62. جابر بن عبد الله الأنصاري
جابر بن عبد الله الأنصاري
"روى للمسلمين عن نبيهم الأعظم ﷺ ألفا وخمسمائة وأربعين حديثا"
مضى الركب يحث (١) الخطى من "يثرب" إلى مكة تحدوه (٢) الأشواق ويدفعه الحنين …
فلقد كان على موعد مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وكان كل من في الركب يتلهف شوقا إلى تلك اللحظة التي يسعد فيها بلقاء النبي .
.
ووضع يده في يده ليبايعه على السمع والطاعة …
ويعاهده على التأييد والنصر …
وكان في الركب شيخ من وجوه القوم أردف وراءه (٣) غلامه الصغير الوحيد، وخلف في "يثرب" تسع بنات، إذ لم يكن له صبي غيره …
ولقد كان الشيخ حريصا أشد الحرص على أن يشهد غلامه الصغير البيعة …
وألا يفوته ذلك اليوم العظيم من أيام الله …
أما ذلك الشيخ فهو "عبد الله بن عمرو الخزرجي الأنصاري" …
وأما غلامه فهو "جابر بن عبد الله الأنصاري".
* * *
أشرق الإيمان في فؤاد جابر بن عبد الله وهو صغير غض (٤) فأضاء كل جانب من جوانبه …
ومس الإسلام قلبه الصغير كما تمس قطرات الندى أكمام الزهر (٥) فتفتحها، وتفعمها (٦) بالشذى والعطر … وتوثقت (٧) صلاته بالرسول صلوات الله وسلامه عليه منذ نعومة أظفاره (٨).
* * *
ولما وفد الرسول الأعظم ﷺ على المدينة مهاجرا؛ تتلمذ الصبي المؤمن على يدي نبي الهدى والرحمة، فكان من أنجب (٩) من أخرجتهم المدرسة المحمدية للناس حفظا لكتاب الله …
وفقها (١٠) في دين الله …
ورواية لحديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
وحسبك أن تعلم أن "مسند جابر بن عبد الله" يضم بين دفتيه ألفا وخمسمائة وأربعين حديثا …
حفظها التلميذ النجيب، ورواها للمسلمين عن نبيهم الأعظم ﷺ.
وأن البخاري ومسلما أثبتا في صحيحيهما ما ينوف على مائتين من أحاديثه تلك …
وأنه ظل مصدر إشعاع وهداية للمسلمين دهرا طويلا؛ فلقد مد الله في حياته حتى أوشك أن يبلغ من العمر قرنا من الزمان.
* * *
لم يشهد جابر بن عبد الله "بدرا" ولا "أحدا" مع رسول الله ﷺ … لأنه كان صغيرا من جهة … ولأن أباه كان يأمره بالبقاء مع أخواته التسع من جهة أخرى؛ ذلك لأنه لم يكن لهن أحد سواه يقوم على أمرهن.
حدث جابر قال:
لما كانت الليلة التي سبقت "أحدا" دعاني أبي وقال:
إني لا أراني إلا مقتولا مع أول من يقتل من أصحاب رسول الله ﷺ، وإني - والله - ما أدع أحدا أعز علي منك بعد رسول الله ﷺ.
وإن علي دينا، فاقض ديني …
وارحم أخواتك … واستوص بهن خيرا.
فلما أصبحنا كان أبي أول قتيل قتل في "أحد".
فلما دفنته أتيت النبي، فقلت:
يا رسول الله إن أبي ترك دينا عليه …
وليس عندي ما أفيه (١١) به إلا ما يخرجه ثمر نخيله، ولو عمدت إلى وفاء دينه من ذلك الثمر لما أديته في سنين …
ولا مال لأخواتي أنفق عليهن منه غير هذا.
فقام رسول الله ﷺ، ومضى معي إلى بيدر (١٢) تمرنا وقال لي: (ادع غرماء (١٣) أبيك)، فدعوتهم.
فما زال يكيل لهم منه حتى أدى (١٤) الله عن أبي دينه كله من تمر تلك السنة.
ثم إني نظرت إلى البيدر فوجدته كما هو …
كأنه لم تنقص منه تمرة واحدة …
* * *
ومنذ توفي والد جابر لم تفته غزوة واحدة مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
ولقد كانت له في كل غزوة حادثة تروى وتحفظ.
فلنترك له الكلام ليروي لنا إحدى حوادثه مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
قال جابر:
كنا يوم "الخندق" نحفر، فعرضت لنا صخرة شديدة عجزنا عن تحطيمها، فجئنا إلى الرسول وقلنا: يا نبي الله لقد وقفت في سبيلنا صخرة صلدة، ولم تفعل معاولنا (١٥) فيها شيئا.
فقال: (دعوها فإني نازل إليها).
ثم قام، وكان بطنه معصوبا بحجر من شدة الجوع؛ ذلك لأننا كنا أمضينا أياما ثلاثة لم نذق خلالها طعاما، فأخذ النبي المعول، وضرب الصخرة فغدت كثيبا (١٦) مهيلا (١٧).
عند ذلك ازداد أساي على ما أصاب الرسول الأعظم ﷺ من الجوع، فاتجهت إليه وقلت: أتأذن لي يا رسول الله بالمضي إلى بيتي؟.
فقال: (امض).
فلما بلغت البيت قلت لامرأتي: لقد رأيت برسول الله من مرارة الجوع ما لا يصبر عليه أحد من البشر، فهل عندك من شيء؟.
قالت: عندي قليل من الشعير، وشاة صغيرة، فقمت إلى الشاة فذبحتها وقطعتها، وجعلتها في القدر، وأخذت الشعير فطحنته ودفعته إلى امرأتي، فعجنته فلما وجدت أن اللحم كاد ينضج …
وأن العجين قد لان؛ وأوشك (١٨) أن يختمر.
مضيت إلى رسول الله ﷺ، وقلت له:
طعيم (١٩) صنعناه لك يا نبي الله؛ فقم أنت ورجل أو رجلان معك.
فقال: (كم هو)؟.
فوصفته له … فلما علم النبي بمقدار الطعام قال:
(يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع لكم طعاما فهلموا (٢٠) إليه) …
ثم التفت إلي وقال: (امض إلى زوجتك وقل لها:
لا تنزلي قدرك، ولا تخبزي عجينك حتى أجيء).
فمضيت إلى البيت؛ وقد ركبني من الهم والحياء ما لا يعلمه إلا الله.
وجعلت أقول: أيجيئنا أهل الخندق على صاع من شعير.
وشاة صغيرة؟!
ثم دخلت على امرأتي وقلت: ويحك (٢١)؛ لقد افتضحت (٢٢) …
فرسول الله ﷺ سيأتينا بأهل الخندق أجمعين.
فقالت: هل سألك: كم طعامك؟.
قلت: نعم.
فقالت: سر (٢٣) عن نفسك، فالله ورسوله أعلم، فكشفت عني غما (٢٤) شديدا بمقالتها تلك.
وما هو إلا قليل حتى أقبل رسول الله ﷺ …
ومعه الأنصار والمهاجرون، فقال لهم:
(ادخلوا، ولا تزدحموا).
ثم قال لامرأتي: (هات خابزة فلتخبز معك …
واغرفي من قدرك …
ولا تنزليها عن الموقد).
ثم طفق يكسر الخبز، ويجعل عليه اللحم، ويقربه إلى أصحابه …
وهم يأكلون.
حتى شبعوا جميعا.
ثم أردف (٢٥) جابر قائلا:
أقسم بالله إنهم انفضوا عن الطعام وإن قدرنا لتفور ممتلئة كما هي …
وإن عجيننا ليخبز كما هو …
ثم إن رسول الله ﷺ قال لامرأتي:
(كلي …
واهدي) …
فأكلت، وجعلت تهدي سحابة (٢٦) ذلك اليوم كله.
* * *
هذا ولقد ظل جابر بن عبد الله الأنصاري مصدر إشعاع وهداية للمسلمين دهرا طويلا، حيث مد الله في أجله حتى أوشك أن يبلغ من العمر قرنا من الزمان.
ولقد خرج ذات سنة إلى بلاد الروم غازيا في سبيل الله.
وكان الجيش بقيادة مالك بن عبد الله الخثعمي.
وكان مالك يطوف بجنوده وهم منطلقون ليقف على أحوالهم، ويشد من أزرهم (٢٧)، ويولي كبارهم ما يستحقونه من عناية ورعاية.
فمر بجابر بن عبد الله، فوجده ماشيا …
ومعه بغل له يمسك بزمامه (٢٨)، ويقوده.
فقال له: ما بك يا أبا عبد الله؟ …
لم لا تركب؟!، وقد يسر الله لك ظهرا يحملك عليه.
فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار).
فتركه "مالك" ومضى حتى غدا في مقدمة الجيش.
ثم التفت إليه، وناداه بأعلى صوته، وقال:
يا أبا عبد الله، ما لك لا تركب بغلك، وهو في حوزتك (٢٩)؟!.
فعرف جابر قصده، وأجابه بصوت عال وقال:
لقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار).
فتواثب (٣٠) الناس عن دوابهم …
وكل منهم يريد أن يفوز بهذا الآخر.
فما رئي جيش أكثر مشاة من ذلك الجيش.
* * *
هنيئا لجابر بن عبد الله الأنصاري:
فقد بايع الرسول الأعظم ﷺ وهو طفيل لم يبلغ الحلم …
وتتلمذ على يديه منذ نعومة أظفاره …
وروى حديثه فتناقلته عنه الرواة …
وجاهد مع رسول الله ﷺ وهو شاب موفور الشباب.
وغبر قدميه في سبيل الله وهو شيخ طاعن في السن (*).
_________
(١) يحث الخطى: يسرع الخطى.
(٢) تحدوه الأشواق: تسوقه.
(٣) أردف وراءه: أركبه خلفه.
(٤) غض: نضر طري.
(٥) أكمام الزهر: الأغلفة التي تحيط بالزهر.
(٦) تفعمها: تملؤها.
(٧) توثقت: تمكنت وتقوت.
(٨) منذ نعومة أظفاره: منذ طفولته.
(٩) أنجب: أكرم وأنفس وأفضل.
(١٠) وفقها: الفقه، الفهم والوعي بما يلقى عليه.
(١١) أفيه: أؤديه.
(١٢) البيدر: الموضع الذي يكوم ويجمع فيه التمر.
(١٣) غرماء: مفرده غريم: الدائن.
(١٤) أدى: قضى ما عليه ووفاه.
(١٥) معاولنا: مفرده معول وهي أداة لحفر الأرض.
(١٦) كثيبا: تلا من الرمل.
(١٧) مهيلا: ينهال فيتساقط ولا يتماسك.
(١٨) أوشك: دنا وقارب.
(١٩) طعيم: القليل من الطعام.
(٢٠) هلموا: تعالوا، وتكون لازمة ومتعدية وهي من من أسماء الأفعال.
(٢١) ويحك: كلمة ترحم وتوجع.
(٢٢) افتضحت: انكشفت واشتهر حالي.
(٢٣) سر: ألق الهم وأزحه.
(٢٤) غما: حزنا.
(٢٥) أردف: تابع وأكمل.
(٢٦) سحابة ذلك اليوم: طوال ذلك اليوم.
(٢٧) شد أزرهم: قواهم.
(٢٨) الزمام: حبل تشد به الدابة وتقاد.
(٢٩) حوزتك: ملكك.
(٣٠) تواثب الناس: قفزوا من فوقها.
مختارات