38. أبو طلحة الأنصاري
أبو طلحة الأنصاري
زيد بن سهل
"عاش أبو طلحة حياته صائما مجاهدا … ومات كذلك صائما مجاهدا … "
عرف زيد بن سهل النجاري المكنى بأبي طلحة، أن "الرميصاء (١) بنت ملحان النجارية" المكناة بأم سليم قد غدت أيما (٢) بعد أن توفي عنها زوجها؛ فاستطار فرحا (٣) لهذا الخبر.
ولا غرو (٤) فقد كانت أم سليم سيدة حصانا رزانا (٥) راجحة العقل مكتملة الصفات.
فعزم على أن يبادر إلى خطبتها قبل أن يسبقه إليها أحد ممن يطمحون إلى أمثالها من النساء … وكان أبو طلحة على ثقة من أن أم سليم لن تؤثر (٦) عليه أحدا من طالبيها …
فهو رجل مكتمل الرجولة مرموق المنزلة (٧) طائل الثروة (٨) …
وهو إلى ذلك فارس بني "النجار"، وأحد رماة "يثرب" المعدودين.
* * *
مضى أبو طلحة إلى? بيت أم سليم …
وفيما هو في بعض طريقه تذكر أن أم سليم قد سمعت من كلام هذا الداعية المكي مصعب بن عمير (٩)؛ فآمنت بمحمد واتبعت دينه.
لكنه ما لبث أن قال في نفسه: وما في ذلك؟ … ألم يكن زوجها الذي توفي عنها مستمسكا بدين آبائه، نائيا بجانبه (١٠) عن محمد ودعوة محمد؟! * * *
بلغ أبو طلحة منزل أم سليم، واستأذن عليها، فأذنت له، وكان ابنها أنس (١١) حاضرا، فعرض نفسه عليها … فقالت:
إن مثلك يا أبا طلحة لا يرد، لكني لن أتزوجك فأنت رجل كافر … فظن أبو طلحة أن أم سليم تتعلل (١٢) عليه بذلك، وأنها قد آثرت عليه رجلا آخر أكثر منه مالا، أو أعز (١٣) نفرا.
فقال لها: والله ما هذا الذي يمنعك مني يا أم سليم.
قالت: وما الذي يمنعني إذن؟!.
قال: الأصفر والأبيض … الذهب والفضة …
قالت: الذهب والفضة؟!.
قال: نعم.
قالت: بل إني أشهدك يا أبا طلحة وأشهد الله ورسوله أنك إن أسلمت رضيت بك زوجا من غير ذهب ولا فضة، وجعلت إسلامك لي مهرا …
* * *
فما إن سمع أبو طلحة كلام أم سليم حتى انصرف ذهنه إلى صنمه الذي اتخذه (١٤) من نفيس الخشب، وخص به نفسه كما كان يفعل السادة من قومه.
لكن أم سليم أرادت أن تطرق الحديد وهو ما زال حاميا (١٥) فأتبعت تقول: ألست تعلم يا أبا طلحة أن إلهك الذي تعبده من دون الله قد نبت من الأرض؟!.
فقال: بلى.
قالت: أفلا تشعر بالخجل وأنت تعبد جزع شجرة جعلت بعضه لك إليها بينما جعل غيرك بعضه الآخر وقودا له؛ يصطلي بناره (١٦) أو يخبز عليه عجينه … إنك إن أسلمت - يا أبا طلحة - رضيت بك زوجا، ولا أريد منك صداقا (١٧) غير الإسلام.
قال: ومن لي بالإسلام؟.
قالت: أنا لك به.
قال: وكيف؟.
قالت: تنطق بكلمة الحق فتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم تمضي إلى بيتك فتحطم صنمك ثم ترمي به.
فانطلقت أسارير (١٨) أبي طلحة وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله … ثم تزوج من أم سليم …
فكان المسلمون يقولون: ما سمعنا بمهر قط كان أكرم من مهر أم سليم … فقد جعلت صداقها الإسلام …
* * *
منذ ذلك اليوم انضوى (١٩) أبو طلحة تحت لواء الإسلام، ووضع طاقاته الفذة (٢٠) كلها في خدمته …
فكان أحد السبعين الذين بايعوا رسول الله ﷺ بيعة العقبة (٢١) ومعه زوجه أم سليم.
وكان أحد النقباء (٢٢) الاثني عشر الذين أمرهم الرسول في تلك الليلة على مسلمي "يثرب".
ثم إنه شهد مع رسول الله ﷺ مغاريه كلها، وأبلى فيها أشرف البلاء وأعزه.
لكن أعظم أيام أبي طلحة مع رسول الله ﷺ إنما هو يوم "أحد".
وإليك (٢٣) خبره في ذلك اليوم.
* * *
أحب أبو طلحة رسول الله ﷺ حبا خالط شغاف قلبه (٢٤)، وجرى مجرى الدم من عروقه، فكان لا يشبع من النظر إليه، ولا يرتوي من الاستماع إلى عذب حديثه … وكان إذا بقي معه جثا بين يديه، وقال له:
نفسي لنفسك الفداء، ووجهي لوجهك الوقاء.
فلما كان يوم "أحد" انكشف المسلمون عن رسول الله ﷺ فنفذ إليه المشركون من كل جانب، فكسروا رباعيته (٢٥)، وشجوا جبينه، وجرحوا شفته، وأسالوا الدم على وجهه …
حتى إن المرجفين أرجفوا (٢٦) بأن محمدا قد قتل، فازداد المسلمون وهنا على وهن (٢٧)، وأعطوا ظهورهم (٢٨) لأعداء الله.
عند ذلك لم يثبت مع رسول الله ﷺ غير نفر قليل في طليعتهم أبو طلحة.
* * *
انتصب أبو طلحة أمام رسول الله صلوات الله عليه كالطود الراسخ (٢٩) بينما وقف النبي خلفه يتترس (٣٠) به …
ثم وتر (٣١) أبو طلحة قوسه التي لا تفل (٣٢)، وركب عليها سهامه التي لا تخطي، وجعل يذود (٣٣) بها عن رسول الله ﷺ، ويرمي جنود المشركين واحدا إثر واحد.
وكان النبي يتطاول من خلف أبي طلحة ليرى مواقع سهامه؛ فكان يرده خوفا عليه ويقول له:
بأبي أنت وأمي، لا تشرف (٣٤) عليهم فيصيبوك …
إن نحري دون نحرك (٣٥) وصدري دون صدرك، وجعلت فداك …
وكان الرجل من جند المسلمين يمر برسول الله ﷺ هاربا ومعه الجعبة (٣٦) من السهام، فينادي عليه النبي ﷺ ويقول له:
(انثر سهامك بين يدي أبي طلحة ولا تمض بها هاربا).
وما زال أبو طلحة ينافح (٣٧) عن رسول الله ﷺ حتى كسر ثلاث أقواس، وقتل ما شاء الله أن يقتل من جنود المشركين.
ثم انجلت المعركة، وسلم الله نبيه ﷺ وصانه بصونه.
* * *
وكما كان أبو طلحة جوادا بنفسه في سبيل الله في ساعات البأس (٣٨)، فقد كان أكثر جودا بماله في مواقف البذل (٣٩) …
من ذلك أنه كان له بستان من نخيل وأعناب لم تعرف "يثرب" (٤٠) بستانا أعظم منه شجرا، ولا أطيب ثمرا، ولا أعذب ماء.
وفيما كان أبو طلحة يصلي تحت أفيائه الظليلة؛ أثار انتباهه طائر غرد أخضر اللون أحمر المنقار، مخضب (٤١) الرجلين …
وقد جعل يتواثب على أفنان الأشجار طربا مغردا متراقصا … فأعجبه منظره، وسبح بفكره معه …
ثم ما لبث أن رجع إلى نفسه؛ فإذا هو لا يذكر كم صلى؟! …
ركعتين … ثلاثا … لا يدري …
فما إن فرغ من صلاته حتى غدا (٤٢) على رسول الله ﷺ، وشكا له نفسه
التي صرفها البستان، وشجره الوارف، وطيره الغرد عن الصلاة …
ثم قال له: اشهد يا رسول الله أني جعلت هذا البستان صدقة لله تعالى … فضعه (٤٣) حيث يحب الله ورسوله …
* * *
عاش أبو طلحة حياته صائما مجاهدا …
ومات كذلك صائما مجاهدا …
فقد أثر عنه أنه بقي بعد وفاة رسول الله ﷺ نحوا من ثلاثين عاما صائما لم يفطر إلا في أيام الأعياد حيث يحرم الصيام …
وأنه امتدت به الحياة حتى غدا شيخا فانيا، لكن شيخوخته لم تحل دونه ودون مواصلة الجهاد في سبيل الله، والضرب (٤٤) في فجاج الأرض إعلاء لكلمته، وإعزازا لدينه.
من ذلك أن المسلمين عزموا على غزوة في البحر في خلافة عثمان بن عفان.
فأخذ أبو طلحة يعد نفسه للخروج مع جيش المسلمين، فقال له أبناؤه:
يرحمك الله يا أبانا، لقد صرت شيخا كبيرا، وقد غزوت مع رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر، فهلا ركنت (٤٥) إلى الراحة، وتركتنا نغزو عنك.
فقال: إن الله ﷿ يقول: ﴿انفروا خفافا وثقالا﴾ (٤٦) فهو قد استنفرنا جميعا … شيوخا وشبانا، ولم يحدد لنا سنا.
ثم أبى إلا الخروج …
* * *
وبينما كان الشيخ المعمر أبو طلحة على ظهر السفينة مع جند المسلمين في وسط البحر، مرض مرضا شديدا فارق على إثره الحياة.
فطفق المسلمون يبحثون له عن جزيرة ليدفنوه فيها؛ فلم يعثروا على مبتغاهم إلا بعد سبعة أيام، وأبو طلحة مسجى (٤٧) بينهم لم يتغير فيه شيء كأنه نائم.
وفي عرض (٤٨) البحر …
بعيدا عن الأهل والوطن …
نائيا عن العشير (٤٩) والسكن …
دفن أبو طلحة …
وماذا يضيره (٥٠) بعده عن الناس، ما دام قريبا من الله ﷿ (*) …
_________
(١) قيل في اسمها الرميصاء والغميصاء والأرجح أنهما وصف لها، انظرها في كتاب "صور من حياة الصحابيات" للمؤلف.
(٢) غدت أيما: أصبحت بلا زوج.
(٣) استطار فرحا: كاد يطير من شدة الفرح.
(٤) لا غرو: لا عجب.
(٥) حصانا رزانا: حصينة الخلق رزينة العقل.
(٦) لن تؤثر عليه أحدا: لن تفضل عليه أحدا.
(٧) مرموق المنزلة: ذو منزلة عالية ينظر الناس إليها بإعجاب.
(٨) طائل الثروة: واسع الغنى.
(٩) مصعب بن عمير بن هاشم: أحد السابقين إلى الإسلام، وأول المبشرين به خارج مكة، استشهد يوم أحد.
(١٠) نائيا بجانبه: معرضا عنه.
(١١) أنس بن مالك الأنصاري: انظره ص ١٣.
(١٢) تتعلل عليه: تتصنع له العلل والحجج.
(١٣) أعز نفرا: أعز قبيلة.
(١٤) اتخذه: صنعه.
(١٥) أرادت أن تطرق الحديد.
.
أرادت ألا تضيع الفرصة.
(١٦) يصطلي بناره: يستدفئ بناره.
(١٧) صداقا: مهرا.
(١٨) انطلقت أسارير أبي طلحة: ظهر البشر والسرور على وجهه.
(١٩) انضوى: دخل.
(٢٠) الفذة: الفريدة.
(٢١) بيعة العقبة: هي البيعة التي تمت عند العقبة بمنى قبل الهجرة.
(٢٢) النقباء: جمع نقيب، وهو الرئيس والمقدم على جماعته.
(٢٣) إليك خبره: خذ خبره.
(٢٤) خالط شغاف قلبه: مازج أعماق قلبه.
(٢٥) رباعيته: سنه التي بين الثنية والناب.
(٢٦) أرجف المرجفون: زعم الخراصون الكذابون.
(٢٧) ازداد المسلمون وهنا على وهن: ازدادوا ضعفا على ضعف.
(٢٨) أعطوا ظهورهم لأعداء الله: جعلوا ينهزمون أمامهم.
(٢٩) الطود الراسخ: الجبل الثابت.
(٣٠) يتترس به: يجعله ترسا له ووقاية من رماح الأعداء وسهامهم.
(٣١) وتر قوسه: شد قوسه.
(٣٢) لا تفل: لا تهزم.
(٣٣) يذود بها: يدافع بها.
(٣٤) لا تشرف عليهم: لا تطل عليهم.
(٣٥) إن نحري دون نحرك: إن عنقي فداء لعنقك.
(٣٦) الجعبة: كيس السهام.
(٣٧) ينافح: يدافع.
(٣٨) في ساعات البأس: في ساعات الشدة.
(٣٩) مواقف البذل: مواقف العطاء.
(٤٠) يثرب: المدينة المنورة.
(٤١) مخضب الرجلين: مصبوغ الرجلين.
(٤٢) غدا على رسول الله: مضى إلى رسول الله ﷺ.
(٤٣) ضعه: تصرف به وإستخدمه.
(٤٤) الضرب في فجاج الأرض: السير في سبل الأرض جهادا في سبيل الله.
(٤٥) ركنت إلى الراحة: لزمت الراحة.
(٤٦) أي هبوا إلى الجهاد على أي حال كنتم … سورة التوبة: آية ٤١.
(٤٧) مسجى: مغطى.
(٤٨) عرض البحر: وسط البحر.
(٤٩) العشير: المعاشر من زوج وأهل وغيرهم.
(٥٠) يضيره: يضره.
مختارات