66. أبو لبابة
أبو لبابة
"أما إنه لو أتاني لاستغفرت له … "
[محمد رسول الله]
في السنة الثانية قبل الهجرة؛ خرجت قوافل الحجاج من مشركي يثرب؛ ميممة وجهها شطر مكة تريد الحج …
وكان في صفوف هذه القوافل المشركة سبعون رجلا وامرأتان قد اعتنقوا الإسلام، وأقبلوا على مكة، وهم يمنون نفوسهم بلقاء نبيهم الكريم ﷺ، وصاحب دينهم القويم …
فقد آمن به كثير منهم قبل أن تكتحل أعينهم بمرآه.
وما إن وافوا (١) مكة؛ حتى واعدوا الرسول صلوات الله عليه على اللقاء سرا في ثاني يوم من أيام التشريق (٢).
وكان موضع اللقاء عند الجمرة الأولى من منى …
أما وقته؛ ففي الهزيع (٣) الأخير من الليل خوفا من أن تعلم قريش.
فالليل ستار، والدنيا نائمة إلا قلوب المؤمنين.
* * *
وهناك سعد المؤمنون السابقون من الأنصار بلقاء نبيهم ﷺ في نجوة (٤) من قريش.
وهناك أيضا بسطوا أيديهم إليه وقالوا:
بايعنا يا رسول الله؛ فنحن أهل الحروب وأهل السلاح، ورثناه كابرا عن كابر …
ثم بايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم، وأن يرحل إليهم هو وأصحابه.
وكان في طليعة المبايعين؛ أبو لبابة رفاعة بن المنذر.
وقبل أن ينفض (٥) هؤلاء المؤمنون المبايعون عن رسول الله ﷺ؛ اختار من زعمائهم اثني عشر رجلا؛ جعلهم نقباء عليهم …
وكان في جملة النقباء أبو لبابة.
* * *
عاد أبو لبابة إلى يثرب مع الطليعة المؤمنة؛ فرحين بما آتاهم الله من فضله؛ مغتبطين (٦) بالاجتماع إلى نبيهم ﷺ …
عاقدين العزم على الوفاء بشروط البيعة.
فأخذوا يعدون العدة لتلقي أفواج المهاجرين، ويتخذون الأهبة لاستقبال النبي الكريم ﷺ.
ثم أذن الله لنبيه ﷺ بالهجرة … فيمم وجهه شطر المدينة ومعه صفيه وخليله وصاحبه أبو بكر الصديق.
فما إن وافى الرسول ﷺ مشارف يثرب؛ حتى زحفت المدينة كلها لاستقبال نزيلها العظيم، والترحيب بنبيها الكريم محمد بن عبد الله ﷺ،
وكان أبو لبابة في طليعة المستقبلين المرحبين.
ومرت الأيام … وأرسيت قواعد دولة الإسلام.
وأذن الله لنبيه ﷺ بالجهاد، وعزم الرسول ﷺ على لقاء المشركين في بدر.
فلما فصل (٧) جيش المسلمين عن المدينة؛ متوجها للقاء عدوه وعدو الله؛ كان في الجيش أبو لبابة وهو يتشوق إلى الجهاد ويمني النفس بالاستشهاد.
ولكن الرسول الكريم صلوات الله عليه رده من بعض الطريق، واستخلفه على المدينة، وأمره بالرجوع.
فأذعن أبو لبابة للأمر …
وعاد أدراجه وفي النفس غصة، وفي الفؤاد حسرة …
ولكن رسول الله ﷺ قد أمر، وأمر الرسول ﷺ لا يرد.
* * *
شعر الرسول الكريم ﷺ بما يعتمل (٨) في نفس أبي لبابة من عواطف متضاربة …
ففي خلافة رسول الله ﷺ على المدينة؛ شرف ما يدانيه شرف …
وفي الحرمان من ثواب الجهاد؛ خسارة ما تعدلها خسارة …
فطيب الرسول ﷺ خاطره، وضرب له بسهم، ووعده الأجر؛ فكان كمن شهد بدرا.
* * *
ظل أبو لبابة مخلصا لربه، وفيا بالبيعة التي بايعها لنبيه ﷺ؛ حتى كانت غزوة بني قريظة.
حيث كبا (٩) جواده كبوة ما كانت تخطر له على بال …
وزل زلة ما كان يتخيل أنها تصدر عنه.
ذلك أن الرسول ﵇ توجه بعد غزوة الخندق إلى بني قريظة ليؤدبهم جزاء نكثهم (١٠) بعهدهم …
وخيانتهم له، وغدرهم بالمسلمين.
.
فأطبق على حصونهم من كل جانب، وأحاط بهم إحاطة القيد بالعنق.
فلما اشتد عليهم الحصار؛ بعثوا إلى الرسول ﵇ يفاوضونه على الاستسلام، ويشترطون لأنفسهم بعض الشروط …
فأبى النبي ﵇ أن يقبل منهم أي شرط، وأمرهم أن ينزلوا على حكمه مهما كان …
وكان قد حكم على مقاتليهم من الرجال بالقتل وهم لا يعلمون.
فبعثوا إلى الرسول صلوات الله عليه يقولون:
ابعث لنا أبا لبابة نستشيره.
وكانت بينهم وبين قوم أبي لبابة محالفة (١١) في الجاهلية.
فلما جاءهم أبو لبابة؛ التف حوله النساء والأطفال يبكون وينتحبون،
وقام إليه الرجال يسألونه:
أترى أن ننزل على حكم محمد يا أبا لبابة؟.
فقال: نعم … ولكنه أشار بيده إلى حلقه ليعلمهم بذلك؛ أن الرسول ﷺ قد حكم عليهم بالذبح.
قال أبو لبابة:
فوالله! ما زالت قدماي من مكانهما … حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله ﷺ وأسقط (١٢) في يدي؛ فما أدري كيف أخرج من سخط الله.
* * *
لم يأت أبو لبابة إلى رسول الله ﷺ؛ وإنما انطلق على وجهه إلى بيته …
فاستحضر سلسلة من حديد، وطلب أن يشد بها إلى سارية (١٣) من سواري المسجد، وهو واقف على قدميه … ثم قال:
والله لا أحل نفسي، ولا أصيب طعاما أو شرابا؛ حتى يتوب الله علي … أو أموت.
فلما رآه رسول الله ﷺ على حاله هذه، وعرف ما كان من أمره؛ قال:
(أما إنه لو أتاني لاستغفرت له، ولكنه قد فعل … فلست أطلقه حتى يطلقه الله).
* * *
ظل أبو لبابة على حاله هذه أياما حتى ضعف جسمه، ووهن عظمه،
وخارت قواه …
ثم تلتها أيام أخرى أصيب فيها سمعه؛ فما عاد يسمع؛ إلا قليلا …
وزاغ فيها بصره؛ فما عاد يبصر؛ إلا يسيرا.
وكانت له بنية تأتيه باكية منتحبة (١٤)، فتحل وثاقه عند كل صلاة، ثم تعيده إلى سلسلته بعد ذلك.
* * *
قضى أبو لبابة ستة أيام بلياليها مشدودا إلى سارية المسجد؛ حتى جاءه الفرج من السماء عند سحر الليلة السابعة …
وكان ذلك في بيت أم سلمة (١٥) رضوان الله عليها.
* * *
قالت أم سلمة:
سمعت رسول الله ﷺ عند السحر وهو يضحك؛ فقلت:
مم تضحك يا رسول الله، أضحك الله سنك؟.
قال ﷺ: (تاب الله على أبي لبابة).
قلت: أفلا أبشره يا رسول الله؟.
قال ﷺ: (بلى؛ إن شئت).
فقامت أم سلمة على باب حجرتها - وذلك قبل أن يضرب الحجاب على نساء النبي ﷺ وقالت:
يا أبا لبابة: أبشر … فقد تاب الله عليك.
* * *
قالت أم سلمة:
فثار الناس إليه ليطلقوه.
فقال: لا والله! حتى يطلقني رسول الله ﷺ بيده.
فلما خرج الرسول ﵇ إلى الصلاة؛ أطلقه بنفسه.
* * *
ليس في وسع أحد أن يقدر فرحة أبي لبابة بتوبة الله عليه، أو أن يتصور مدى بهجته برضى نبيه ﷺ عنه …
فقد ظل منذ ذلك اليوم؛ يقرأ قول الله ﷿ الذي نزل فيه:
﴿وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم﴾ (١٦).
وكان كلما قرأ ذلك …
فاضت عيناه فرحا بتوبة الله عليه (*).
_________
(١) وافوا مكة: أتوا مكة.
(٢) أيام التشريق: هي الأيام الثلاثة التي تلبي يوم النحر أي يوم عيد الأضحى.
(٣) الهزيع الأخير: الثلث الأخير.
(٤) في نجوة من قريش: بعيدا عن نظرها وفي ستر منها.
(٥) ينفض: يتفرق.
(٦) معتبطين: سعداء مسرورون.
(٧) فصل الجيش: خرج.
(٨) يعتمل في نفسه: يضطرب في نفسه، والمراد: يفكر.
(٩) كبا: سقط على وجهه.
(١٠) نكثهم بعهدهم: نقضهم له، ورجوعهم عنه.
(١١) المحالفة: التعاهد والتصاحب.
(١٢) أسقط في يد فلان: تحير وندم.
(١٣) السارية: الأسطوانة، وسارية المسجد عمود ينصب فيه.
(١٤) النحيب: شدة البكاء.
(١٥) أم سلمة: انظرها في كتاب صور من حياة الصحابيات للمؤلف؛ الناشر دار الأدب الإسلامي.
(١٦) سورة التوبة ١٠٢.
مختارات