36. بلال بن رباح
بلال بن رباح
مؤذن رسول الله
"أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا" [يعني بلالا]
[عمر الفاروق ﵁]
لبلال بن رباح مؤذن الرسول صلوات الله وسلامه عليه، سيرة من أروع سير النضال في سبيل العقيدة …
وقصة لا يمل الزمان من ترديدها …
ولا تشبع الآذان من سحر نشيدها.
ولد بلال في "السراة" قبل الهجرة بنحو ثلاث وأربعين سنة لأب كان يدعى "رباحا"، أما أمه فكانت تدعى "حمامة" …
وهي أمة (١) سوداء من إماء مكة …
ولذا كان بعض الناس يدعونه بابن السوداء.
* * *
نشأ بلال في "أم القرى" (٢)، وكان مملوكا لأيتام من بني "عبد الدار" أوصى بهم أبوهم إلى أمية بن خلف أحد رؤوس الكفر.
ولما أشرقت مكة بأنوار الدين الجديد …
وهتف الرسول الأعظم ﷺ بكلمة التوحيد …
كان بلال من السابقين الأولين إلى الإسلام.
فقد أسلم ولم يكن على ظهر الأرض من مسلم إلا هو وبضعة نفر (٣) من السابقين الأولين.
على رأسهم خديجة بنت خويلد أم المؤمنين.
وأبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب.
وعمار بن ياسر، وأمه سمية (٤).
وصهيب الرومي (٥)، والمقداد بن الأسود (٦).
وقد لقي بلال من أذى المشركين ما لم يلقه سواه …
وعانى من قسوتهم، وبطشهم، وغلظ قلوبهم ما لم يغانه غيره … وصبر هو ومن معه من المستضعفين على الابتلاء في سبيل الله كما لم يصبر أحد.
فلقد كانت لأبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، عصبية تمنعهما، وقوم يحمونهما، أما أولئك المستضعفون من الأرقاء والإماء (٧)؛ فقد نكلت (٨) بهم قريش أشد التنكيل … فلقد أرادت أن تجعلهم عبرة لمن تحدثه نفسه بنبذ آلهتهم واتباع محمد.
وقد تصدى لتعذيب هؤلاء طائفة من أغلظ كفار قريش كبدا، وأقساهم قلبا … فلقد باء أبو جهل (٩) - أخزاه الله - بإثم "سمية" فوقف عليها يسب
ويرفث (١٠)، ثم طعنها برمحه طعنة دخلت من أسفل بطنها وخرجت من ظهرها … فكانت أول شهيدة في الإسلام …
وأما الآخرون من إخوتها في الله وعلى رأسهم بلال بن رباح فقد أطالت قريش تعذيبهم … كانوا إذا توسطت الشمس كبد السماء، والتهبت رمال مكة بالرمضاء (١١) … ينزعون عنهم ثيابهم، ويلبسونهم دروع (١٢) الحديد، ويصهرونهم (١٣) بأشعة الشمس المتقدة …
ويلهبون ظهورهم بالسياط (١٤)، ويأمرونهم بأن يسبوا محمدا.
فكانوا إذا اشتد عليهم التعذيب، وعجزت طاقاتهم عن تحمله يستجيبون لهم فيما يريدونه منهم، وقلوبهم معلقة بالله ورسوله إلا بلالا ﵁ وأرضاه؛ فقد كانت نفسه تهون عليه في الله ﷿.
وكان الذي يتولى كبر تعذيبه أمية بن خلف وزبانيته (١٥).
لقد كانوا يلهبون ظهره بالسياط؛ فيقول: أحد أحد …
ويطبقون على صدره الصخور؛ فينادي: أحد أحد …
ويشتدون عليه في النكال؛ فيهتف: أحد أحد …
كانوا يحملونه على ذكر اللات والعزى (١٦)؛ فيذكر الله ورسوله …
ويقولون له: قل كما نقول …
فيجيبهم: إن لساني لا يحسنه …
فيلجون (١٧) في إيذائه، ويمعنون في تعذيبه …
وكان الطاغية الجبار أمية بن خلف إذا مل من تعذيبه طوق عنقه بحبل غليظ، وأسلمه إلى السفهاء والولدان، وأمرهم أن يطوفوا به في شعاب مكة، وأن يجروه في أباطحها …
فكان بلال رضوان الله عليه يستعذب (١٨) العذاب في سبيل الله ورسوله، ويردد على الدوام نشيده العلوي: أحد أحد … أحد أحد …
فلا يمل من ترداده، ولا يشبع من إنشاده.
* * *
وقد عرض أبو بكر الصديق رضوان الله عليه على أمية بن خلف أن يشتريه منه فأغلى به الثمن، وهو يظن أن أبا بكر لا يأخذه …
فاشتراه منه بتسع أواق من الذهب …
فقال له أمية بعد أن تمت الصفقة: لو أبيت أحذه إلا بأوقية لبعته.
فقال له الصديق:
لو أبيت بيعه إلا بمائة لاشتريته …
ولما أخبر الصديق الرسول صلوات الله وسلامه عليه باشترائه بلالا، وإنقاذه من أيدي معذبيه قال له النبي:
(الشركة (١٩) يا أبا بكر).
فقال له الصديق رضوان الله عليه: "لقد أعتقته يا رسول الله".
* * *
ولما أذن الله لنبيه ﷺ بالهجرة إلى المدينة … هاجر بلال رضوان الله
عليه في جملة من هاجر … ونزل هو والصديق وعامر بن فهر (٢٠) في بيت واحد، فأصيبوا بالحمى جميعا فكان بلال إذا أقلعت (٢١) عنه الحمى رفع عقيرته (٢٢)، وجعل يترنم بصوته العذب قائلا:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة … "بفخ" (٢٣) وحولي "إذخر" (٢٤) و "جليل"
وهل أردن يوما مياه "مجنة" (٢٥) … وهل يبدون لي "شامة" و "طفيل" (٢٦)
ولا عجب إذا حن بلال إلى مكة وشعابها، واشتاق وديانها وجبالها … فهناك ذاق حلاوة الإيمان …
وهناك استعذب العذاب في جنب (٢٧) الله …
وهناك انتصر على نفسه وعلى الشيطان …
* * *
استقر بلال في "يثرب" بعيدا عن أذى قريش، وتفرغ لنبيه وحبيبه محمد صلوات الله وسلامه عليه.
فكان يغدو معه إذا غدا، ويعود معه إذا عاد …
ويصلي معه إذا صلى، ويغزو معه إذا غزا …
حتى أصبح ألزم له من ظله (٢٨).
ولما شيد الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - مسجده في المدينة، وشرع الأذان … كان بلال أول مؤذن في الإسلام.
وكان إذا فرغ من الأذان وقف على باب بيت الرسول وقال: حي على الصلاة، حي على الفلاح …
فإذا خرج الرسول ﷺ من حجرته ورآه بلال مقبلا ابتدأ بالإقامة.
* * *
وقد أهدى "النجاشي" (٢٩) ملك "الحبشة" الرسول الأعظم ﷺ ثلاثة رماح قصيرة من نفائس ما يقتنيه الملوك، فاحتفظ لنفسه بواحد منها، وأعطى علي بن أبي طالب واحدا، وأعطى عمر بن الخطاب واحدا …
ثم اختص برمحه بلالا، فجعل بلال يسعى به بين يديه أيام حياته كلها …
فكان يحمله في العيدين، وفي صلوات الاستسقاء، ويركزه أمامه إذا أقيمت الصلاة في غير المسجد.
* * *
ولقد شهد بلال مع نبيه "بدرا"، فرأى بعينيه كيف أنجز (٣٠) الله وعده، ونصر جنده، وشهد مصارع الطغاة الذين كانوا يعذبونه سوء العذاب …
وأبصر أبا جهل، وأمية بن خلف صريعين تنوشهما (٣١) سيوف المسلمين، وتنهل من دمائهما رماح المعذبين.
* * *
ولما دخل الرسول ﷺ مكة فاتحا على? رأس كتيبته الحضراء كان معه داعي السماء بلال بن رباح.
وحين دخل الكعبة المعظمة لم يكن في صحبته إلا ثلاثة رجال هم:
عثمان بن طلحة (٣٢) حامل مفاتيح الكعبة المشرفة.
وأسامة بن زيد (٣٣) حب رسول الله وابن حبه.
وبلال بن رباح مؤذن رسول الله.
ولما حانت صلاة الظهر كانت الألوف المؤلفة تحيط بالرسول الأعظم صلوات الله عليه وسلامه.
وكان الذين أسلموا من كفار قريش طوعا أو كرها؛ يشهدون ذلك المشهد الكبير …
عند ذلك دعا الرسول ﷺ بلال بن رباح، وأمره أن يصعد على ظهر الكعبة … وأن يعلن من فوقها كلمة التوحيد، فصدع بلال بالأمر …
وأرسل صوته الجهير بالأذان.
فامتدت آلاف الأعناق نحوه تنظر إليه، وانطلقت آلاف الألسن تردد وراءه في خشوع.
أما الذين في قلوبهم مرض (٣٤) فقد أخذ الحسد ينهش قلوبهم نهشا، وجعلت الضغينة (٣٥) تمزق قلوبهم تمزيقا.
فما إن وصل بلال في الأذان إلى قوله: "أشهد أن محمدا رسول الله" حتى قالت "جويرية بنت أبي جهل": لعمري لقد رفع الله لك ذكرك …
أما الصلاة فنصلي ولكننا - والله - ما نحب من قتل الأحبة.
وكان أبوها قد قتل في "بدر".
وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يشهد هذا اليوم، وكان أبوه قد مات قبل الفتح بيوم واحد …
وقال الحارث بن هشام: واثكلاه …
ليتني مت قبل أن أرى بلالا فوق الكعبة.
وقال الحكم بن أبي العاص: هذا - والله - الخطب الجلل أن يصبح عبد بني "جمح" ينهق على هذه البنية (٣٦).
وكان معهم أبو سفيان بن حرب فقال: أما أنا فلا أقول شيئا …
فإني لو فهت (٣٧) بكلمة؛ لنقلتها هذه الحصاة إلى محمد بن عبد الله.
* * *
ولقد ظل بلال يؤذن للرسول صلوات الله وسلامه عليه طوال حياته.
وظل الرسول الكريم ﷺ يأنس إلى هذا الصوت الذي عذب في الله أشد العذاب وهو يردد: أحد … أحد.
ولما انتقل الرسول الأعظم ﷺ إلى الرفيق الأعلى، وحان وقت الصلاة … قام بلال يؤذن في الناس - والنبي الكريم ﷺ مسجى (٣٨) لم يدفن بعد - فلما وصل إلى قوله: "أشهد أن محمدا رسول الله" …
خنقته العبرات … واحتبس (٣٩) صوته في حلقه …
وأجهش المسلمون في البكاء، وأغرقوا في النحيب.
ثم أذن بعد ذلك ثلاثة أيام.
فكان كلما وصل إلى قوله "أشهد أن محمدا رسول الله"؛ بكى وأبكى … عند ذلك طلب من أبي بكر خليفة رسول الله ﷺ أن يعفيه من الأذان بعد أن أصبح لا يحتمله (٤٠).
واستأذنه في الخروج إلى الجهاد في سبيل الله، والمرابطة (٤١) في بلاد الشام … فتردد الصديق رضوان الله عليه في الاستجابة لطلبه، والإذن له بمغادرة المدينة … فقال له بلال:
إن كنت اشتريتني لنفسك فأمسكني …
وإن كنت قد أعتقتني لله فخلني لمن أعتقتني له.
فقال أبو بكر: والله ما اشتريتك إلا لله …
وما أعتقتك إلا في سبيله.
فقال بلال: إني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله.
فقال أبو بكر: لك ذلك.
* * *
رحل بلال عن المدينة المنورة مع أول بعث من بعوث المسلمين، وأقام في "داريا" بالقرب من "دمشق".
ولقد ظل ممسكا عن الأذان حتى قدم عمر بن الخطاب بلاد الشام …
فلقي بلالا رضوان الله عليه بعد غياب طويل …
وكان عمر شديد الشوق إليه، عظيم الإجلال له، حتى إنه كان إذا ذكر الصديق أمامه يقول: "إن أبا بكر سيدنا وهو الذي أعتق سيدنا" [يعني بلالا رضوان الله عليه].
وهناك عزم الصحابة على بلال أن يؤذن في حضرة الفاروق …
فما إن ارتفع صوته بالأذان حتى بكى عمر، وبكى معه الصحابة حتى اخضلت اللحى (٤٢) بالدموع.
فلقد أهاج بلال أشواقهم إلى عهود المدينة المنورة، سقيا لها من عهود …
* * *
ولقد ظل داعي السماء يقيم في منطقة "دمشق" حتى وافاه الأجل المحتوم؛ فكانت امرأته تعول إلى جانبه في مرض الموت، وتصيح قائلة:
واحزناه …
وكان هو يفتح عينيه في كل مرة ويجيبها قائلا:
وافرحاه …
ثم لفظ أنفاسه الأخيرة وهو يردد:
غدا نلقى الأحبه … محمدا وصحبه
غدا نلقى الأحبه … محمدا وصحبه (*).
_________
(١) الأمة: الجارية المملوكة لسيدها.
(٢) أم القرى: مكة المكرمة.
(٣) بضعة نفر: جماعة قليلة لا تزيد عن عشرة.
(٤) عمار بن ياسر وأمه سمية: انظر آل ياسر ص ٥٠١.
(٥) صهيب الرومي: انظره ص ١٩٣.
(٦) المقداد بن الأسود: هو المقداد بن عمرو، قديم الإسلام، هاجر إلى الحبشة والمدينة وشهد بدرا وغيرها.
مات سنة ٣٣ هـ في خلافة عثمان.
(٧) الأرقاء والإماء: العبيد المملوكون رجالا ونساء.
(٨) نكلت بهم: عذبتهم وجعلتهم عبرة لغيرهم.
(٩) أبو جهل: انظر مصرع أبي جهل في كتاب "حدث في رمضان" للمؤلف.
(١٠) يرفث: يشتم شتما قبيحا.
(١١) الرمضاء: الرمال الملتهبة بحرارة الشمس.
(١٢) دروع الحديد: ثياب من حديد تحمي صدر الفارس.
(١٣) يصهرونهم: يحرقونهم بالشمس.
(١٤) السوط: جلد مضفور يضرب به.
(١٥) زبانيته: جنوده الغلاظ القلوب.
(١٦) اللات والعزى: انظر هدم الأصنام في كتاب "حدث في رمضان" للمؤلف.
(١٧) يلجون: يتعمقون في الإيذاء.
(١٨) يستعذب العذاب: يجد العذاب عذبا.
(١٩) الشركة يا أبا بكر: أي شاركني فيه.
(٢٠) عامر بن فهر: من بني تميم أحد السابقين إلى الإسلام وكان ممن يعذب في الله، اشتراه أبو بكر وأعتقه، استشهد في بئر معونة.
(٢١) أقلعت عنه: تركته.
(٢٢) رفع عقيرته: رفع صوته.
(٢٣) فخ: موضع خارج مكة.
(٢٤) الإذخر: نبات طيب الرائحة.
(٢٥) مجنة: اسم سوق من أسواق العرب في الجاهلية على مسافة بريد من مكة.
(٢٦) شامة وطفيل: جبلان بمكة.
(٢٧) في جنب الله: ابتغاء وجه الله.
(٢٨) ألزم له من ظله: ملازم له لا يتركه.
(٢٩) النجاشي: انظره في كتاب "صور من حياة التابعين" للمؤلف، الناشر دار الأدب الإسلامي.
(٣٠) أنجز: أوفى بوعده.
(٣١) تنوشهما: تصيبهما.
(٣٢) عثمان بن طلحة: حاجب البيت العتيق، أسلم في صلح الحديبية وهاجر مع خالد بن الوليد، وقد رافق أم سلمة في هجرتها إلى المدينة قبل إسلامه.
(٣٣) أسامة بن زيد: انظره ص ٢١٩.
(٣٤) في قلوبهم مرض: غير خالصي الإيمان.
(٣٥) الضغينة: الحقد وإضمار السوء.
(٣٦) البنية: المقصود الكعبة المشرفة.
(٣٧) لو فهت: لو خرجت كلمة من فمي.
(٣٨) مسجى: مغطى.
(٣٩) احتبس صوته في حلقه: لم يستطع الكلام.
(٤٠) لا يحتمله: لا يطيق أن يؤذن في غياب رسول الله ﷺ.
(٤١) المرابطة: الملازمة لثغور الأعداء.
(٤٢) اخضلت اللحى: ابتلت.
مختارات