﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾
بسم الله الرحمن الرحيم
وقفات مع القاعدة القرآنية:
﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾ [الأنعام: 119].
بسم الله، والحمد لله، أما بعد:
فهذه قاعدة من قواعد القرآن الكريم، ويستدل بها على مسائل كثيرة لا تنحصر، ولله الحمد والمنة.
الوقفة الأولى:
في دلالة الآية على أن الله تعالى قد فصل لعباده ما حرم عليهم، وبيَّنه ووضحه، فلم يبق فيه إشكال ولا شبهة.
وأن تفصيل ذلك جاء في الكتاب والسنة؛ لأن ما حرم الله مثل ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما جاء في الحديث.
قال الإمام القرطبي في تفسيره على هذه الآية: أي بيَّن لكم الحلال والحرام وأزيل عنكم اللَّبْسَ؛ انتهى.
الوقفة الثانية:
في دلالة الآية على أن الأصل في كل الأشياء الإباحة إلا ما نُص على تحريمه.
قال العلامة السعدي في تفسيره على هذه الآية: ودلت الآية الكريمة على أن الأصل في الأشياء والأطعمة الإباحة، وأنه إذا لم يرد الشرع بتحريم شيء منها، فإنه باق على الإباحة، فما سكت الله عنه فهو حلال؛ لأن الحرام قد فصله الله، فما لم يفصله الله فليس بحرام؛ انتهى.
الوقفة الثالثة:
في دلالة قوله تعالى: ﴿ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾ على أن الحرام الذي قد فصله الله وأوضحه، قد أباحه عند الضرورة.
ومن الأمثلة التي يذكرها الفقهاء على هذه القاعدة:
١- أكل الميتة لمن لم يجد غيرها وخشي الموت من الجوع.
٢- التلفظ بكلمة الكفر تحت وطأة التعذيب والإكراه.
٣- دفع الصائل المعتدي الظالم ولو أدى ذلك إلى قتله.
وهناك شروط لإباحة ارتكاب المحرم يذكرها الفقهاء وهذا ملخصها:
١- وجود الضرورة.
٢- ألا توجد وسيلة لدفع الضرر إلا بفعل هذا المحرم.
٣- أن يكون فعل المحرم مزيلًا للضرورة قطعًا، فإن حصل شك هل تزول الضرورة بهذا الفعل أم لا؟ فلا يجوز فعل المحرم حينئذ.
٤- ألا يعارض هذه الضرورة ما هو مثلها أو أعظم منها.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: ليس هناك ضرورة تبيح المحرم إلا بشرطين:
١. أن نعلم أنه لا تزول ضرورته إلا بهذا.
٢. أن نعلم أن ضرورته تزول به؛ انتهى.
لقاء الباب المفتوح (١٩/٣).
وينبغي أيضًا معرفة ما هي الضرورة، وهي: ما يلحق الإنسان ضرر بتركه، وهذا الضرر يلحق الضروريات الخمس وهي: (الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال).
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 173].
قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره على هذه الآية:
﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾؛ أي: ألجئ إلى المحرم، بجوع وعدم، أو إكراه، ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ أي: غير طالب للمحرم، مع قدرته على الحلال، أو مع عدم جوعه، ﴿وَلَا عَادٍ﴾ أي: متجاوز الحد في تناول ما أبيح له اضطرارًا، فمن اضطر وهو غير قادر على الحلال، وأكل بقدر الضرورة، فلا يزيد عليها، ﴿فَلَا إِثْمَ﴾ [أي: جناح] عليه، وإذا ارتفع الجناح الإثم رجع الأمر إلى ما كان عليه، والإنسان بهذه الحالة، مأمور بالأكل، بل منهي أن يلقي بيده إلى التهلكة، وأن يقتل نفسه، فيجب إذًا عليه الأكل، ويأثم إن ترك الأكل حتى مات، فيكون قاتلًا لنفسه، وهذه الإباحة والتوسعة من رحمته تعالى بعباده، فلهذا ختمها بهذين الاسمين الكريمين المناسبين غاية المناسبة، فقال: ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ولَما كان الحل مشروطًا بهذين الشرطين، وكان الإنسان في هذه الحالة، ربما لا يستقصي تمام الاستقصاء في تحقيقها - أخبر تعالى أنه غفور، فيغفر ما أخطأ فيه في هذه الحال، خصوصًا وقد غلبته الضرورة، وأذهبت حواسه المشقة.
الوقفة الرابعة:
في دلالة الآية على رحمة الله تعالى بعباده، وأنه أباح لهم ما حرم وقت الضرورة.
وهذا ما ختم الله به هذه الآية، بأنه غفور رحيم: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 173]، قال العلامة السعدي: وفي هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة: الضرورات تبيح المحظورات، فكل محظور اضطر إليه الإنسان، فقد أباحه له الملك الرحمن؛ انتهى.
الوقفة الخامسة:
دلالة الآية على يسر هذه الشريعة وسماحتها، وأنها من حكيم خبير.
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين يسر)؛ رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم: (بُعثت بالحنيفية السمحة)؛ رواه أحمد.
قال العلامة محمد الطاهر بن عاشور:
هذه الشريعة قابلة بأصولها وكلياتها للانطباق على مختلف الأحوال، بحيث تساير أحكامها مختلف الأحوال دون حرج ولا مشقة ولا عسر.
مقاصد الشريعة الإسلامية (ص، ٩٢).
الوقفة السادسة:
في دلالة الآية على أن الحرام معدود وقليل؛ لأنه مفصل والحلال كثير، وهو الأصل في الأشياء التي لا يمكن تفصيلها ولا حصرها، ومن أمثلة ذلك لَمَّا أراد الله سبحانه أن يبين الحلال، قال: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾، ولم يفرق بين بيع وآخر، ولم يقل: أحل الله بيع البيوت، ولا بيع الدواب، ولا بيع الأطعمة، ولا الأكسية، ولا الأغذية، ولكن قال: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ﴾، فعمَّم في الحلال لكثرته، لكن لما أراد أن يُحرم قال: ﴿ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾؛ حيث جعل الحلال أكثر من الحرام.
الوقفة الأخيرة:
وهي مثال على هذه القاعدة من فتاوى العلماء:
قال العلامة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى: الواجب أن تكون الطبيبات مختصات للنساء، والأطباء مختصين للرجال إلا عند الضرورة القصوى إذا وجد مرض في الرجال ليس له طبيب رجل، فهذا لا بأس به، والله يقول: ﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾ [الأنعام: 119]، فتاوى عاجلة لمنسوبي الصحة، (ص،٢٩).
اللهم اغفر لنا وارحمنا يا غفور يا رحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبها:
يزن الغانم
مختارات