5. عمير بن وهب
عمير بن وهب
"لقد غدا عمير بن وهب أحب إلي من بعض أبنائي"
[عمر بن الخطاب]
عاد عمير بن وهب الجمحي من "بدر" ناجيا بنفسه، لكنه خلف وراءه ابنه "وهبا" أسيرا في أيدي المسلمين.
وقد كان عمير يخشى أن يأخذ المسلمون الفتى بجريرة (١) أبيه، وأن يسوموه سوء العذاب جزاء ما كان ينزل برسول الله ﷺ من الأذى، ولقاء ما كان يلحق بأصحابه من النكال (٢).
* * *
وفي ذات ضحى توجه عمير إلى المسجد للطواف بالكعبة والتبرك بأصنامها، فوجد صفوان بن أمية (٣) جالسا إلى جانب الحجر (٤)، فأقبل عليه وقال: عم صباحا (٥) يا سيد قريش.
فقال صفوان: عم صباحا يا أبا وهب، إجلس نتحدث ساعة؛ فإنما يقطع الوقت بالحديث.
فجلس عمير بإزاء صفوان بن أمية، وطفق الرجلان يتذاكران "بدرا"، ومصابها العظيم، ويعددان الأسرى الذين وقعوا في أيدي محمد وأصحابه،
ويتفجعان (٦) على عظماء قريش ممن قتلتهم سيوف المسلمين وغيبهم "القليب" (٧) في أعماقه … فتنهد صفوان بن أمية وقال:
ليس - والله - في العيش خير بعدهم.
فقال عمير: صدقت والله … ثم سكت قليلا، وقال:
ورب الكعبة لولا ديون علي ليس عندي ما أقضيها به، وعيال أخشى عليهم الضياع من بعدي، لمضيت إلى محمد وقتلته، وحسمت أمره، وكففت شره … ثم أتبع يقول بصوت خافة: وإن في وجود ابني وهب لديهم ما يجعل ذهابي إلى "يثرب" أمرا لا يثير الشبهات.
* * *
اغتنم صفوان بن أمية كلام عمير بن وهب، ولم يشأ أن يفوت هذه الفرصة، فالتفت إليه وقال: يا عمير، اجعل دينك كله علي، فأنا أقضيه عنك مهما بلغ … وأما عيالك فسأضمهم إلى عيالي ما امتدت بي وبهم الحياة …
وإن في مالي من الكثرة ما يسعهم جميعا، ويكفل لهم العيش الرغيد.
فقال عمير: إذن، اكتم حديثنا هذا ولا تطلع عليه أحدا.
فقال صفوان: لك ذلك.
* * *
قام عمير من المسجد ونيران الحقد تتأجج (٨) في فؤاده على محمد ﷺ، وطفق يعد العدة لإنفاذ ما عزم عليه، فما كان يخشى ارتياب أحد في سفره؛ ذلك لأن ذوي الأسرى من القرشيين كانوا يترددون على "يثرب" سعيا وراء افتداء أسراهم.
* * *
أمر عمير بن وهب بسيفه فشحذ وسقي سما …
ودعا براحلته فأعدت وقدمت له؛ فامتطى متنها (٩) …
ويمم وجهه شطر المدينة، وملء برديه الضعينة (١٠) والشر.
بلغ عمير المدينة ومضى نحو المسجد يريد رسول الله ﷺ، فلما غدا قريبا من بابه أناخ راحلته ونزل عنها.
* * *
كان عمر بن الخطاب ﵁ إذ ذاك - جالسا مع بعض الصحابة قريبا من باب المسجد، يتذاكرون "بدرا وما خلفته وراءها من أسرى قريش وقتلاهم، ويستعيدون صور بطولات المسلمين من المهاجرين والأنصار، ويذكرون ما أكرمهم الله به من النصر، وما أراهم في عدوهم من النكاية (١١) والخذلان … فحانت من عمر التفاتة؛ فرأى عمير بن وهب ينزل عن راحلته، ويمضي نحو المسجد متوشحا (١٢) سيفه، فهب مذعورا وقال:
هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب … والله ما جاء إلا لشر، لقد ألب (١٣) المشركين علينا في مكة، وكان عينا (١٤) لهم علينا قبيل "بدر" …
ثم قال لجلسائه: امضوا إلى رسول الله ﷺ، وكونوا حوله، واحذروا أن يغدر به هذا الخبيث الماكر.
ثم بادر عمر إلى النبي وقال: يا رسول الله، هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه، وما أظنه إلا يريد شرا.
فقال ﵇: (أدخله علي).
فأقبل الفاروق على عمير بن وهب وأخذ بتلابيبه (١٥)، وطوق عنقه بحمالة (١٦) سيفه، ومضى به نحو رسول الله ﷺ.
فلما رآه النبي على هذه الحال؛ قال لعمر:
(أطلقه يا عمر، فأطلقه، ثم قال له: (استأخر عنه)، فتأخر عنه.
ثم توجه الرسول ﷺ إلى عمير بن وهب وقال: (ادن يا عمير)، فدنا وقال: أنعم صباحا [وهي تحية العرب في الجاهلية].
فقال رسول الله ﷺ: (لقد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير … لقد أكرمنا الله بالسلام، وهو تحية أهل الجنة).
فقال عمير: والله ما أنت ببعيد عن تحيتنا، وإنك بها لحديث عهد.
فقال له الرسول:
(وما الذي جاء بك يا عمير؟!).
قال: جئت أرجو فكاك هذا الأسير الذي في أيديكم، فأحسنوا إلي فيه.
قال: (فما بال (١٧) السيف الذي في عنقك؟!).
قال عمير: قبحها الله من سيوف …
وهل أغنت عنا شيئا يوم بدر"؟!!.
قال الرسول ﷺ: (اصدقني، ما الذي جئت له يا عمير؟).
قال: ما جئت إلا لذاك.
قال ﵇: (بل قعدت أنت وصفوان بن أمية عند الحجر، فتذاكرتما أصحاب "القليب" من صرعى قريش ثم قلت: لولا دين علي
وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدا … فتحمل لك صفوان بن أمية دينك وعيالك على أن تقتلني … والله حائل بينك وبين ذلك).
فذهل عمير لحظة، ثم ما لبث أن قال: أشهد أنك لرسول الله.
ثم أردف (١٨) يقول: لقد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، لكن خبري مع صفوان بن أمية لم يعلم به أحد إلا أنا وهو … ووالله لقد أيقنت أنه ما أتاك به إلا الله …
فالحمد لله الذي ساقني إليك سوقا، ليهديني إلى الإسلام …
ثم شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأسلم.
فقال لأصحابه: (فقهوا أخاكم في دينه، وعلموه القرآن، وأطلقوا أسيره).
* * *
فرح المسلمون بإسلام عمير بن وهب أشد الفرح؛ حتى إن عمر بن الخطاب ﵁ قال: لخنزير كان أحب إلي من عمير بن وهب حين قدم على رسول الله ﷺ، وهو اليوم أحب إلي من بعض أبنائي.
* * *
وفيما كان عمير يزكي (١٩) نفسه بتعاليم الإسلام، ويشرع (٢٠) فؤاده بنور القرآن، ويحيا أروع أيام حياته وأغناها، مما أنساه مكة ومن في مكة.
كان صفوان بن أمية يمني نفسه الأماني، ويمر بأندية قريش فيقول:
أبشروا بنبإ عظيم يأتيكم قريبا فينسيكم وقعة "بدر".
* * *
ثم إنه لما طال الانتظار على صفوان بن أمية، أخذ القلق يتسرب إلى نفسه شيئا فشيئا، حتى غدا يتقلب على أحر من الجمر، وطفق يسائل الركبان
عن عمير بن وهب فلا يجد عند أحد جوابا يشفيه …
إلى أن جاءه راكب فقال: إن عميرا قد أسلم …
فنزل عليه الخبر نزول الصاعقة … إذ كان يظن أن عمير بن وهب لا يسلم ولو أسلم جميع من على ظهر الأرض.
* * *
أما عمير بن وهب فإنه ما كاد يتفقه في دينه، ويحفظ ما تيسر له من كلام ربه، حتى جاء إلى النبي وقال:
يا رسول الله، لقد غبر (٢١) علي زمان وأنا دائب على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الإسلام، وأنا أحب أن تأذن لي بأن أقدم على مكة لأدعو قريشا إلى الله ورسوله، فإن قبلوا مني فنعم ما فعلوا، وإن أعرضوا عني آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحاب رسول الله ﷺ.
فأذن له الرسول، فوافى (٢٢) مكة، وأتى بيت صفوان بن أمية وقال: يا صفوان، إنك لسيد من سادات مكة، وعاقل من عقلاء قريش، أفترى أن هذا الذي أنتم عليه من عبادة الأحجار والذبح لها يصح في العقل أن يكون دينا؟! …
أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
* * *
ثم طفق عمير يدعو إلى الله في مكة، حتى أسلم على يديه خلق كثير أجزل الله مثوبة عمير بن وهب، ونور له في قبره (*).
_________
(١) بجريرة أبيه: بذنب أبيه.
(٢) النكال: الضرر الشديد الذي يجعل المرء عبرة لغيره.
(٣) صفوان بن أمية بن خلف الجمحي القرشي: وكنيته أبو وهب أسلم بعد الفتح، وكان شهما جوادا من أشراف قريش وكان من المؤلفة قلوبهم، شهد معركة اليرموك ومات بمكة سنة ٤١ هـ.
(٤) الحجر: أي حجر إسماعيل ﵇ من الكعبة، وهو ما حواه الحطيم المدار بالبيت، وقد اقتصرت قريش في بنيان الكعبة عنه لنفاد المال الحلال في بيوتهم.
(٥) عم صباحا: تحية العرب في الجاهلية.
(٦) يتفجعان: يظهران الوجع مما أصابهما.
(٧) القليب: بئر دفن فيه قتلى المشركين يوم بدر.
(٨) تتأجج: تشتعل وتضطرم.
(٩) امتطى متنها: ركب ظهرها.
(١٠) الضغينة: الحقد والكره.
(١١) النكاية: القهر والإصابة بالقتل والجرح.
(١٢) متوشحا سيفه: متقلدا سيفه.
(١٣) ألب: أثار.
(١٤) عينا: جاسوسا.
(١٥) أخذ بتلابيبه: أمسكه من طوق ثوبه مسكة متمكن.
(١٦) حمالة السيف: ما يعلق به.
(١٧) ما بال السيف: ما خبر السيف.
(١٨) أردف: أتبع.
(١٩) يزكي نفسه: يطهرها.
(٢٠) يترع فؤاده: يملأ قلبه.
(٢١) غبر: مضى.
(٢٢) وافى: أتى.
مختارات