37. حبيب بن زيد الأنصاري
حبيب بن زيد الأنصاري
"بارك الله عليكم من أهل بيت، رحمكم الله من أهل بيت"
[من ثناء الرسول على حبيب وآل بيته]
في بيت تتضوع (١) طيوب الإيمان في كل ركن من أركانه …
وتلوح صور التضحية والفداء على جبين كل ساكن من سكانه … نشأ حبيب بن زيد الأنصاري ودرج.
* * *
فأبوه هو زيد بن عاصم طليعة المسلمين في "يثرب"، وأحد السبعين الذين شهدوا العقبة (٢) وشدوا على يدي رسول الله ﷺ مبايعين، ومعه زوجته وولداه.
وأمه هي أم عمارة نسيبة المازنية (٣) أول امرأة حملت السلاح دفاعا عن دين الله، وذيادا (٤) عن محمد رسول الله.
وأخوه هو عبد الله بن زيد الذي جعل نحره دون نحر (٥) النبي ﷺ وصدره دون صدره يوم "أحد" …
حتى قال فيهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه:
بارك الله عليكم من أهل بيت … رحمكم الله من أهل بيت) …
* * *
نفذ النور الإلهي (٦) إلى قلب حبيب بن زيد وهو غض طري، فاستقر فيه وتمكن منه.
وكتب له أن يمضي مع أمه وأبيه، وخالته وأخيه إلى مكة ليسهم مع النفر السبعين من الغر (٧) الميامين في صنع تاريخ الإسلام؛ حيث مد يده الصغيرة وبايع رسول الله ﷺ تحت جنح الظلام بيعة العقبة.
ومنذ ذلك اليوم غدا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أحب إليه من أمه وأبيه …
وأصبح الإسلام أغلى عنده من نفسه التي بين جنبيه …
* * *
لم يشهد حبيب بن زيد "بدرا"؛ لأنه كان يومئذ صغيرا جدا.
ولم يكتب له شرف الإسهام في "أحد"؛ لأنه كان ما يزال دون حمل السلاح …
لكنه شهد بعد ذلك المشاهد كلها مع رسول الله ﷺ، فكان له في كل منها راية عز …
وصحيفة مجد …
وموقف فداء …
غير أن هذه المشاهد على عظمتها وروعتها لم تكن في حقيقتها سوى إعداد ضخم للموقف الكبير الذي سنسوق لك حديثه، والذي سيهز ضميرك في عنف كما هز ضمائر ملايين المسلمين؛ منذ عصر النبوة وإلى يومنا الذي نحن فيه.
والذي ستروعك قصته كما راعتهم على مر العصور.
فتعال نستمع إلى هذه القصة العنيفة من بدايتها.
* * *
في السنة التاسعة للهجرة كان الإسلام قد صلب (٨) عوده، وقويت شوكته (٩) ورسخت دعائمه، فطفقت وفود العرب تشد الرحال من أنحاء الجزيرة إلى "يثرب" للقاء رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وإعلان إسلامها بين يديه، ومبايعته على السمع والطاعة.
وكان في جملة هذه الوفود وفد بني "حنيفة" القادم من أعالي "نجد".
* * *
أناخ الوفد جماله في حواشي (١٠)، مدينة رسول الله ﷺ، وخلف على رحاله (١١) رجلا منه يدعى "مسيلمة بن حبيب الحنفي"، ومضى إلى النبي ﷺ، وأعلن إسلامه وإسلام قومه بين يديه؛ فأكرم الرسول صلوات الله وسلامه عليه وفادتهم (١٢)، وأمر لكل منهم بعطية وأمر لصاحبهم الذي خلفوه في رحالهم بمثل ما أمر لهم به.
* * *
لم يكد يبلغ الوفد منازله في "نجد" حتى ارتد مسيلمة بن حبيب عن الإسلام، وقام في الناس يعلن لهم:
أنه نبي مرسل أرسله الله إلى بني "حنيفة" كما أرسل محمد بن عبد الله إلى قريش …
فطفق قومه يلتفون حوله مدفوعين إلى ذلك بدوافع شتى كان أهمها العصبية (١٣)، حتى إن رجلا من رجالاتهم قال:
"أشهد أن محمدا لصادق وأن مسيلمة لكذاب؛ ولكن كذاب ربيعة (١٤) أحب إلي من صادق مضر (١٥) ".
* * *
ولما قوي ساعد مسيلمة وغلظ (١٦) أمره كتب إلى رسول الله ﷺ كتابا جاء فيه: "من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك.
أما بعد … فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون".
وبعث الكتاب مع رجلين من رجاله؛ فلما قرئ الكتاب للنبي قال للرجلين: (وما تقولان أنتما؟!).
فأجابا: نقول كما قال.
فقال لهما: (أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقيكما)، ثم كتب إلى مسيلمة رسالة جاء فيها:
﷽
(من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب.
السلام على من اتبع الهدى، أما بعد … فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) …
وبعث الرسالة مع الرجلين.
* * *
ازداد شر مسيلمة الكذاب واستشرى (١٧) فساده، فرأى الرسول صلوات الله عليه أن يبعث إليه برسالة يزجره فيها عن غيه (١٨)، وندب لحمل الرسالة بطل قصتنا حبيب بن زيد.
وكان يومئذ شابا ناضر الشباب مكتمل الفتاء (١٩) مؤمنا من قمة رأسه إلى أخمص قدميه.
* * *
مضى حبيب بن زيد إلى ما أمره رسول الله ﷺ غير وان (٢٠) ولا متريث (٢١) ترفعه النجاد (٢٢) وتحطه الوهاد (٢٣) حتى بلغ ديار بني "حنيفة" في أعالي "نجد"، ودفع الرسالة إلى مسيلمة.
فما كاد مسيلمة يقف على ما جاء فيها حتى انتفخ صدره ضغينة وحقدا، وبدا الشر والغدر على قسمات (٢٤) وجهه الدميم الأصفر، وأمر بحبيب ابن زيد أن يقيد، وأن يؤتى به إليه ضحى اليوم التالي.
فلما كان الغد تصدر مسيلمة مجلسه، وجعل عن يمينه وعن شماله الطواغيت (٢٥) من كبار أتباعه، وأذن للعامة بالدخول عليه، ثم أمر بحبيب بن زيد فجيء به إليه وهو يرسف (٢٦) في قيوده.
* * *
وقف حبيب بن زيد وسط هذه الجموع الحاشدة الحاقدة مشدود
القامة، مرفوع الهامة، شامخ الأنف، وانتصب بينها كرمح سمهري (٢٧) أحكم المتقفون (٢٨) تقويمه.
فالتفت إليه مسيلمة وقال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟.
فقال: نعم أشهد أن محمدا رسول الله.
فتميز (٢٩) مسيلمة غيظا وقال: وتشهد أني رسول الله؟.
فقال حبيب في سخرية لاذعة: إن في أذني صمما عن سماع ما تقول.
فامتقع (٣٠) وجه مسيلمة وارتجفت شفتاه حنقا (٣١) وقال لجلاده:
اقطع قطعة من جسده.
فأهوى الجلاد على حبيب بسيفه وبتر قطعة من جسده؛ فتدحرجت على الأرض …
ثم أعاد مسيلمة عليه السؤال نفسه: أتشهد أن محمدا رسول الله؟.
قال: نعم أشهد أن محمدا رسول الله.
قال: وتشهد أني رسول الله؟.
قال: قلت لك: إن في أذني صمما عن سماع ما تقول.
فأمر بأن تقطع من جسده قطعة أخرى، فقطعت وتدحرجت على الأرض حتى استوت (٣٢) إلى جانب أختها، والناس شاخصون (٣٣) بأبصارهم إليه، مذهولون من تصميمه وعناده.
ومضى مسيلمة يسأل، والجلاد يقطع، وحبيب يقول:
أشهد أن محمدا رسول الله.
حتى صار نحو من نصفه بضعا (٣٤) مقطعة منثورة على الأرض … ونصفه الآخر كتلة تتكلم …
ثم فاضت روحه، وعلى شفتيه الطاهرتين اسم النبي ﷺ الذي بايعه ليلة العقبة (٣٥) …
اسم محمد رسول الله …
* * *
بلغ مصرع حبيب أمه نسيبة المازنية؛ فطوت جوانحها على أحزانها واحتسبته عند الله.
ولما كان يوم "اليمامة" جهز الصديق رضوان الله عليه جيشا لحرب مسيلمة الكذاب، وعقد لواءه لسيف الإسلام خالد بن الوليد ﵁ وأرضاه.
فانضمت إلى الجيش المجاهدة الباسلة نسيبة المازنية وابنها عبد الله … لقد كانا يريدان الجهاد في سبيل الله …
وكانا يريدان أيضا أن يثأرا لحبيب من عدوه وعدو الله.
* * *
وفي يوم "اليمامة" الأغر شوهدت نسيبة تشق الصفوف كاللبؤة (٣٦) الثائرة وهي تنادي:
أين عدو الله؟ …
دلوني على عدو الله …
فلما انتهت إليه وجدته مجدلا (٣٧) على الأرض وسيوف المسلمين تنهل من دمائه؛ فطابت نفسا …
وقرت عينا …
ولم لا؟!! …
ألم ينتقم الله جل وعز لفتاها البر التقي من قاتله الباغي الشقي؟! …
بلى …
لقد مضى كل منهما إلى ربه ولكن …
فريق في الجنة …
وفريق في السعير (*) …
_________
(١) تتضوع طيوب الإيمان: تنتشر طيوب الإيمان.
(٢) العقبة: موضع في منى بايع فيه المسلمون الأولون من الأنصار النبي.
(٣) نسيبة المازنية: انظرها في كتاب "صور من حياة الصحابيات" للمؤلف.
(٤) ذيادا: دفاعا.
(٥) جعل نحره دون نحر النبي: النحر: أعلى الصدر، وجعل نحره دون نحر النبي: أي جعل نفسه فداء له.
(٦) النور الإلهي: أي الإيمان.
(٧) الغر: جمع أغر، وهو الكريم الأفعال.
(٨) صلب عوده: قوي واشتد.
(٩) الشوكة: القوة والبأس.
(١٠) حواشي المدينة: أطرافها.
(١١) خلف على رحاله: ترك عند متاعه.
(١٢) أكرم وفادتهم: أكرم قدومهم عليه وأحسن ضيافتهم.
(١٣) العصبية: شدة ارتباط المرء بعصبيته وانحيازه لها.
(١٤) ربيعة: قبيلة كبيرة من قبائل العرب ينتمي إليها مسيلمة.
(١٥) مضر: قبيلة رسول الله ﷺ.
(١٦) غلظ أمره: اشتد أمره وكثر أتباعه.
(١٧) استشرى فساده: انتشر وازداد.
(١٨) يزجره عن غيه: ينهاه عن ضلاله.
(١٩) الفتاء: الفتوة.
(٢٠) غير وان: غير فاتر ولا ضعيف.
(٢١) متريث: متمهل.
(٢٢) النجاد: جمع نجد، وهو المكان المرتفع.
(٢٣) الوهاد: جمع وهد، وهو المكان المنخفض.
(٢٤) قسمات الوجه: ملامحه.
(٢٥) الطواغيت: جمع طاغوت، وهو رأس الضلال أو المعبود من دون الله.
(٢٦) يرسف في قيوده: يمشي بها ببطء لثقلها.
(٢٧) الرمح السمهري: الرمح الصلب.
(٢٨) مثقفو الرماح: مقوموها ومعدلوها.
(٢٩) تميز غيظا: تقطع بسبب الغيظ.
(٣٠) امتقع وجهه: تغير لون وجهه.
(٣١) حنقا: غيظا.
(٣٢) استوت: استقرت.
(٣٣) شاخصون بأبصارهم إليه: رافعون أبصارهم إليه.
(٣٤) بضعا: جمع بضعة، وهي القطعة.
(٣٥) ليلة العقبة: ليلة بيعة العقبة.
(٣٦) اللبؤة: أنثى الأسد.
(٣٧) مجدلا على الأرض: ملقى على الأرض.
مختارات