" عقبة الإرجاء "
" عقبة الإرجاء "
هذه العقبة من أخطر العقبات التي يقع فيها أكثر الخلق إلا من رحم ربي؛ فإن الإنسان لا يعرف أن المعاصي تضره في دينه ودنياه وآخرته، وأنها سببٌ لغضب الله عليه، وتُعَرِّضُه لأنواع البلاء؛ كما قال سبحانه: " وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ " [الشورى: 30]؛ ومع ذلك فإن الإنسان تغالطه نفسه؛ فيفعل المعاصي والسيئات، ويتَّكل على عفو الله ومغفرته تارة، وعلى التسويف بالتوبة تارة، وعلى الاستغفار باللسان مع الإصرار على العودة إلى المعصية تارة، وعلى فعل المندوبات تارة، وعلى الاحتجاج بالقدر تارة، وكثير من الناس يظن أنه لو فعل ما فعل ثم قال: «أستغفر الله» زال الذنب ولم يعد له أثر.
الإيمان اعتقاد وقول وعمل
والذي أوقع هؤلاء فيما ذهبوا إليه هو اعتقادهم بأنَّ الإيمانَ هو التصديق، وأنه لا يضر مع التصديق معصية، طالما أن الإيمان في قلوبهم.
والإيمان عند أهل الحق يقوم على ثلاثة أركان:
اعتقاد بالقلب.
وقول باللسان.
وعمل بالجوارح.
وأن الأعمال داخلةٌ في مسمَّى الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان.
رجاء كاذب
ويستدل هؤلاء العُصاة ببعض الأدلة من القرآن والسنة كقوله تعالى: " إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا " [الزمر: 53]، قال ابن القيم: وهذا أيضًا من أقبح الجهل؛ فإنَّ الشركَ داخلٌ في هذه الآية؛ فإنه رأسُ الذنوب وأساسُها، ولا خلافَ أن هذه الآيةَ في حقِّ التائبين؛ فإنه يغفر ذنب كلِّ تائب من أيِّ ذنب كان؛ ولو كانت الآية في حقِّ غير التائبين لبطلت نصوص الوعيد كلها.. وفي سورة النساء خَصَّصَ وقَيَّدَ فقال: " إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ " [النساء: 48]؛ فأخبر – سبحانه - أنه لا يغفر الشرك، وأخبر أنه يغفر ما دونه؛ ولو كان هذا في حقِّ التائب لم يفرق بين الشرك وغيره.
أُعدَّت للكافرين
ومنهم من يقول: إن الله عز وجل أخبر أنَّ النارَ " أُعِدَّتْ للكَافرين " [آل عمران: 133]، ولا ينافي أن يدخلها من في قلبه أدنى مثقال ذرة من الإيمان؛ كما أخبرت بذلك النصوص الصحيحة.
ولو جمع هؤلاء بين النصوص لتخلصوا من هذا الجهل؛ قال تعالى: " وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ " [النساء: 14]؛ فماذا يقول هؤلاء في هذه الآية؟ ! غير أننا لا نضرب كتاب الله بعضه ببعض، ولا نقول: إنَّ كلَّ عاص يخلَّد في النار؛ لأن الخلود في النار خاصٌّ بالكفَّار والمشركين؛ لأن أهلَ التَّوحيد إذا قضى الله عليهم بالعذاب في النار بسبب معاصيهم، فإنهم يخرجون منها ولا يبقى في النار من أهل التوحيد أحد.
صور من الغرور
ومن صور جهل هؤلاء وغرورهم أنَّهم يتعلَّقون بفعل بعض الفضائل؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قال في يوم: " سبحان الله وبحمده " مائة مرة حُطَّت عنه خطاياه ولو كانت مثل زَبَد البحر» (متفق عليه)وقوله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل في الرجل الذي يذنب ويستغفر: «علم عبدي أن له ربًّا يغفر الذَّنبَ ويأخذ به، غَفَرْتُ لعبدي فليصنع ما شاء» (متفق عليه)، وكاغترار بعضهم بالاعتماد على صوم يوم عاشوراء أو يوم عرفة؛ حتى قال بعضهم: صوم يوم عاشوراء يُكَفِّرُ ذنوب العام كلَّها ويبقى صوم عرفة زيادة في الأجر.
ولم يدر هذا المغترُّ أنَّ صومَ رمضان والصلوات الخمس التي هي أعظم وأجلُّ من صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء لا تقوى على تكفير الصَّغائر إلا إذا اجْتُنبت الكبائر! كما قال صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مُكَفِّراتٌ لما بينهنَّ إذا اجْتُنبت الكبائر»(رواه مسلم) ؛ فرمضان إلى رمضان والجمعة إلى الجمعة لا يقويان على تكفير الصغائر إلا مع انضمام ترك الكبائر إليها؛ فيقوى مجموع الأمرين على تكفير الصَّغائر؛ فكيف يُكفِّر صوم يوم تطوُّع؟! أو قول: " سبحان الله وبحمده " مائة مرة كلَّ كبيرة عملها العبدُ وهو مُصرٌّ عليها غير تائب منها؟! هذا مُحالٌ.
فالإصرار على الكبائر يمنع من تكفير الذنوب، ولذلك فليس هناك حُجَّةٌ لمن قال: أنا أفعل ما أفعل من الذنوب ثم أقول: " سبحان الله وبحمده " مائة مرة وقد زال كلُّ ما فعلتُ أو يقول: " أنا أفعل ما أفعل ثم أذهب إلى مكة وآخذ عمرة " فيزول عني كلُّ ذنب. فإنَّ هذا من الغرور، وهو عين الجرأة على الله تعالى.
حسنُ الظَّنِّ هو حسنُ العمل
وربما قال بعضُ هؤلاء: إنَّنا نحسن الظَّنَّ بربِّنا، وقد قال في الحديث القدسيِّ: «أنا عند حسن ظن عبدي بي» (متفق عليه) ؛ ولا شكَّ أنَّ حسنَ الظَّنِّ يدعو إلى حسن العمل.
قال ابن القيم - رحمه الله: «حسنُ الظَّنِّ بالله هو حسنُ العمل نفسه؛ فإنَّ العبدَ إنَّما يحمله على حسن العمل: حسنُ ظَنِّه بربِّه أن يجازيه على أعماله، ويثيبه عليها، ويتقبلها منه؛ فكلَّما حسن ظنُّه بربِّه حسن عمله؛ وإلَّا فحسنُ الظَّنِّ مع اتِّباع الهوى عجزٌ.. وكثيرٌ من الجُهَّال اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه، ونسوا أنه شديد العقاب، وأنه لا " يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِي "، ومن اعتمد على العفو مع الإصرار على الذنب فهو كالمعاند.
قال بعض العلماء: من قطع عضوًا منك في الدنيا بسرقة ثلاثة دراهم، لا تأمن أن تكون عقوبتُه في الآخرة نحوَ هذا.
غرورُ النِّعمة
كثير من الناس يَظُنُّ أنه على خير، وأنه من أهل النَّجاة والسعادة يوم القيامة بسبب ما يرى من نعم الله عليه في الدنيا، فيقول: لولا أن الله - عز وجل - راض عنِّي لما أنعم عليَّ بهذه النِّعم، ويعتقد المسكينُ أنَّ هذه النِّعمَ بسبب محبَّة الله له، وأنه يعطيه في الآخرة أفضل من ذلك؛ مع أنه مقيمٌ على معصية الله، مرتكبٌ لما حرَّم الله، وهذا من الغرور الذي وقع فيه كثير من الناس؛ بل كثيرٌ من المجتمعات.
فعن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «إذا رأيت الله - عز وجل - يعطي العبد في الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنَّما هو استدراج» ثم تلا قولَه تعالى: " فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ " [الأنعام: 44] (رواه أحمد وصححه الألباني).
قال بعض السلف: إذا رأيتَ اللهَ يتابع عليك نعمه وأنت مقيمٌ على معاصيه فاحذره؛ فإنما هو استدراجٌ يستدرجك به.
وقد رَدَّ – سبحانه - على من يظن هذا الظَّنَّ بقوله: " فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن " [الفجر: 15-17]؛ أي ليس كلُّ من نعَّمْتُه ووَسَّعتُ عليه رزقه أكون قد أكرمته، ولا كلُّ من ابتليتُه وضيَّقْتُ عليه رزقه أكون قد أهنتُه؛ بل ابتلي هذا بالنِّعم، وأُكرم هذا بالابتلاء.
مختارات