68. جرير بن عبد الله البجلي
جرير بن عبد الله البجلي
"نعم السيد كنت في الجاهلية، ونعم السيد أنت في الإسلام"
[عمر بن الخطاب]
ها نحن أولاء في مسجد الرسول الكريم ﷺ قبيل حجة الوداع بقليل، والناس قد أخذوا أماكنهم في رحابه الطاهرة …
تأهبا لسماع خطبة الجمعة.
وها هو ذا النبي الكريم ﷺ يصعد المنبر …
فيتحول كل من في المسجد إلى آذان صاغية وقلوب واعية، وعيون مشدودة إليه متعلقة به؛ لا تتحول عنه ولا تريم (١) …
وطفق رسول الله ﷺ ينذر ويبشر، ويعظ ويذكر، ويعالج شؤون المسلمين ما يعالج.
* * *
وفيما هم كذلك …
أقبل على المسجد وفد كبير من قبيلة بجيلة قادما من اليمن ليعلن إسلامه بين يدي الرسول ﷺ، ويبايعه على السمع والطاعة في المنشط والمكره …
فأخذ رجال الوفد أماكنهم بين جموع المسلمين، وكان على رأسهم جرير بن عبد الله البجلي؛ سيد بجيلة وزعيمها المطاع.
فإذا بالمسلمين الذين لا يصرفهم عن رسول الله ﷺ شيء؛ يتحولون
بعيونهم إلى جرير بن عبد الله …
وجعلوا يطيلون إليه النظر، ويحدون (٢) فيه البصر.
حتى خيل إليه أنهم كانوا معه على موعد، أو كأن ناعتا نعته لهم …
فأرادوا أن يتثبتوا من شخصه ويتحققوا من نعته.
فما إن انتهت الصلاة؛ حتى مال جرير على رجل من المسلمين كان يجلس بجانبه، وقال:
ما بال الناس يصرفون أبصارهم إلي ويحدقون في؛ حتى لكأن لهم عندي حاجة؟! …
أهي مجرد صدفة أم أن في الأمر شيئا؟!.
فقال الرجل: إن الناس لم ينصرفوا إليك بأبصارهم؛ إلا لأن الرسول أخبرنا قبل قليل بقدومك على رأس وفد من قومك، وذكر لنا نعتك وقال:
(يدخل عليكم رجل من خير أهل اليمن … على وجهه مسحة (٣) ملك).
فانبسطت أسارير (٤) جرير بن عبد الله البجلي لما سمع، وأشرق وجهه بالفرحة، وطابت نفسه بما خلعه الرسول ﷺ من نعت عليه.
* * *
وما إن فرغ النبي ﷺ من صلاته وتسبيحه ودعائه؛ حتى مثل جرير بين
يديه … فقال له النبي:
(ما جاء بك يا جرير؟!).
فقال: جئت لأسلم على يديك أنا وقومي يا رسول الله ولنبايعك.
فقال له النبي ﷺ:
(إنما أبايعك على أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله … وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت … وتنصح المسلم، وتطيع الوالي؛ ولو كان عبدا حبشيا).
قال: نعم يا رسول الله، وبسط يمينه إليه وبايعه.
* * *
ومنذ ذلك اليوم؛ توثقت (٥) عرى المودة بين النبي ﷺ وصاحبه جرير ابن عبد الله البجلي، ونال من إكرام الرسول ﷺ وإعزازه ما لم يحظ به إلا القليل النادر من أصحابه السابقين إلى الإسلام …
فما حجبه الرسول ﷺ يوما عنه حتى مات، وما لقيه مرة إلا هش له وبش، وتبسم في وجهه.
ولقد دخل على النبي ﷺ ذات مرة في بيته؛ فرحب به، ولما لم يجد شيئا يجلسه عليه …
تناول رداءه وطواه وطرحه له؛ ليجلس عليه …
فأخذ جرير الرداء وضمه إلى صدره، وطفق (٦) يقبله وهو يقول:
أكرمك الله - يا رسول الله - كما أكرمتني وأعزك الله كما أعززتني.
فالتفت النبي ﷺ إلى من معه، وقال:
(إن أتاكم كريم قوم؛ فأكرموه).
* * *
وما إن أسلم جرير بن عبد الله البجلي وانضم إلى كتائب الإيمان؛ حتى أصبح موضع ثقة النبي ﷺ وثقة خلفائه من بعده؛ فأناطوا (٧) به جليل الأمور، واعتمدوا عليه في عظيم المهمات.
فقبيل وفاة النبي الكريم ﷺ دعا إليه جريرا، وقال:
هل أنت مريحي من "ذي الخلصة" يا جرير؟.
قال: نعم يا رسول الله.
وذو الخلصة هذا الذي أراد الرسول الكريم ﷺ أن يستريح منه قبل أن يفارق الحياة: مجموعة من الأصنام في مدينة تبالة على مسيرة سبع ليال من مكة في الطريق إلى اليمن؛ طليت بالبياض، ونقشت عليها نقوش كهيئة التيجان.
وكان يقوم على سدانة (٨) ذي الخلصة بنو أمامة …
وكانت تعظمها قبائل خثعم، وبجيلة، والأزد، وتحج إليها وتطوف بها، وتذبح عندها …
حتى إنهم كانوا يدعونها "الكعبة اليمانية".
* * *
وقد اختار الرسول صلوات الله عليه جريرا لهذه المهمة؛ لسيادته في
بجيلة، ومكانته بين القبائل اليمنية.
فصدع (٩) جرير بأمر رسول الله ﷺ واختار لهذه الغزوة مائة وخمسين فارسا من الشجعان الكماة (١٠).
ولما هم بالرحيل؛ أقبل يودع الرسول صلوات الله عليه وشكا له من أنه لا يثبت على ظهور الخيل لطول قامته وعظم هامته …
فضرب الرسول الكريم ﷺ على صدره وقال:
(اللهم ثبته، واجعله هاديا مهديا).
فكان بعد ذلك من أثبت الفرسان على متون (١١) الجياد الصافنات.
* * *
مضى جرير برجاله إلى ذي الخلصة …
فقتل سدنته وحطم هياكله، وأوقد النيران في أصنامه …
ثم بعث إلى رسول الله ﷺ بشيرا يبشره بالقضاء على ذلك الطاغوت (١٢) الذي غمه وأهمه، والذي أصبح مكانه فيما بعد؛ عتبة لمسجد تبالة الكبير.
* * *
لم يعد جرير إلى المدينة بعد هدم ذي الخلصة؛ وإنما واصل سيره إلى اليمن … ليدعو ملوكها إلى الإسلام بأمر من رسول الله ﷺ.
فوفد على ذي الكلاع الأصفر أعظم ملوك اليمن إذ ذاك، وعرض عليه محاسن الإسلام، وقرأ أمامه شيئا من القرآن، وبشره وأنذره …
فشرح الله صدر الملك للإيمان، وما لبث أن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
ولقد ابتهج ذو الكلاع بما أكرمه الله به من الإيمان بعد الشرك ابتهاجا عظيما؛ فأعتق يوم أسلم أربعة آلاف عبد …
ثم هاجر بقومه إلى المدينة؛ فوجد رسول الله ﷺ قد فارق الحياة.
فمضى مع قومه إلى حمص واتخذوها مقاما لهم ووطنا.
* * *
ولما آلت الخلافة إلى الصديق ﵁؛ وضع جرير بن عبد الله نفسه وسيفه وقومه في طاعته.
فجرده أبو بكر للقضاء على فتنة الردة في بلاد اليمن.
فقام جرير بالأمر خير قيام، وطفق يقاتل المرتدين؛ حتى خضد (١٣) شوكتهم، وأعادهم إلى حظيرة الإسلام.
* * *
ولما صارت الخلافة إلى عمر ﵁؛ كان له جرير نعم الجليس والمشير والقائد.
وكان عمر يأنس به أشد الأنس، ويعجب لذكائه الحاد، وبديهته المطاوعة في المواقف الحرجة.
* * *
من ذلك؛ أن عمر كان في مجلس مع جرير بن عبد الله ونفر من
المسلمين، ينتظرون الصلاة …
فخرجت من أحد القوم ريح؛ فسكت الناس وسكنوا …
كل يخشى أن يظن أنها منه.
وخاف عمر أن يحمل الخجل صاحب الريح على الدخول في الصلاة من غير وضوء؛ فقال:
عزمت (١٤) على صاحب الريح أن يقوم فيتوضأ.
فجعل الناس ينظر بعضهم إلى بعض؛ فبادر جرير بن عبد الله، وقال: مرنا يا أمير المؤمنين أن نتوضأ جميعا.
فسري (١٥) عن عمر وقال: نعم توضؤا جميعا …
ثم التفت إلى جرير وقال:
رحمك الله؛ نعم السيد كنت في الجاهلية …
ونعم السيد أنت في الإسلام.
ثم توضأ القوم جميعا (*).
_________
(١) لا تريم: لا تقصد غيره.
(٢) يجدون فيه البصر: يدققون النظر إليه.
(٣) مسحة ملك: أثر ظاهر منه.
(٤) انبسطت أسارير جرير: ظهر البشر والسرور على وجهه.
(٥) توثقت العرى: قويت واشتدت.
(٦) طفق: جعل.
(٧) أناطوا به: أسندوا إليه.
(٨) سدانة: خدمة.
(٩) صدع بالأمر: جهر بالأمر وأنفذه
(١٠) الكماة: الأبطال.
(١١) متون الجياد: ظهور الخيل.
(١٢) الطاغوت: رأس الضلال أو المعبود منه دون الله.
(١٣) خضد شوكتهم: كسر قوتهم وأضعفهم.
(١٤) عزمت: أقسمت.
(١٥) سري عنه: زال عنه الهم وانشرح صدره.
مختارات