61. سهيل بن عمرو
سهيل بن عمرو
"من لقي منكم سهيلا فلا يسئ لقاءه فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف، وما مثل سهيل يجهل الإسلام"
[محمد رسول الله]
سهيل بن عمرو؛ سيد من سادات قريش المرموقين (١)، وخطيب من خطباء العرب المفوهين (٢)، وواحد من أهل الحل والعقد الذين لا يقطع دونهم أمر.
كان سهيل حين صدع (٣) الرسول الكريم ﷺ بدعوة الحق قد اكتمل واكتهل، وقد كان جديرا بعقله الراجح ونظره الثاقب (٤)، أن يجعلاه أول من يستجيب لدعوة نبي الهدى والرحمة.
ولكن سهيلا لم يعرض عن الإسلام فحسب، وإنما طفق يصد الناس عن سبيل الله بكل وسيلة، ويصب على السابقين إلى الإسلام سوط عذابه، ليفتنهم عن دينهم، ويردهم إلى الشرك.
لكن سهيل بن عمرو ما لبث أن فوجئ بخبر وقع عليه وقع الصاعقة، وذلك حين نمي (٥) إليه، أن ابنه عبد الله، وابنته أم كلثوم قد تبعا محمدا، وفرا بدينهما إلى أرض الحبشة"؛ تخلصا من أذاه وأذى قريش.
* * *
ثم شاء الله أن تصل الأخبار كاذبة إلى مهاجري "الحبشة"، بأن قريشا
قد أسلمت، وأن المسلمين باتوا يعيشون بين أهليهم بسلام؛ فعاد فريق منهم إلى مكة، وكان في جملة العائدين، عبد الله بن سهيل.
* * *
لم تكد أقدام عبد الله تطأ أرض مكة؛ حتى أخذه أبوه، وكبله (٦) بالقيود؛ وألقى به في مكان مظلم من بيته …
وجعل يفتن (٧) في تعذيبه، ويلج في إيذائه، حتى أظهر الفتى ارتداده عن دين محمد، وأعلن رجوعه إلى ملة آبائه وأجداده …
فسري (٨) عن سهيل بن عمرو، وقرت عينه، وشعر بنشوة (٩) النصر على
* * *
ثم ما لبث المشركون أن عزموا على منازلة رسول الله ﷺ في "بدر"؛ فخرج معهم سهيل بن عمرو مصحوبا بابنه عبد الله، متشوقا لأن يرى فتاه يشهر (١٠) السيف في وجه محمد؛ بعد أن كان إلى عهد قريب واحدا من أتباعه.
* * *
ولكن الأقدار كانت تخبئ لسهيل ما لم يكن يقع له في حساب …
إذ ما كاد يلتقي الجمعان على أرض "بدر" حتى فر الفتى المسلم المؤمن إلى صفوف المسلمين، ووضع نفسه تحت راية رسول الله ﷺ، وامتشق حسامه ليقاتل به أباه ومن معه من أعداء الله.
* * *
ولما انتهت "بدر" بذلك النصر المؤزر الذي من الله به على نبيه،
ووقف الرسول الكريم ﷺ وصحبه الأخيار يستعرضون أسرى المشركين إذا هم يجدون سهيل بن عمرو أسيرا في أيديهم.
فلما مثل سهيل بين يدي النبي يريد المفاداة (١١)، نظر إليه عمر بن الخطاب وقال:
دعني يا رسول الله أنزع ثنيتيه (١٢) حتى لا يقوم بعد اليوم، خطيبا في محافل (١٣) مكة، ينال من الإسلام ونبيه.
فقال:
(دعهما يا عمر، فلعلك ترى منهما ما يسرك إن شاء الله).
* * *
ثم دارت الأيام دورتها، وكان صلح "الحديبية"؛ فبعثت قريش سهيل بن عمرو لينوب عنها في إبرام الصلح، فتلقاه الرسول ومعه طائفة من صحبه فيهم ابنه عبد الله بن سهيل.
ثم دعا النبي ﵇ علي بن أبي طالب لكتابة العقد، وشرع يملي عليه فقال:
(اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم) …
فقال سهيل: نحن لا نعرف هذا، ولكن اكتب باسمك اللهم.
فقال النبي ﷺ لعلي: (اكتب باسمك اللهم).
ثم قال: (اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله).
فقال سهيل: لو كنا نشهد أنك رسول الله لم تقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.
فقال النبي ﷺ: (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني.
اكتب محمد بن عبد الله).
ثم أتم العقد وعاد سهيل بن عمرو مزهوا بما كان يظن أنه حققه من نصر لقومه على محمد.
* * *
ثم دارت الأيام دورتها كرة أخرى؛ وإذا بقريش تهزم هزيمتها الساحقة من غير حرب …
وإذا رسول الله ﷺ يدخل مكة فاتحا …
وإذا المنادي ينادي:
يا أهل مكة، من دخل بيته فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن …
فما إن سمع سهيل النداء حتى دب في قلبه الذعر (١٤)، وأغلق على نفسه باب بيته، وسقط (١٥) في يده.
فلنترك الكلام لسهيل بن عمرو ليحدثنا عن هذه اللحظات الحاسمات في حياته … قال سهيل:
لما دخل رسول الله ﷺ مكة، اقتحمت (١٦) بيتي، وأغلقت علي بابي، وأرسلت في طلب ابني عبد الله؛ وأنا أستحي أن تقع عيني على عينه؛
لما كنت قد أسرفت في تعذيبه على الإسلام، فلما دخل علي … قلت له: اطلب لي جوارا من محمد، فإني لا آمن أن أقتل … فذهب عبد الله إلى النبي ﷺ وقال:
أبي … أتؤمنه يا رسول الله جعلت فداك؟!.
قال: (نعم … هو آمن بأمان الله، فليظهر)، ثم التفت إلى أصحابه وقال:
(من لقي منكم سهيلا فلا يسئ لقاءه فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف، وما مثل سهيل يجهل الإسلام، ولكن قدر فكان).
* * *
أسلم سهيل بن عمرو بعد ذلك إسلاما ملك عليه قلبه ولبه، وأحب الرسول الكريم ﷺ حبا أحله في السويداء (١٧) من فؤاده.
قال الصديق رضوان الله عليه:
لقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجة الوداع قائما بين يدي رسول الله ﷺ، وهو يقدم له البدن (١٨)، ورسول الله ﷺ ينحرها (١٩) بيده الكريمة، ثم دعا النبي ﷺ الحلاق فحلق رأسه … فنظرت إلى سهيل، وهو يلتقط الشعرة من شعر النبي ﷺ، ويضعها على عينيه …
فتذكرت يوم "الحديبية"، وكيف أتى أن يكتب "محمد رسول الله" فحمدت الله على أن هداه.
* * *
عكف (٢٠) سهيل منذ أسلم على ما يقربه من الله، وينفعه في أخراه.
فلم يكن بين من أسلموا بعد الفتح؛ من هو أكثر منه صلاة، ولا صوما ولا صدقة، ولا رقة قلب، ولا كثرة بكاء من خشية الله.
ثم إنه جعل كل يوم يمضي إلى معاذ بن جبل (٢١) حتى يقرئه شيئا من القرآن، فقال له ضرار بن الخطاب:
يا أبا زيد، إنك تأتي هذا "الخزرجي" ليقرئك القرآن؛ أفلا جئت إلى رجل من قومك من قريش؟!!.
فقال: يا ضرار، إن هذا الذي تقوله أثر من آثار الجاهلية وهو الذي صنع بنا ما صنع حتى سبقنا إلى كل خير، وإن الإسلام أذهب عنا عصبية الجاهلية، ورفع أقواما لم يكن لهم ذكر … ليتنا كنا معهم فتقدمنا كما تقدموا.
* * *
وقد ظل سهيل بن عمرو يشعر بفضل السابقين إلى الإسلام عليه وعلى أمثاله، ويدرك ما بينه وبينهم من فرق …
فقد حضر ذات يوم إلى باب عمر بن الخطاب هو والحارث بن هشام، وأبو سفيان بن حرب، وحضر معهم عمار بن ياسر (٢٢)، وصهيب الرومي (٢٣)، ورجال من الموالي من أصحاب السابقة فخرج آذن عمر وقال:
ليدخل عمار، ليدخل صهيب … فجعل القوم من قريش ينظر بعضهم إلى بعض، مغضبين، ثم قال قائلهم:
لم نر كيومنا هذا قط، يأذن عمر لهؤلاء؛ ونحن على بابه لا يلتفت إلينا؟!! …
فقال سهيل: إن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم:
دعي القوم ودعينا؛ فأسرعوا وأبطأنا … فكيف بنا إذا دعوا يوم القيامة إلى الجنة وتركنا؟! …
أما والله، إن ما سبقوكم إليه من الفضل مما لا ترونه أعظم من هذا الباب الذي تتنافسون عليه.
ثم قال: إن هؤلاء سبقوكم إلى ما سبقوكم إليه، ولا سبيل لكم - والله - إلى استدراك (٢٤) ما فات إلا بالجهاد والاستشهاد …
ثم نفض ثوبه وقام.
* * *
كانت رحى الحروب دائرة إذ ذاك على تخوم الشام بين المسلمين والروم، فجمع سهيل بن عمرو أبناءه وأزواجه وحفدته، وتوجه بهم إلى بلاد الشام ليرابط (٢٥) معهم في سبيل الله، وقال لمن معه:
والله لا أدع موقفا وقفته مع المشركين إلا وقفت مع المسلمين مثله، ولا نفقة أنفقتها مع المشركين إلا أنفقت مثلها …
ووالله لأبقين مرابطا في سبيل الله حتى أقتل شهيدا، أو أموت غريبا عن مكة.
* * *
بر سهيل بن عمرو بقسمه؛ فشهد مع المسلمين "اليرموك" وأبلى فيها بلاء المؤمنين الصادقين …
ثم ما زال ينتقل من معركة إلى أخرى، حتى حل بديار الشام طاعون "عمواس" (٢٦)، فمات فيه سهيل، وكل من معه من أولاده وذويه.
رضي الله عن سهيل بن عمرو، وكتبه مع النبيين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا (*).
_________
(١) المرموقين: الذين ينظر الناس إليهم إعجابا بهم.
(٢) المفوه: البليغ الكلام.
(٣) صدع: أعلن وجهر.
(٤) نظره الثاقب: النظر النافذ الذي لا يغيب عنه شيء.
(٥) نمي إليه: وصل إليه.
(٦) كبله: قيده.
(٧) يفتن: يجعل تعذيبه أنواعا من الفنون.
(٨) فسري عنه: انكشف همه وانشرح صدره.
(٩) النشوة: هزة الطرب.
(١٠) يشهر سيفه: سله ورفعه.
(١١) يريد المفاداة: يريد أن يفدي نفسه بالمال.
(١٢) الثنية: سن في مقدم الفم إذا خلعت عجز المرء عن الكلام.
(١٣) المحافل: مجامع القوم.
(١٤) الذعر: الخوف الشديد.
(١٥) سقط في يده: عجز وقلت حيلته.
(١٦) اقتحمت بيتي: دخلت بيتي، وسجنت نفسي فيه.
(١٧) السويداء: حبة القلب.
(١٨) البدن: جمع بدنة وهي الناقة تقدم للهدي في الحج والعمرة.
(١٩) ينحر: يذبح.
(٢٠) عكف على الأمر: لزمه وواظب عليه.
(٢١) معاذ بن جبل: انظره ص ٤٩٣.
(٢٢) عمار بن ياسر: انظر آل ياسر ص ٥٠١.
(٢٣) صهيب الرومي: انظره ص ١٩٣.
(٢٤) الاستدراك: العمل على تعويض ما فات، واللحاق به.
(٢٥) ليرابط معهم: ليلازم تخوم العدو.
(٢٦) عمواس: بلدة بالشام؛ منها كان ابتداء الطاعون ثم فشا في أرض الشام؛ فمات فيه خلق كثير، وسمي الطاعون باسمها.
مختارات