ولا تحسن ولا تجمل بأعداء الله الصادين عن سبيله.. الساعين في خلاف مرضاته.. الذين يعطلون ما حكم به.. ويسعون في أن تكون الدعوة لغيره.. والحكم لغيره.. والطاعة لغيره.
والذين يحبون ما يبغض الله ويدعون إليه.. ويبغضون ما يحب الله، وينفِّرون الناس عنه.. ويوالون أعداءه وأبغض الخلق ويظاهرونهم على الله وعلى رسوله كما قال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (٥٥)} [الفرقان: ٥٥].
مختارات