في رحاب قول الله تعالى.. إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
الحنجرة وعتبة الحواسِّ
يقول ربُّنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ القمر: ٤٩.
هناك تقديرٌ دقيقٌ في كلِّ شيء خلقه الله عز وجل، هذا المعنى يستنبط أيضاً من قوله تعالى: ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ التغابن:3.
إضافةً لمعنى الحق أنّه الشيء الثابت الذي لا يزول موازنةً له مع الباطل الذي يزول، ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ ﴾ الحجر: ٨٥، فهناك معنى آخر للحقّ، وهو الشيء الهادف الذي يتناقض مع العبث، قال تعالى ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴾ الأنبياء: ١٦
والمعنى الثالث هو أنَّ الشيء خلق بالحق، أي قُدِّر تقديراً دقيقاً من لدن حكيم عليم خبير.
إن هذه الحنجرة التي هي جهاز الصوت عند الإنسان، يقول الأطبّاء: (إنّ فتحة الحنجرة قد قُدِّرت تقديراً دقيقاً جدّاً، حيث لو اتّسعت أكثر ممَّا هي عليه لاختفى صوت الإنسان، ولو ضاقت أكثر ممَّا هي عليه لأصبح التنفس عسيراً)، فإما أن يكون التنفّس مريحاً، ويختفي الصوت، وإما أن يكون الصوت واضحاً، ويصعب التنفّس، أما أن تكون فتحة الحنجرة مدروسةً دراسةً دقيقةً، فهذا من إبداع حكيم عليم قدير، من جعل هذه الفتحة بهذا القدر؟ إنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾ النمل: ٨٨.
هذا ينقلنا إلى عتبات الحواسِّ، إنّ هذه العين ترى ما بين عتبتين، لو أن الرؤية زادت على حدِّها الذي هي عليه لأصبحت حياتنا جحيماً، إنّك إذا نظرت إلى كأس الماء الذي تشربه الآن، تراه صافياً عذباً فراتاً رائقاً، لو أنّ عتبة البصر زادت قليلاً، ودقّت أكثر ممَّا هي عليه لرأيت في هذه الكأس العجب العجاب، لرأيت الكائنات الحية، والجراثيم غير الضارة، بعدد لا يحصى، إنَّك لن تشرب الماء عندها، ولرأيت هذا الطّفل الصغير بخدِّه الأسيل كأنّه مغاراتٌ ونتوءاتٌ، لذلك يقول ربّنا سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ القمر: ٤٩.
ولو أنّ عتبة السمع ارتفع مستواها قليلاً لما أمكنك أن تنام الليل، لأنّ الأصوات كلَّها تتلقّفُها، بل إن أصوات جهاز الهضم وحده تكاد كالمعمل الكبير، لذلك جعل الله لك عتبةً خاصةً في السّمع لا تزيد على حدِّها، فلو أن حاسّة اللمس زادت لشعرت بالكهرباء الساكنة التي تحيل حياتك جحيماً لا يطاق، وبعض الحيوانات تزيد حاسّة الشمِّ عندها مليون ضعف على حاسّة الإنسان، غير أنَّ الله سبحانه وتعالى شقَّ لنا السمع، وأنشأ الأبصار والأفئدة، وخلق حاسّة اللّمس، وحاسّة البصر، ومع كلِّ هذا فإنّ هذه الحواسَّ خُلقت خلقاً دقيقاً جداً من قِبَل الله تعالى.
المصدر:
آيات الله تعالى في الإنسان: د. محمد راتب النابلسي.
مختارات