" وسائل تطييب النفوس "
" وسائل تطييب النفوس "
مواساة المنكسرين وتطيب خواطرهم لا يقتصر على الكلام فقط، بل قد تكون المواساة وتطييب الخواطر بالمال، وقد تكون بالجاه، وقد تكون بالنصيحة والإرشاد، وقد تكون بالدعاء والاستغفار لهم، وقد تكون بقضاء حوائجهم، فعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة، فكلما ضعف الإيمان ضعفت المواساة، وكلما قوي قويت (الفوائد (17) بتصرف).
فمن وسائل تطييب النفوس ما يلي:
1 - المواساة عند فقد الأحبة: فمما يجبر كسر النفوس المصابة عند فقد الأحبة: لطيف التعزية، فإن الكلمة الطيبة للمصاب يثبت بها بإذن الله ويغدو صبره عليها سهلاً يسيراً، فإن العبد ضعيف بنفسه، فإذا وجد هذا يعزيه، وهذا يسليه، سهلت عليه الأمور العظام.
وعندما توفيت ابنة المهدي جزع عليها جزعاً لم يسمع بمثله فجلس الناس يعزونه فجاءه ابنُ شيبة يوماً فقال له: أعطاك الله يا أمير المؤمنين على ما رزئت أجراً، وأعقبك صبراً، ولا أجهد الله بلاءك بنقمة، ولا نزع منك نعمة، ثواب الله خير لك منها، ورحمة الله خير لها منك، وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل إلى رده (وفيات الأعيان ).
فلم يروا تعزية أبلغ ولا أوجز من هذه التعزية، وكان مما سُرِّىَ على المهدي بها.
ومن لطيف التعزية ماقيل من بعض الأعراب عندما دخل على بعض ملوك بني العباس وقد توفي له ولد اسمه العباس فعزاه ثم قال: خير من العباس أجرك بعده والله خير منك للعباس
2 - الاعتذار للآخرين، وقبول أعذار المعتذرين: فالحرص على الاعتذار عند الخطأ، من وسائل تطييب النفوس ؛ لأن الإنسان يَرِدُ عليه الخطأ في تعامله مع الناس ؛ وكفاره ذلك الذنب هو الاعتذار.
وكذلك هو الحال (لمن أساء إليك ثم جاء يعتذر من إساءته ؛ فإن التواضع يٌوجب عليك قبول معذرته، حقاً كانت أو باطلاً، وتكل سريرته إلى الله...) (مدارج السالكين ).
3 - تبادل الهدايا: للهدية أثر واضح في تطييب النفوس، وتصفية القلوب من الأدغال و الأحقاد، فعن أنس رضي الله عنه أنه قال: (يا بني ! تباذلوا بينكم؛ فإنه أودُّ لما بينكم) ( رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني ).
وروي عن أبي يوسف: (أن الرشيد أهدى إليه مالاً كثيراً، فورد عليه وهو جالس مع أصحابه، فقال له أحدهم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «جلساؤكم شركاؤكم» (قال ابن عبد البر: إسناده فيه لين: التمهيد )، فقال له أبو يوسف: " إن هذا الكلام لم يرد في مثل هذا، وإنما ورد فيما خف من الهدايا، وفيما يؤكل ويشرب مما تطيب النفوس ببذله والسماحة به " (شرح ابن بطال ).
4 - الابتسامة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَبسُّمكَ في وجه أخيك لك صدقة » (رواه الترمذي وصححه الألباني) يعني: أن إظهارك البشاشة والبشر إذا لقيته تؤجر عليه كما تؤجر على الصدقة (فيض القدير )، فضلاً عن كونها تطيب النفوس، وتزيد المحبة.
قال ابن عيينه رحمه الله: " البشاشة مصيدة المودة "، فقد يصادفك شخص في الطريق وأنت مهمومٌ مغمومٌ حزينٌ ؛ فيبتسم في وجهك، فتشعر أنه همك قد زال، وحزنك قد رحل.
وجاء في الأثر أن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: «إذا التقى المسلمان فضحك كل واحد منهما في وجه صاحبه، ثم أخذ بيده تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر»(رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان، وهناد في الزهد ) فالابتسامة إذن تنشر المحبة بين المسلمين، وتطيب خواطرهم، وتبعث الاطمئنان في نفوسهم وقلوبهم.
5 - قضاء حوائج الناس: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة» (رواه النسائي، وصححه الألباني ).
قال حكيم بن حزام رضي الله عنه " ما أصبحت وليس ببابي صاحب حاجة إلا علمت أنها من المصائب التي أسأل الله الأجر عليها " (سير أعلام النبلاء ).
ومشى بَقِي بن مخلد مع ضعيف في مظلمة إلى إشبيلية، ومشى مع آخر إلى إلبيرة، ومع امرأة ضعيفة إلى جَيَّان (سير أعلام النبلاء ) هذا مع كثر عبادته، وكثرة طلابه وانشغاله بالعلم والتأليف.
6 - التزاور: زيارة المريض حال مرضه، وزيارة الإخوان بين حين وآخر له أثر كبير في تطييب النفوس، وتنمية المودة والألفة.
7 - فهم النفسيات: النفس البشرية كالبحر، والنفوس تختلف باختلاف أصحابها، فما يصلح لهذه قد لايصلح للأخرى، ولله در شبيب بن شيبة حينما قال: " لا تجالس أحداً بغير طريقه، فإنك إذا أردت لقاء الجاهل بالعلم، واللاهي بالفقه، والعِيِّ بالبيان آذيت جليسك " (آداب العشرة ).
وهذا المنيعي حسان بن سعيد المخزومي عندما أراد أن يبني جامعاً أتته امرأة بثوب لتبيعه وتنفق ثمنه في بناء ذلك الجامع، وكان الثوب لا يساوي أكثر من نصف دينار، فطيب خاطرها، واشتراه منها بألف دينار، وخبأ الثوب كفنا له (سير أعلام النبلاء ).
8 - إخفاء الفضل والمنة عند جبر الخواطر: كان القعقاع بن شَوْرٍ إذا قصده رجلٌ، وجالسه، جعل له نصيباً من ماله، وأعانه على عدوه، وشفع له في حاجته، وغدا إليه بعد المجالسة شاكراً (الكامل للمبرد ).
فهذه بعض وسائل تطييب النفوس والخواطر، نسأل الله أن ينفعنا جميعاً.
ولنعلم أن المريض، والمهموم، والحزين، والطبيب، والموظف، والداعية، والغني، والفقير، والصغير، والكبير، الكل يحتاج إلى الكلمة الطيبة، والابتسامة المشرقة، والتعامل الحسن، فجميعنا يحتاج إلى هذه العبادة.
ولذلك ينبغي على الجميع إحياء هذه العبادة وتفعيلها مع الصغار والكبار، مع المرضى والأصحاء، مع الطلاب والمعلمين، مع العالم والجاهل، مع المصيب و المخطيء.
فقد يصبح الطفل من العلماء والعظماء النابهين النافعين، لأمته بكلمةٍ تشجيعية يسمعها من معلمه، أو أحد والديه.
وقد يصبح المريض الذي أعياه الألم، صحيحاً سليماً معافى بعبارة مشجعة، ودعوة طيبة، وابتسامة صادقة، من زائريه.
وقد يصبح المخطئ والمقصر والمسرف على نفسه صالحاً مصلحاً بموعظة حسنة وذكرى نافعة وتوجيه سديد.
ولابد من استثمار موقف الضعف عند العبد ؛ لربطه بالله وحده.. فهو سلوة المنكوبين.. وملاذ المنكسرين.. وهو الذي يملك كشف الضرِّ.. " أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ " [النمل:62]. وتذكيره بالثواب العظيم لأهل البلاء ؛ كما جاء عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما يصيب المسلم من نَصَبٍ ولا وَصَب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غَمٍّ حتى الشوكة يُشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه» (رواه البخاري ).
وكم من أُناس تبدَّلت أحوالهم، وتغيَّرت أمورهم، بسبب فتنة أو محنة ألمت بهم، وتصبيرهم وتثبيتهم حتم وواجب ؛ حتى لا يكونوا ممن تعصف بهم الأزمات والفتن، وتموج بهم رياح الابتلاء والمحن.
نسأل الله أن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يؤلف بين قلوبنا، ويصلح ذات بيننا، ويجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.
مختارات