67. عبد الله بن رواحة
عبد الله بن رواحة
"يرحم الله ابن رواحة؛ إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة"
[محمد رسول الله]
أقسمت يا نفس لتنزينه
لتنزين أو لتكرهنه
ما لي أراك تكرهين الجنه؟!
هل أنت إلا نطفة في شنه (١)
وضع هذا النشيد الملتهب بشتى المشاعر نهاية لحياة الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة …
وختم آخر فصل من فصول سيرته؛ الحافلة بالبطولات.
الغنية بالمآثر والمفاخر …
المشرقة بنور التقى وألق العبادة …
* * *
كان عبد الله بن رواحة يوم أهل نور النبوة على مكة؛ شاعرا فحلا (٢) من شعراء يثرب …
وسيدا مرموقا من سادات الخزرج.
فما إن بلغته دعوة الهدى والحق؛ حتى شرح الله صدره للإسلام.
فوضع سنانه (٣) ولسانه في طاعة الله ﷿.
ومرضاة رسوله.
ولقد نافح (٤) عن النبي الكريم ﷺ بشعره أعظم المنافحة، وأقواها …
وذاد (٥) عن دعوته ببيانه أصدق الذود وأنجعه (٦).
فأنزل الله فيه وفي صاحبيه: حسان بن ثابت (٧)، وكعب بن مالك (٨) الاستثناء الخاص بمؤمني الشعراء وأخيارهم.
فقال جل شأنه:
﴿والشعراء يتبعهم الغاوون (٢٢٤) ألم تر أنهم في كل واد يهيمون (٢٢٥) وأنهم يقولون ما لا يفعلون … ﴾ (٩).
ثم استثنى الله - سبحانه - كلا من عبد الله بن رواحة وصاحبيه.
فقال عز من قائل:
﴿إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا﴾
وانتصروا من بعد ما ظلموا … ﴾ (١٠).
فهل هناك أكرم كرامة، وأعز عزا من أن ينزل الله في شأن امرئ قرآنا … ؟!.
وأن يتلى نعته (١١) الذي نعته الله به آناء الليل، وأطراف النهار؟!.
وأن تستمر تلاوته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟!.
* * *
شهد عبد الله بن رواحة بيعة العقبة؛ أكرم بها من بيعة.
وجعله النبي الكريم أحد النقباء الذين أمرهم على قومهم …
فنعم المؤمر، ونعم الأمير.
ومنذ أسلم فتى الخزرج؛ عزم على أن يجعل حياته كلها في طاعة الله.
فقضى جميع عمره عابدا مجاهدا …
قواما بالليل؛ صواما بالنهار …
* * *
أخبر عنه أبو الدرداء (١٢) ﵁، قال:
لقد رأيتنا مع النبي في بعض أسفاره في اليوم الحار الشديد الحر …
حتى إن الرجل ليضع يده فوق رأسه من شدة الحر، وما في القوم صائم
إلا رسول الله ﷺ …
وعبد الله بن رواحة …
* * *
وقد شهد ابن رواحة مع النبي صلوات الله وسلامه عليه بدرا … وأحدا … والخندق … والحديبية … وخيبر …
فأكرم بها من أيام … وأعظم بها من مواقف.
* * *
وفي سنة ثمان للهجرة؛ بعث الرسول بثلاثة آلاف من جند المسلمين إلى بلاد الشام للقاء الروم، واختبار أمرهم.
وقد أمر على الجيش مولاه زيد بن حارثة (١٣)، وقال:
(إن قتل أو أصيب زيد، فقائد الجيش جعفر بن أبي طالب (١٤) … فإن قتل أو أصيب جعفر؛ فقائد الجيش عبد الله بن رواحة … فإن قتل عبد الله بن رواحة أو أصيب؛ فليختر المسلمون رجلا منهم يجعلونه أميرا عليهم).
* * *
ولما هم جيش المسلمين بمغادرة المدينة؛ جعل الناس يودعون جند المسلمين عامة، ويخصون الأمراء الذين أمرهم الرسول الكريم ﷺ على الجيش.
فلما ودعوا عبد الله بن رواحة؛ جعل يبكي.
فقالوا: ما يبكيك يا ابن رواحة؟!.
فقال: والله ما يبكيني حب الدنيا …
ولكني سمعت الرسول يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار؛ حيث يقول ﷿:
﴿وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا﴾ (١٥).
فأيقنت بالورود (١٦)، ولكني لست أدري كيف لي بعده بالصدر (١٧)؟!.
* * *
ولما تحرك الجيش؛ قال المسلمون:
صحبكم الله، ودفع عنكم، وردكم إلى أهليكم.
فما إن سمع دعاءهم بأن يردوا إلى أهليهم؛ حتى أنشأ يقول:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة … وضربة ذات فرع (١٨) تقذف الزبدا (١٩)
أو طعنة بيدي حران (٢٠) مجهزة (٢١) … بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي (٢٢): … أرشده الله من غاز، وقد رشدا
* * *
ولما فصل الجيش عن المدينة كان ابن رواحة يردف (٢٣) وراءه فتى يتيما يعيش في حجره؛ هو زيد بن أرقم …
فسمعه الفتى يخاطب ناقته قائلا:
إذا أديتني وحملت رحلي … مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك؛ فانعمي، وخلاك ذم (٢٤) … ولا أرجع إلى أهلي ورائي
فطفق الفتى يبكي لقوله …
فخفقه (٢٥) ابن رواحة بالدرة، وقال:
ما عليك - يا لكع (٢٦) - أن يرزقني الله الشهادة …
وترجع أنت على رحلي هذا إلى المدينة؟!.
* * *
ولما بلغ المسلمون أرض "معان" في الأردن؛ عرفوا أن ملك الروم قد نزل فى منطقة "البلقاء" غير بعيد عنهم.
ومعه مائة ألف مقاتل من الروم …
ومعهم مثلهم من نصارى العرب من قبائل لحم، وجذام، وقضاعة، وغيرها …
* * *
أقام المسلمون في "معان" ليلتين.
وطفقوا يوازنون بين عددهم القليل، وعدد عدوهم الكثير، وقالوا:
نكتب إلى الرسول، ونوقفه (٢٧) على الأمر، ثم نمضي إلى ما يأمرنا به.
فقال عبد الله بن رواحة:
يا قوم؛ إن التي تطلبون (٢٨) قد أدركتموها …
ونحن ما نقاتل الناس بعدد، ولا قوة …
وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به …
فانطلقوا؛ فهي إحدى الحسنيين …
إما النصر …
وإما الشهادة …
فاستجاب الجيش إلى ما دعاه إليه، وشرع يعد العدة للقاء العدو.
وفي اليوم التالي؛ نهد (٢٩) الآلاف الثلاثة للقاء مائتي ألف …
والتقى الجمعان عند قرية "مؤتة".
* * *
كان يتقدم جيش المسلمين زيد بن حارثة، وهو حامل لواء رسول الله ﷺ.
فما زال يقاتل حتى قتل؛ مقبلا غير مدبر.
ورماح الروم تنهل (٣٠) من صدره …
فتناول الراية جعفر بن أبي طالب؛ أخو علي رضوان الله عليهما، وصنوه (٣١) في الشجاعة والبأس.
وخاض المعركة كما لم يخضها أحد غيره …
فلما حمي الوطيس (٣٢)، واشتدت وطأة الروم على المسلمين … وثب عن فرسه …
وعفر (٣٣) قوائمها بسيفه … وأوغل في صفوف الروم، وهو ينشد:
يا حبذا الجنة واقترابها
طيبة وباردا شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
كافرة بعيدة أنسابها
علي إذ لاقيتها ضرابها
ثم اندفع يجول بسيفه يمنة ويسرة؛ حتى قطعت يمينه … فتناول الراية بشماله، ومضى يقاتل؛ حتى قطعت شماله … فأخذ الراية بصدره وعضديه (٣٤)، ثم ما زال يجالد حتى قتل …
* * *
عند ذلك؛ تقدم عبد الله بن رواحة، وتناول الراية بعد أن رأى مصرع صاحبيه عن كثب.
فجعل يخاطب نفسه قائلا:
يا نفس إلا تقتلي تموتي
هذا حمام الموت قد صليت (٣٥)
وما تمنيت فقد أعطيت
إن تفعلي فعلهما هديت
ثم نظر إلى سلفيه الشهيدين وهما مضرجان بدمائهما …
فهابت نفسه الموقف بعض الهيبة …
وترددت بعض التردد.
.
فأهاب (٣٦) بها قائلا:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزين أو لتكرهنه
ما لي أراك تكرهين الجنه
هل أنت إلا نطفة في شنه
ثم حمل الراية، ونزل إلى ساح الوغى (٣٧) …
وهنا جاءه ابن عم له بعظم عليه شيء من اللحم، وقال له:
شد بهذا صلبك؛ فأنت لم تطعم شيئا منذ ثلاث …
فأخذ العظم من يده، ونهس (٣٨) منه نهسة بأطراف أسنانه.
غير أنه ما لبث أن رأى مصارع المسلمين أمامه؛ فقال:
بئس الرجل أنت يا ابن رواحة.
يقع هذا كله، وأنت تأكل الطعام.
ثم ألقى العظم من يده …
وجرد سيفه …
وأوغل (٣٩) في صفوف الروم لا يلوي (٤٠) على شيء …
ثم إنه ما زال يقاتل حتى هوى شهيدا.
* * *
رحم الله عبد الله بن رواحة، وصدق رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم …
فإنه كان يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة … (*).
_________
(١) شنة: قربة بالية من الجلد، والمراد: الرحم.
(٢) شاعرا فحلا: مجيدا بارعا.
(٣) السنان: نصل الرمح.
(٤) نافح: دافع.
(٥) ذاد: دافع عن.
(٦) أنجعه: أشده تأثيرا.
(٧) حسان بن ثابت: انظر طرفا من أخباره في كتاب "شعر الدعوة في العصر النبوي" للمؤلف؛ الناشر دار الأدب الإسلامي.
(٨) كعب بن مالك: انظره ص ٣٢١.
(٩) سورة الشعراء ٢٢٤ - ٢٢٦.
(١٠) سورة الشعراء الآية ٢٢٧.
(١١) نعته: وصفه.
(١٢) أبو الدرداء انظره في الكتاب الثالث "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(١٣) زيد بن حارثة انظره: في الكتاب الثالث "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(١٤) جعفر بن أبي طالب انظره: في الكتاب الرابع "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(١٥) سورة مريم ٧١.
(١٦) الورود: المرور بالنار.
(١٧) الصدر: الرجوع.
(١٨) ضربة ذات فرع: ضربة شديدة.
(١٩) تقذف الزبدا: تقذف الدم قذفا من شدتها.
(٢٠) حران: متعطش للدماء.
(٢١) مجهزة: قاضية مميتة.
(٢٢) جدثي: قبري.
(٢٣) يردف وراءه: يركب خلفه.
(٢٤) خلاك ذم: أي لا لوم عليك.
(٢٥) خفقه بالدرة: ضربه بها ضربا خفيفا، والدرة: أداة يضرب بها.
(٢٦) يا لكع: يا أحمق.
(٢٧) نوقفه على الأمر: نعلمه به.
(٢٨) يعني الشهادة.
(٢٩) نهد: خرج وأسرع.
(٣٠) تنهل: تشرب.
(٣١) صنوه: مثيله.
(٣٢) حمي الوطيس: اشتدت الحرب.
(٣٣) عقر قوائمها: ضرب أرجلها بسيفه.
(٣٤) العضد: ما بين المرفق والكتف.
(٣٥) صليت: تعرضت.
(٣٦) فأهاب بها: صاح بها وحمسها.
(٣٧) ساح الوغى: ساحة الحرب.
(٣٨) النهس: تناول اللحم أو غيره من غير تمكن.
(٣٩) أوغل في صفوف الروم: دخل بعيدا في صفوفهم.
(٤٠) لا يلوي على شيء: لا يقف عند شيء ولا ينتظر.
مختارات