الصّلِةُ المتينة الدَّائمة بَيْن الدِّين وَ المدينَّة وَالمجتمع
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾.
[سورة المائدة: الآية 3]
إن الدين إذا جُرّد عن المدينة – وقد جُرِّد كثيراً في التاريخ، وتكرَّرت هذه التجربة في فترات كثيرة – كان ديناً ولا حضارة، كان ديناً ولا اجتماع كان ديناً ولا حياة، فهو كطائر مقصوص الجناح منتوف الريش، لا يستطيع أن يطير ويحلّق في الأجواء، إنه طائر يرفرف ويضطرب، فهو أشبه ببلبل في قفص من ذهب، وإن كان بلبلاً غرّيداً أو عندليباً ساجعاً مترنماً. أما الدين الحقيقي فهو الدين الذي يطير بجناحيه في أجواء من المعاني وفي أجواء من الأخلاق والمعاملاتوالسياسة والمدينة، وهو يسبك الحياة سبكاً مطابقاً لعقيدته ولما يدين به. ظهر الإسلام فأنتج حضارة كاملة بحذافيرها، حضارة زاهية زاهرة، حضارة حكيمة عادلة، حضارة مؤسسة على توحيد الله تبارك وتعالى، والإيمان به، وعلى ذكر الله تعالى، واستحضار قدرته، واستحضار الآخرة والإيمان بأن الآخرة من الأولى، مؤسسة على العدل الاجتماعي، وعلى الاحترام للإنسانية والرحمة بها، وعلى الجمع بين الواجبات والحقوق في الوقت واحد، والأخذ والعطاء، والإفادة والاستفادة في حين واحد، وعلى الاعتراف بقيمة الإنسان أيّاً كان وأينما كان.
الحضارة قامت على أساس العقيدة، وعلى أساس التربية الإلهية، والنصوص القرآنية السماوية، وعلى أساس السيرة النبويّة، وأسوة الصحابة رضي الله عنهم، فكان أزهى حضارة وأفضل حضارة جرّبها الإنسان. ظهرت هذه الحضارة في الحجاز أولاً في مدينة الرسول، وفي مَهْجَره صلى الله عليه وآله وسلم، ثم خرجت من حدود المدينة وغزت العالم كله، وما دخلت في بلد من البلاد إلّا وخضع لها أهله طواعية لا كراهية، وتغلغلت في أحشاء البلاد أو المجتمع الذي فتحته. وتعلمون أن أمة إذا فتحت عنوة بحدّ السيف فإنها تُبغض الفاتحين، هذه تجربة التاريخ المتصلة المتكررة، ولكن الحضارة الإسلامية وقعت من قلوب المواطنين موقع الحبيب، وقبلتها البلاد وضمتها إلى صدرها، لأنها كانت حضارة طبيعية عادلة عاقلة، مؤسسة على مبدأ الإنسانية، ومبدأ الرحمة بها، وإخراج الناس من حكم البلاد إلى حكم الله تبارك وتعالى، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام.
فكل دين يجرَّد من الحضارة: دين صائر إلى الانقراض، ومصيره الزوال السريع. وكل دين يرضى أهله بهذا الموقف الضعيف المتخاذل، فيرضون من الدين بالعقيدة ولا يلحّن على مدينة خاصة هي نتاج هذا الدين، ويقتبسون أو يستوردون مدينة أخرى هي وليدة بيئة أخرى، وسليلة ديانة أخرى، ونتيجة أحداث وعوامل مرت بها أمة خاصة، أو بلد خاص: فإنهم يفقدون مع الأيام ومع تيار الزمان شخصيتهم، ويفقد الدّين الذي دانوا به السيطرة على نفوسهم وعقولهم، ويكونون صورة صادقة أو نسخة مطبوعة أمينة للأمة التي تطفوا على مائدتها، واقتبسوا منها الحضارة ونمط الحياة وهذا ما نتخوّفه اليوم على العالم الإسلامي الذي يقتبس من الغرب مدنيته وأساليب حياته.
المصدر:
- تأملات في القرآن الكريم: الإمام أبو الحسن الندوي.
مختارات