شيء من شجن القراءة وشأن الكتاب !
بسم الله الرحمن الرحيم
(1)
السيرة الذاتية حفل اعتزال ورقي، والاعتزال لا يكون قبل البدء..! ذاك بمثابة الدفن قبل الولادة! لا..لم آتِ هنا لأدشِّنَ مراسمَ عزائي، وأكون " حجرا لقبر نفسي " كما يقول كافكا، أنا أتيتُ هُنا لأشد ثوبي قليلا من لهبِ الصراع الأزلي الدائر بين الحق والباطل، لأستروِح وأحكيَ بحروفٍ هادئة بعيدة عن الصخب والضجيج، ولستُ من الغفلةِ أن أُخدعَ عن نفسي، وأُراني صاحبَ تجربةٍ تُروى، لكن لما جاء الطلبُ الملحُّ الكريم أجبتُ بذكرِ شيءٍ أزعم أنه غيرُ مفيد، وأنا (أعتبر نفسي قارئا في الأساس وقد تجرأت كما تعرفون للكتابة؛ ولكنني أظن أن ما قرأته أهم بكثير مما كتبته. فالمرء يقرأ ما يرغب فيه، لكنه لا يكتب ما يرغب فيه، وإنما مايستطيعه) بورخيس.
كانت جولةً قصيرةً جدا حول الكتبِ والثقافة والقراءة، فما كان فيها من صوابٌ فمن الله، وعلي تَبِعَةُ الخطأ، قال توفيق الحكيم: (بعضُ الكلماتِ تَندسُّ كالغوغاءِ في مواكبِ المَعَاني)، فأعتذرُ عن ورودِ كثيرٍ..كثيرٍ.. من الغوغاء.
(2)
في المرحلة الابتدائية وجدتُّ مكانةً أثيرةً في نفسي للحجرة التي جعلها والدي مكتبةً له، وكان - حفظه الله وأبقاني رَهْنَ إشارَته - محبا للكتب بشتَّى فنونها، مطوِّفا في الآفاق جريًا وراءَ جمعِها، باذلا وقتَه ومالَه في سبيلِ أجودِ الطبعاتِ منها، وهذه الأخيرة لم أرثها منه، فأنا لا أعرف الطبعاتِ إلا في النادر فلا أحذقها كما يحذقها كثيرٌ من طلاب العلم الأفاضل..، وجودُ المكتبةِ في البيت أفادني تلك المرحلة، فقد قرأتُ فيها كثيرا من الكتيبات الصغيرة كـ (الزمن القادم) بأجزائه الثلاثة لعبدالملكِ القاسم وأبكتني منه قصةُ نورة، وتمزقت أغلفة كتابَي عبدالحميد السحيباني (صور من سير الصحابة وصور من سير الصحابيات) تحت وسادتي، وأذكر أَنِّي حينها أقفزُ الأبياتَ الشعرية التي تَرِدُ في ثنايا القصص (العادةُ التي انقلبت بعد سنين وصرت بعد تذوق الشعر أتتبعه في الكتب) بعد ذلك خَفَتَ ذلك الحنينُ لتلك الزاوية الوضيئة من زوايا بيتنا، فقد دخلت الحلقة وانهمكت في نشاطها الدؤوب، وفي تلك الأيام وجدت بيدِ أحَدِهم روايةً أدبية فاستعرتُها منه لأطالعها، هذه الرواية العابرة تركت في نفسي أثرا عميقا لم تمحه عجلاتُ الزمن رغم تراكم الأعوام على قفا الدهر، وما زلت إلى اليوم أتحفظ عباراتٍ منها، وقد أحبَبتُ بطلها (يسار)!
أخي القارئ / هل تعلم صورةً خلابةً أروع وأكثر بهاءً من صورةِ فتى نشأَ في طاعة الله؟ أما أنا والله فلا!
كان " يسار " بطلُ القصة كذلك! فتى نقيا صارَعَ جَحَافل الشَّهوات في صِباه ليظلَّ قوامه منحنيا في محرابِ التقوى والتعبد، ولكنَّ عدوَّه اللدود -في الرواية- بيدِهِ المفتاح السحري لأبواب التُّقى السبعة: إنها المرأة! لَكَم كرَّرتُ قراءة تلك الرواية، وكم كان أثرها علي بالغا في تلك المرحلة المبكرة، كانت رواية (حديث الشيخ) لداود بن سليمان العبيدي، وكم أتمنى أن أظفر بها الآن لأستعيد شيئا من جلال ذاك الشعور الإيماني الغامر، وإن كان ثمة صوت عال يهتف الآن من أعماق عقلي قائلا بأن المشاعر كالأعمار لا تستعاد!
(3)
بعد ذلك وفي لقاء عائلي كبير تعرفت فيه على شاب يكبرني بعامين توسم فيَّ ما يؤهلني لأن أحظى منه بالتوجيه التثقيفي والإعارة الدائمة من مكتبته الخاصة، كانت تصلني كتبه تباعا مع ابن عمتي الذي كان بريدا بيننا، ويغلب على هذه الكتب الجانب القصصي والروايات، أذكر منها رواية (فتاة الجزيرة) بأجزائها الثلاثة للعبيدي أيضا، كان يطعِّم إعاراته بكتبٍ جادَّة، دامت علاقتي البريدية معه ما يقارب السنتين، كانت نواةً لعلاقة إيجابيةٍ تدفعني دفعا جزئيا في عالم الاطلاع والقراءة، لكن لم يُكتب لنا الاستمرار فقد وضعت القيود في يدي هذا الصاحب زمن الفتن التي شَبَّ أوارُها قبلَ سنين، وثوى عن ناظري في السنوات التالية ولم يفرج عنه إلا قبل مدة قريبة.
(4)
الشعر قنطرة الثقافة بشتى أجناسها، أي بلادة حِسِّ تلك التي تكتنفُ هؤلاءِ الذين لا يُحِبوُّنَ الشِّعْر ولا يتفاعلون معه، والعربيُّ بطبعه يَهَزُّهُ المعنى الخلاب واللفظ الساحر، كما يطرب لمرأى الربيع وجمال الطبيعة، هذا الذي يسمع بيت المتنبي وهو يصور شيئا عميقا من دقائق النفس الإنسانية:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه... وصدَّقَ ما يعتاده من توهم!
أو بيت أبي تمام وهو يرسم بانسيابية مذهلة طريق الراحة الكبرى:
بصرتَ بالراحةِ الكبرى فلم ترها... تُنالُ إلا على جسر من التعب!
أو بيت شوقي متغزلا:
لا أمسِ من عُمُرِ الزمانِ ولا غدٌ... جُمِعَ الزمانُ فكان يومَ رضاكِ!
أو بيت أمل دنقل حاكيا جهود الإصلاح:
ربما ننفق كل العمر كي نثقب ثغرة
ليمرَّ النور للأجيال
مرَّه !
أو بيت أبي ريشة النابض بماء التفاني والتضحية:
تقضي البطولة أن نمد جسومنا... جسرا فقل لرفاقنا أن يعبروا!
من يسمع هذه الأبيات ثم لا يطرب ولا يهتز: هو ميت في إهاب حي، فالشعر جوهر اللغات، وملهب الضمائر، ولسان الأمم، ومهذب النفوس!
في تلك الأيام بدأت لأول مرة أتفاعلُ مع الشعر، فقد كنت أعودُ من المدرسة مع فتى حفيّ بكلمات الشاعر الشاب محمد المقرن، فكان هذا الفتى يتحفظ بعض قصائده المنشورة ويلقيها بحماسة منقطعة النظير، ويبعث في داخلي وهو يشتعل حماسةً أشواقا عارمة لما هو أبعد من المعاني وأعمق من الألفاظ التي يلقيها، مشاعر متضاربة من التفاعل باللغة واستعذاب جرس القوافي وهي تصافح الأسماع، وهو تفاعل هائل ربما كان أبعد وأعمق مما يحتمله حتى ذلك الشعر نفسه، والشاعر المقرن لمع اسمه تلك الأيام حين تزامن ظهوره مع الغيبة القسرية التي أفضت ببعض الأسماء الأدبية الأكثر شهرةً إلى الخفوت والغياب عن المحافل المعلنة.
ومن المحطات العمرية التي لا أنساها على صعيد الأدب والشعر أنه في السنة التي تليها درسنا مادة الأدب شاعر مميز كان له أبلغ الأثر في الانشداد لتراكيب اللغة وتصاوير البيان.
ما زلتُ أذكر نَغمَتَه العَذْبة وهو يترنَّم ببائيَّةِ أبي تمام ويُخليها من عِقْدِ النَّظم، ثم ينثرها على أسماعنا نثرا يقارب روعةَ الشعر إن لم يجاوِزْه، كان حِسُّه الشعري مُرهَفا، ونطقه للكلمات لافتا، ومهما تلاشت داخل الذاكرة الكثير من التفاصيل فلن أنسى انبهاره بوصف أبي تمام لحريق عمورية ليلا، حتى كأن دجى عمورية رغب في تغيير لونه القاتم:
لقد تركت أمير المؤمنين بها... للنار يوما يوما ذليل الصخر والخشب
غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى... يشله وسطها صبح من اللهب
حتى كأن جلابيب الدجى رغبت... عن لونها أو كأن الشمس لم تغب
فالشمس طالعة من ذا وقد أفَلَتْ... والشمس واجبة من ذا ولم تجب
وظلَّتْ حتى اليوم تتردد في مسمعي بعض الأبيات بنغمة أستاذنا الندية؛ وقد ألقى علينا مرّةً في الفصل:
من ذا أصابك يا بغداد بالعين... ألم تكوني زمانا قرة العين
أستودع الله قوما ما ذكرتهمُ... إلا تحدَّرَ ماءُ العين من عيني!
فقاطعته من بين الطلاب، واستعدتها منه دون شعور، كان أسمر نحيلا جميلا يتوقد حيوية ونشاطا، كم رأيته يخطُبُ ويبكي متفاعلا مع الأحداث الساخنة، كان يحترقُ لأمَّته! لذلك كلِّه؛ كان انقلابُ مظهَرِه وتخلِّيه عن كثير من رساليِّته الحيَّة بعد تلك الأيام الجميلةِ موجعا لي، وخِنجَرا مركوزا في خاصِرَة الذاكرة، وصرت فيما بعد كلما دخلتُ مدونتَه على الشبكة ورأيتُ من أشعل لنا المصباح ينطفئ! وجدتُني أدخل في نفق مظلمٍ من الحزن!
لا أودُّ إطالة الحديث حوله، فالحديث عنه يشنقني بحبلٍ طويل من الذكريات!
هذا، وقد فرحتُ بعدُ إذ رأيت لهذا الأستاذ الراحلِ عن مرابعنا قصيدةَ إنابةٍ مؤثرة، أُوردُ شيئا منها هنا:
إذا أسلمتني دروب الهوى... لنفسي وقد أوحشتني الذنوب
فيا رحمة الله هل راحة... تصافحني من وراء الغيوب
وتغمر قلبي بفيض الرضا... وتمسح عنه بقايا الشحوب
وكنت انتأيتُ حطيم الرجاء... قليل الهناء كثير اللغوب
وها قد أتيت ففيضي رضا... فحسبي وحسبك أني أتوب!
اللهم آمين.. آمين !
(5)
شأني شأن لِداتي، فأول شاعر بدأت بتتبع دواوينه هو من وجدته شاخصا كالطَّودِ في دَرْبي: الدكتور عبدالرحمن العشماوي، ربما لا يُذكر الدكتور ضمن عمالقةِ الشعر وأوتاده الشامخة، لكني لم أستمرئْ أبدا أن يكون فنُّه الصادق وتاريخه الوضيء نافذةً مشرعةً يرميها -هذه الأيام- كلُّ مُتَأَدِّبٍ مبتدئٍ بالحجارة، فتاريخه مع الكلمة الصادقة خليقٌ بأن يُشعرَ غضيضي الإهاب بالخجلِ، وهو مع ذلك له أبيات جميلة حقا ومعان غير مسبوقة.
ومنها واصفا فتاةً مُغتصبة:
ويَئِنُّ في صدري العفاف ويشتكي... طُهري وتُغمِضُ جفنها الأخلاق!
كم هي معبرةٌ وقاسية هذه الأخلاق التي تغمض جفنيها يا دكتور عبدالرحمن!
ومنها -واصفا ندى الفجر-:
إنما الطلُّ الذي يهمي صباحا... عرقٌ من جَبْهةِ الليلِ تَصَبَّبْ!
الندى اللامع مطلع الفجر هو عرقٌ فاض على جبهة الليل الهارب؟! لا يزايلني شك أن هذه الصورة الأدبية الخلابة هربت خلسةً من ديوان البحتري إلى ديوان شاعر الصحوة!
ومنها –متغزلا--:
هذي العُيُونُ وذلكَ الخَدُّ... والشيحُ والريحانُ والندُّ
هذي المفاتنُ في تَنَاسُقِهَا... ذكرى تلوحُ وعبرةٌ تبدو
عينانِ ما رنَتَا إلى رَجُلٍ... إلا رأيتَ قُوَاهُ تَنْهَدُّ !
وأنا معجب بصدق وحرارة هذه الأبيات وتدفق العاطفة فيها، وتأمل أخي القارئ سلاستها وحرارة معانيها:
ما لكم أوقدتم النار وقلتم... الأصوليون زادوها اشتعالا
إنما أشعلها الظلم ولكن... ما تزالون تثيرون الجدالا
كلما قام على المنبر داع... يرشد الناس إلى الله تعالى
صاح منكم صائحٌ: هذا خطيرٌ... أوثقوا الشيخ وزيدوه نكالا
مالكم صيرتم الدين تكايا... وزوايا وادعاءً وانتحالا
كيف ترجو، حينما تلطم وجهاً... أن ترى من صاحب الوجه امتثالا
عندما تقتل حرية جيلٍ... فستلقى منه في الأمر اختلالا
أعطني حبا وخذ مني وفاءً... أعطني عدلاً وخذ مني اعتدالا
ما عهدنا أن نرى في الليل شمسا... أو نرى في وهج القيظ هلالا
ما عهدنا أن نرى في الشرق غرباً... أو نرى في راحة اليمنى شمالا
حضرت له بضع أمسياتٍ في آخر الثانوي وأول الجامعة، كان مثالا لصاحب الكلمة الصادقة النابعة من الضمير الحي والحس الخلاق، بهر الجماهير بجودة إلقائه الذي يرى البعض[1] أنه فاق شعره بمراحل، كثيرون حاولوا محاكاته، وشأنه هو أيضا شأن غيره من الشعراء عبر التاريخ، يراه محبوه والعاكفون على دواوينه متنبي العصر، بينما يراه آخرون خطيبا مباشرا ضل طريقه إلى منبر المسجد... قال مرةً معبرا عن مسيرته:
الفن عندي خادم لمبادئي *** لا خير في فن بلا أهداف
(6)
أسفي عليَّ لم أكن مقتنعا بي فحاولت أن أُغَيِّرَني مرارا، لكنِّي لم أجدْ من يأخذُ بيدي أخذا شديدا، ولم تكنْ تلك الجرعات الخفيفة في تلك المراحل الأولية كافيةً بأن تُظهر فيَّ ما يميِّزُني عن أقراني في هذا الجانب، بعد ذلك انتقلتُ لمدرسةٍ أخرى، ولقيتُ فيها أقربَ الناس مِنِّي إلى حين، كان مُثَقَّفا فَذَّا لكنَّه لم يقترحْ عليَّ مسارا دونَ غيرِه أو فنا دون سواه، كان أستاذا موسوعيا يجيبني ويدعني منطلقا على سجيتي وهواي، وهذا الخيار على جماله الظاهر أراه الآن من كدر الحياة التي حين يتذكرها المرء لا ينجيه من كلاليب حسرتها إلا التسليم بقضاء الله النافذ، فبعد أن يتسع نظرك قليلا في المعرفة والاطلاع وتتعرف إلى حقائق العلوم ويداهمك سؤال قاس عن حظك من أشرف المعارف فسوف تلحُّ عليك أمنية عظيمة وهي أنك صادفتَ في فاتحة الطريق مربيا صارما كالعالم الفقيه ابن جماعة الذي رأى تلميذه عبدالرحيم العراقي منكبا على بعض العلوم، فقال لتلميذه بأن ما أنت فيه(علمٌ كثير التعب قليل الجدوى وأنت متوقد الذهن فاصرف همتك إلى الحديث) فأصبح هذا الفتى عبدُالرحيم بعد حين المحدثَ الحافظَ العراقي شيخ الحديث وصاحب الألفية!
لكن ربما لقلة التوفيق وربما لأن المرء لم يصادف ابنَ جماعة في فاتحة طريقه وربما لأن (كلَّ مرحلة سابقة تحمل في جذورها بذور المرحلة اللاحقة)فقد وجدتني حينها غارقا في بحار الشعر العميقة وسابحا بين أمواجه الدافئة، بدأتُ في التحفُّظِ منه لاسيما من العصور الثلاثة: الجاهلي، والعباسي، والمعاصر، ظلَّ محفوظُ تلك الأيام رصيدا أسرِقُ منه الصورَ والأخيلة على مدار السنين، وألتذُّ باستعادة مقطوعة منه في صالة انتظار أو لحظةِ سأم، والحقُّ أنِّي بقدر ندمي على عدم شغل نفسي تلك الفترة بالتأصيل الحقيقي العلمي انتفعت بما منَّ الله علي من دأبٍ يسير في هذا الجانب، أذكر أنه في تلك المرحلة نَبَّهَني أحد الإخوة على الروائي الإسلامي نجيبِ الكيلاني، فولجتُ عالمه اللطيف ورواياتِهِ الخفيفة من (أميرة الجبل) و(الذين يحترقون) و(البلعوطي) و(موعدنا غدا) و(دم لفطير صهيون)، كنتُ مولعا به مدةً لكن خبتْ شُعلَتُه في نفسي بعدَ حين، كما علمتُ أنَّ كثيرا من سياقاتِه في بعض الروايات توسع فيها بما يتجاوز التيار الذي أدخل فيه، وقد أخذها عليه بعضُ النقادِ الإسلاميين كما في الرواية الأخيرة.
(7)
قرأت أيضا نجيب محفوظ برغم الصورة الذهنية غير المشجعة عنه ومن ذلك (اللص والكلاب) و(خان الخليلي) و(الحرافيش) و(ابن فطومة) و(ثرثرة فوق النيل) و(المرايا) وغير ذلك، كانت بساطته في لغته أشبه ما تكون بسطح ماء البحر التي يدرك البحارون وحدهم ما تنطوي عليه من أعماق قاتلة لمن يجهلها، وأيضا ربما تعبر هذه الأعماق دون مجرد الشعور بخطورتها!
وإني لأرى أن من خيانة الأمانة الإشارة على شُداة الأدب بالتهام بعض هذه الأعمال الأدبية أو الفكرية المذكورة في أثناء السرد، فالمرء في مثل هذا السياق يروي ما حدث بالضبط لا ما كان ينبغي أن يحدث!
أما تحصيل الفائدة البيانية فهي –ولله الحمد- ليست متوقفة على مطالعة الأعمال الأدبية المنحرفة، بل ثمة بدائل كثيرة هي أهدى طريقا وأقوم قيلا، وقد تخرَّجَ بها أساطين البيان عبر العصور، وربما يُقبِل بعض الشباب على الأعمال الأدبية والفكرية المنحرفة بدعوى تفتيق الأفق وتوسيع المدارك وهو لم يتأهل لذلك علميا وإيمانيا فيضيِّع على نفسه تحصيل مرتبة اليقين والجزم التام بحقائق الإيمان بالله واليوم الآخر، فبدلا من تفتيق الذهن وتوسيع مداركه وضع نفسه في رمضاء التساؤلات ومفاوز الحيرة.. فيا صديقي لأن ينطوي قلبك على جمر ملتهب خير من أن ينطوي على شكوك حارقة، فلا تحفر قبر راحتك ويقينك بإيمانك بفأسك ويديك! والأمر ما دام يتعلق بالنجاة الأخروية فهو حقا لا يستحق المغامرة، فلسنا محتاجين دوما لئن نجرب المجرَّبات ونسلك المسلوكات ثم في خاتمة المطاف نستشهد بقول الشاعر الدمشقي:
(لو أني أعرف أن البحر عميق جدا ما أبحرت
لو أني أعرف خاتمتي ما كنت بدأت!).
لذلك كلِّه ظلَّت تلوح لي كثيرا عبارة أبي حامد الغزالي التي كتبها في خريف عمره، وهو العالم الذي أطال النظر في كل ما صنَّفَه المبطلون في عصره من الفلاسفة والباطنية والزنادقة وغيرهم، فقال في سيرته الذاتية الفكرية هذه العبارة الصارِمَة: (ولعمري لـمَّا غلب على أكثر الخلق ظنهم بأنفسهم الحذاقة والبراعة، وكمال العقل وتمام الآلة في تمييز الحق عن الباطل، والهدى عن الضلالة.. وَجَبَ حسمُ الباب في زجر الكافَّة عن مطالعة كتب أهل الضلال ما أمكن).
(8)
اكتشفت أيضا تلك الأيام الروائي المصري توفيق الحكيم فقرأت كثيرا من أعماله من (عصفور من الشرق) إلى (الصفقة) إلى (الملك أوديب) إلى (عودة الوعي) إلى (السلطان الحائر) إلى (الأحاديث الأربعة) وغيرها، وآخر ما قرأت له سيرته الذاتية الباهتة: (سجن العمر) التي لم يرقني منها إلا فصلها الأخير،كان كاتبا محلقا، لكنه ظل يكتب حتى بداية القرن الخامس عشر الهجري رغم وفاة موهبته قبل ذلك بعشر سنين أو أكثر! وعجبي من جيلٍ اكتنفه مع العقاد وطه حسين وزكي مبارك والرافعي وأحمد أمين و بعدهم محمد مندور ومحمود شاكر، أولئك بحق أكابر العربية وأساطين البيان. وإن كنت أحببت كتابات الفَرَسَين المُجلِّـيَـيْن: (العقاد وطه) وطالما عدت إليهما بعد ذلك، فعبقريات العقاد ليست بحاجة لشهادتي، وأعماله (أنا) و(مطالعات في الكتب والحياة)، و(حقائق الإسلام وأباطيل خصومه)، و(التفكير فريضة إسلامية)، بل حتى (أبو نواس) و(ابن الرومي) و(أعلام الشعر) و(عرائس وشياطين) و(جحا الضاحك المضحك) تُنبئ عن عقل حاضر وثقافة واسعة، فلا يخدعنَّكم (سفُّودُ) الرافعي عن ذهنية العقاد، والقضايا التي يعالجها العقاد تختلف عن القضايا التي يعالجها الرافعي، فالقضية هي التي تفرض على الكاتب اللغة التي يكتبها، فإذا ما أردتَّ المقارنة بين كاتبَين في جودة الأسلوب وسلاسته فقارن بينهما حين يكتبان في موضوع واحد، العقاد – على تخليطه - كان مدرسةً في عالم الفكر والثقافة درج على أعتابها كثير من المشاهير في عصره، وكان سيد قطب في بعض مراحله من أشياعه الدائرين في فلكه، أما الأعمى (طه حسين) فهو الأبصر في معرفة الشعر ومذاهب الشعراء، وكتابه (حديث الأربعاء) بأجزائه الثلاثة وجبة لذيذة دسمة في الشعر العربي، وهو ماتع حين تطالعه بقصد الاستئناس والاستمتاع بجولان ذهنه وانسيابية عباراته، أما الانضباط العلمي والدقة البحثية والصرامة المنهجية فقلم طه حسين في واد وهي في واد، تنبئك عن ذلك هرطقته التي سلخها من المستشرق (مرجيلوث) حول الشعر الجاهلي، وتحدِّثُك عن ذلك أحكامُه المرسلة التي يرسلها بلا زمام ولا خطام، ثم قيل إنه عاد عنها، وعلَّق علي ذلك أبو فهر بقوله: (هكذا الكبار يخطئون في العلَن ويتوبون في السِّر!)[2].
وبالمناسبة رأى بعض الباحثين أن انصراف طه إلى الكتابة في الإسلاميات في آخر عمره وانكبابه على شرح قصائد من الشعر الجاهلي هي فَيئَة معرفية عن أفكاره المنحرفة، إلا أني أميل مع الباحثين الآخرين الذي رأوا أنها مجرد امتداد معرفي للطريقة السابقة، إذْ حافظ طه حسين على منهجه الشكِّي حتى آخر رمق كتابي، وإن كان تخفف من بعض الأحكام القطعية التي أطلقها ثم قيدها بخيط رقيق قابل للانفتاق عند أدنى جذب.
(9)
أذكر مرّةً في السنة الأولى من الجامعة كنت أقرأ جريدة الجزيرة فوقفت صدفةً على مقالٍ عنوانُه (الظلاميون في زمن الادعاء التنويري) لم أسمع بكاتبه من قبل، لكني أذكر منه هذه الفقرة: (...ومتى أطلقوا " الماضوية " ظنوا أنهم حسموا الموقف لصالحهم، وما عرفوا أن أكثر الوقافين عند حدود الله أمضى منهم في التجديد، وهل من التجديد، ما يكتبه نكرات متعالمون، أومثقفون مستغربون؟ يتناولون فيه قضايا (المرأة) و(المناهج) وسائر الأوضاع بطريقة مؤذية، وكأن من حولنا من الدول العربية ممن أتاحوا للمرأة التبرج والاختلاط والخلوة ومزاحمة الرجال، وملأوا مشاهدنا بالمغنيات والممثلات والراقصات قد حققوا من وراء ذلك غزو الفضاء، وصناعة الإنسان، وسلاح الردع، وكانوا أعزة أغنياء، وأننا بالتزامنا ومحافظتنا تخلفنا عنهم، وفاتنا الركب)، أعجبتني، فقصصت المقال، ووضعته في جيبي، ثم سافرت مع بعض الأصدقاء إلى الشرقية، وهناك رماه أحدُهم -ممازحا لي- في البحر!
هل كانت تلك الحادثة رؤيا منامٍ رأيتُها وأنا مستيقظ وتعبيرها: أني سأغرق في بحر كاتب المقال كما غرق ذلك المقال في مياه الخليج؟!
أشهدُ بعد سنين من قراءة لم تنقطع تلك المدة -إلا لماما- لكاتب المقال د.حسن الهويمل: هو من الأفاضل الذين انتفعت بهم، اقتربتُ من عالمه المعرفي، والتهمتُ مقالاتِه -كل ثلاثاء- التهاما، كانت نافذةً أُطلُّ منها على كثيرٍ من المعارفِ والأعلامِ، بأسلوبُ جزل كان الهويمل يستعرض خلال أحاديثه الأسبوعية بعض أسماء الكتب والأعلام والشخصيات وهذا من أنفع ما يكون للقارئ في افتتاح طريقه في عالم الثقافة، هو ذلك الكاتب الذي يصطحب عقلك إلى كتَّاب آخرين، وهو ذلك المقال الذي تخرج منه وبيدك رُزمة عناوين، وإن كان هذا المسلك مضرا بلا شك لطالب العالم الذي ينشد التأصيل العلمي، فلا أنفعَ له من استشعاره أنه لم يُخلق على ظهر الأرض كتاب آخر غير هذا الكتاب الذي بيده!
فالقراءات الجانبية تستنزف طالب العلم عن المقاصد، ويظل في صراع مرير معها، إن لم يرشِّدها احتلت وجه النهار وآخره، ربما أعطتنا سعة الأفق، لكنها غالبا تحول بيننا وبين العمق، فلا تتكئ كثيرا على قراءاتك الجانبية في الفنون المختلفة، فهي كمنسأة سليمان عليه السلام، فما رأيت أنفع ولا أقطع منها! تمنحنا سعة النظر في آفاق العلم فــ(كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة) كما يقول النفري، وتقطعنا عن العمق في أغوار المعارف! فــــ(ما ناظرت ذا فنٍ إلا غلبني، وما ناظرت ذا فنونٍ إلا غلبته) كما يقول الشعبي، هذا في صاحب الفنون، فكيف بصاحب الاطلاع المشتت والأنفاس المنقطعة والمقالات المبعثرة!
أعود للهويمل لأقول بأن مقالاته السابقة كانت كثيرة على الصحافة التي تنشرها، قال مرَّةً: (أبقى في مكتبتي لا أغادرها إلا للأكل أو النوم)، لكن كنت آخذ عليه الجنوح نحو التعميم في التعبير عن المراد، وربما فُسِّرَ جبنا معرفيا عن معالجة التفاصيل، وهذه التفاصيل هي موضع الإشكال والخلاف غالبا، أما العمومات فغالبا ما تكون موضع اتفاق، جلست معه في الرياض وفي القصيم، كان مثالا للشيخ الحاني على أبنائه من الجيل الآتي، وبسيطا شهما في تعامله.
أخيرا يحسن بي أن أنقل سطرا له قرأته قبل سنين ولا يزال محفورا على رصاص في ذهني، قال الأستاذ بتواضع: (وتجربتي الثقافية لما تزلْ تلحُّ عليَّ بأنَّني مبتدئٌ يتلقى أبجدياتِ المعارفِ في الصفوفِ الخلفية).
أطلنا السباحة على ضِفافِه، أهذا موضع الاستشهاد ببيت المتنبي:
لقد أطالَ ثنائي طول لابسه... إن الثناء على التنبال تنبال!
(10)
(فإذا ظهر في الطريق أومأ بعضهم إلى بعض، وأخرجوا ساعاتهم وضبطوها) لم تكن هذه العبارة في وصف آلة، كانت مجتزأةً من ترجمة الفيلسوف الألماني الأشهر عمانويل كانت، وفي ذكر انضباطه التام في برنامجه اليومي، الذي لا يطرأ عليه أي تحريك!
في مقابل هذه الانضباطية المذهلة التي تتحرك مثل عقارب الساعة تستطيع أن تسأل كثيرا من طلاب العلم: كم جدولا رسمت؟ وكم خطةً وضعت؟ وهذه الكتب التي تشتريها كل يوم، وتسابق المؤلفَ في اقتنائها قبل نشرها، متى ستقرؤها؟ وهاهي السنوات لاهثةً تسابق ظلها من السرعة.. وما تزال بنا جميعا حتى نرتطم بجدار الشيخوخة الصلب دون شعور، هل نستطيع -جميعا- أن نجيب على هذا السؤال المحرج: متى سيقف قطار الأماني الذي نركبه عند محطة تنفيذ الخطط؟! دعونا نصارح أنفسنا بوضوح ونذكر لها دون مواربة أن العلم أشرف من أن يدني رقبته الشريفة لقاماتنا القصيرة! إننا كثيرا ما نخادع أنفسنا في أيام معارض الكتب حين نصطف طوابير ممتدة عند الأبواب وبهذا نرسل لأنفسنا رسالة خفية من وراء حجاب مفادها: لا ينقصنا لنكون علماء وطلابَ علم إلا الكتب وبرامج الطلب! أما الهمة العظيمة والإرادة الصلبة والعزيمة الراسخة فهي متوافرة والحمدلله!
على القارئ -إن أراد أن يكون شيئا مذكورا- أن يتمتع بعصامية صاعدي الجبال وحماسة قافزي الحواجز، لا تصنع شيئا ذا بال تلك الإلمامات العجلى قبيل النوم، ولا يؤتي الأُكُلُ ثمارَهُ ما لم يُتَعَاهَدْ كلَّ حين، ولا يُتعاهد الشيء كلَّ حين ما لم يكن محببا للطالب وهوى له، فسلْ ربك إن أردت أن تتقدم في أي مجالٍ معرفي: أن يحبِّبَهُ إليك، أن يكونَ هواك، أن تكون كذاك المحدِّثَ الذي أنشدَ وهو يكتبُ الحديث:
أُعَلِّلُ نَفْسي بِكَتْبِ الحديث... وأَحْمَدُ فيه لها الموعدا
وأَشْغَلُ نفسي بتصنيفِهِ... وتخريجِهِ دائما سَرْمَدا
ومالي فيه سوى أنني... أراه هوى وافقَ المقصدا
فما أجمل الأهواء حين توافق المقاصد!
(11)
سمعت مرةً شيخا فاضلا ينصح تلميذا له بكتابٍ ما في السلوك، فقال التلميذ –معترضا-: لكني لا أجد قلبي في هذا الكتاب وإنما أجد قلبي في كتاب كذا! فقال الشيخ على الفور -جوابا ظل يرن في أذني-: إذا وجدتَّ قلبَك فأنِخ ركابَك!
وهو جواب حاذق فأكثر ما يذكر في وسائل الطلب والتحصيل ليست مسلمات قطعية إنما هي أحكام اجتهادية محضة يحالفها الصواب والخطأ، ثم إنها ليست صالحة لجميع الناس مع اختلاف درجاتهم وقدراتهم وأعمارهم، ففي مجال الاستشارة المعرفية حاذر أحدَ رجُلَين:
1-من يجعل طرق تحصيل المعرفة الاجتهادية قطعية لا تقبل التغيير والاختصار، وهذا في الغالب يكون ممن انتفع بطريقة معينة فظن أن العلم لا يمكن أن يحصل إلا بها.
2-أولئك الذين عجزوا عن بعض المهارات المعرفية كالحفظ أو الفهم أو عجزوا عن ضبط بعض العلوم كالحديث أو الفقه أو اللغة لكنهم لم يعترفوا بعجزهم في هذا ولا ذاك، وإنما قاموا بالاستلقاء على قفاهم في قارعة الطريق يعرقلون أقدام السائرين بحكَم جوفاء!
(12)
(المترجم الخائن) هي رواية للروائي السوري فواز حدّاد، تحكي قصة (حامد سليم) المترجم الشاب الذي يقع ضحيةً لخطأ دفعه لتغيير النهاية الدرامية للرواية الأصل، ثم يتسلَّطُ عليه أحد كبار المثقفين ليمارس معه المزايدة..إلخ إلخ.
مسألة الترجمة فيها كلامٌ كثير ودراسات واسعة، ولشيخ الإسلام ابن تيمية إشارات ذكية مبكرة عن الترجمة تجد بعضها في كتاب الانتصار لأهل الأثر وكتاب الجواب الصحيح وغيرهما، وكثيرٌ من الدراسات الحديثة المتصلة بالترجمة تصب في مجرى المقولة الشهيرة: (كل ترجمة هي خيانة للأصل) هذه المقولة بنسبةٍ ما صادقةٌ في كافة حقول المعرفة المترجمة، لكنها أصدق ما تكون في الشعر المترجم، فهذا الفن بالغ الرهافة؛ لا يقوى على الحياة خارج أرضه، ولا تكاد روحه تتنفس في لغتين، فسيكون عمل المترجِم كما قال ابن حزم في مناسبة مختلفة (كغارس النارجيل بالأندلس، وكغارس الزيتون بالهند، وكل ذلك لا ينجب) لذا لدي يقين أن ما قرأته من أشعار يسيرة مترجمة لشعراء خالدين في لغاتهم كـ(طاغور) و(بوشكين) وكأشعار (هايكو) اليابانية هو أقل بكثير مما كتب بروحه الأصلية، وكذا ما تُرجم من شعرنا العربي لأي لغة! هو كذلك، ألم يقل أحمد النجفي متغزلا:
أنكرتُ نفسي بعدما فارقته... فكأنني ديوان شعرٍ تُرجما!
أما الترجمات العالية الطبقة في حقول مختلفة كترجمات صالح علماني ومنير البعلبكي وعادل زعيتر وسامي الدروبي ومحمد عناني وجورج طرابيشي وسواهم، فهي بلا شك عملية تقارب المجهود المبذول في الأصل المترجم.
(13)
الحديث عن الكتب غالبا ما يكون ممتعا وخفيفا على النفس، وأكبر دليل على ذلك هو وصول القارئ إلى هذا الجزء من المقال، إذ جرت العادة لو كانت المقالة بهذا الطول تتناول جانبا من جوانب المعرفة لانقطعت قبل هذا الموضع كثير من الأنفاس، ومع هذا فأبشِّر قارئي الكريم قبل أن ينفد حلمه واصطباره أننا اقتربنا من ختام الحديث، فأود الإشارة إلى أعظم كتب الأدب والشعر في تراثنا وهو (الأغاني) لأبي الفرج الأصبهاني، كل من أحب أن يعرف الأسلوب على أصوله، والجمال على حقيقته فليقترب من بحر أبي الفرج، وكل الصيد في جوفه، فاقصد البحر وخل القنوات، قال عنه العلامة ابن خلدون في مقدمته: (لعمري إنه ديوان العرب، وجامع أشتات المحاسن..، ولا يعدل به كتاب في ذلك) وحكي عن الصاحب بن عباد أنه كان في أسفاره وتنقلاته يستصحب حمل ثلاثين جملاً من كتب الأدب ليطالعها، فلما وصل إليه كتاب الأغاني لم يكن بعد ذلك يأخذ سواه، استغناء به عنها. لكن املأ خزانتك منه، وكن على حذرٍ من حديثٍ له قبيح عن العلماء والأئمة، وكل أخباره مسرطنة الأسانيد، فهو (أعذب كتاب وأكذب كتاب) وكما قال عنه العلامة المعلِّمي بأن الأصفهاني وابن عبدربه (سمريُّون إذا ظفروا بالنكتة لا يهمهم أصدقا كانت أم كذبا) ومن الطريف أني رأيت مرّةً أحد الباحثين يؤصل لعدم الاحتجاج بأحاديث الآحاد لكنه في المقابل كان يبني شواهق الأحكام الشرعية على روايات أبي الفرج في الأغاني! ولبعض الباحثين وهم يؤصلون لأباطيلهم أقاصيص ونوادر كثيرة ليس هذا مكانها.
ومِن أروع الناثرين الذين ظللت مشدودا إليهما بحبل غليظ، لا أظنه سيرتخي عما قريب، وهما محل اتفاق بين الأدباء في جودة الأسلوب وسعة الاطلاع ودقة الملاحظة والتعبير عن الزوايا المعتمة في دواخل النفس الحاذِقَين السَّاخِرَين: الجاحظ والتوحيدي، فمع الأول من كتابه (البخلاء) إلى (البيان والتبيين) إلى (الحيوان) تلك التي يصح عليها أبيات ابن الرومي:
وحديثها السحر الحلال لو انه... لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يُملل وإن هي أوجزت... ودَّ المحدَّث أنها لم توجز!
والثاني في كتبه اللذيذة (الصداقة والصديق) و(الإمتاع والمؤانسة) و(الهوامل والشوامل) وأمتعها (أخلاق الوزيرين) ولي ميل إلى أبي حيان، لربما لأني حديث عهد به، بينما الجاحظ عرفته قبلُ، والدكاترة زكي مبارك عقد عن التوحيدي حديث لطيفا في كتابه الرائع (النثر الفني في القرن الرابع) وهذه الكتب إنما يؤخذ منها بطبيعة الحال لطافة الأسلوب وحسن التعبير فحسب، فمن المعروف أن فيها من المؤاخذات ما يربو على ما قيل عن كتاب الأغاني.
(14)
حين نؤيد أن يكون للإنسان رأي مستقل وذوق ذاتي وعقل متحرر من ربقة التقليد في النواحي الذوقية، فإننا هذه المرة نشير عليه بأن يلغي ذوقه ويندس مع الجماهير العربية الصاخبة المعجبة بشاعرها الأعظم، أن يصفق مع الآخرين ببلاهة للمتنبي، وذلك لأن التمنع وعدم الإعجاب (بمعجز أحمد) كما سماه المعري لا يعد نضجا وارتفاعا، أن يسمع العربي هذا التحليق:
نحن أدرى وقد سألنا بنجد... أقصير طريقنا أم يطول؟!
وكثير من السؤال اشتياقٌ... وكثير من رده تعليل!
أو:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا... أن لا تفارقهم فالراحلون هم !
ثم لا يُقَدِّمَ هذا الشاعرَ الذي امتلك ناصية اللغة، فصار يعبث بها (أو بِنا.. لا فرق!)، ففي عربيته شيءٌ من الريب.. كان المَعَرِّي من أذكياء العالم وأكبر شعراء الفصحى، ومن علماء اللغة المعدودين، ومع ذا كان إذا سمع بيت المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي... وأسمعت كلماتي من به صمم !
قال: أنا هو الأعمى الذي نظر إلى أدبه!
أما أنا فتحفظت ابتداءً لشيخي بدر العواد، وما زلت أراه شاعرا كبيرا سرق نفسه من بين الشعراء ورماها -غير آبه- في حِلق العِلم، وشعره صادف قلبي خاليا فتمكنا، ولأنه لم يتوافر على نشر ما يكتب ظل -كما أراد- منزويا في الظلِّ، فكثيرون لا يعرفون سُموقَه الأدبي وشموخَه العلمي، ووددت لو جُرَّ للساحة التي تنتظره، والتي امتلأ فضاؤها بمن قال عنهم هوَ في مقطع شعريٍ ظريف:
كلُّ حقٍ خلفَهُ اثنان
حَريٌ بالضياع
عاقل غير شجاع
وشجاع جاهلٌ حتى النخاع!
ثم قفزت لنزار قباني فرأيت (كلماتٍ ليست كالكلمات!)، هذا الشاعر طوع اللغة وأعاد بناء تراكيبها، لن تقرأ في شعر نزار إلا نزاراً وحده، بسهولته وليونته، برشاقته ورقته، بقذارته وجرأته، وقد اتسخت اللغة من سوء استعماله لها، وقام بتلويثها تماما كما يفعل الأطفال على حوائط دورات المياه! المذهل في هذا الدمشقي المتمرد أن شعره يكتبه وحده ويقرأه العرب من المحيط إلى الخليج، لم أر من صح عليه وصف (السهل الممتنع) مثله. رأيتُه صادقا حين قال:
وأنا جعلت الشعر خبزا ساخنا... وجعلته ثمرا على الأشجار !
مررت عابرا على شطِّ محمود درويش وتحفظت (سجل أنا عربي) و (وطني يعلمني حديد سلاسلي) وغير ذلك، لكني وبكل اعتراف لا أفهم كثيرا من هلوساته التي كتبها بعد، ولا أدري ما هذيانه في (جداريته)، ولم يشدَّني أنه يأتي إلى بيروت كي يأتي إلى بيروت! ودواوينه (كزهر اللوز أو أبعد، وأحد عشر كوكبا..) في مكتبتي أتجاوزها كما يتجاوز الطيارون مثلث برمودا الغامض، قال مرةً عن أشعاره المطلسمة: (ولعل هذا النوع من الغموض هو الفضاء المفتوح لدور القارئ في منح القصيدة حياةً ثانية) أما أنا فلم أرغب يا درويش أن أمنح قصائدك المغلَقة -إلى درجة الوفاة- حياةً! لا أنت ولا هؤلاء الشعراء المتناسلين الخارجين من عباءتك! الذين قال عنهم صاحبك نزار: (إنهم ثلاثون عاما أو أكثر يحرثون البحر دون أن تطلع لهم الحنطة، ودون أن يغيروا سنتيمتر واحدا في الحساسية الشعرية العربية).
ومن شعراء العصر الكبار عمر أبوريشة، وما زال متقلبا في حياته حتى انتهى شاعرا إسلاميا في كنف الملك فيصل رحمهما الله، وقصائده الرائعة (في طائرة) و(عروس المجد) و(أمتي) و(عودي) و(صلاة) جديرة بأن تُحفظَ وتتأمل، وكان لقصائده قصص يرويها على جلسائه تضفي عليه وعليها كثيرا من الهالة والغموض وهي أشبه ما تكون بمغامرات البطل الكرتوني ماوكلي! وذلك نحو قصته عن قصيدته (عودي)!
(15)
قبل سنين كنت أقرأ حوارا مع الدكتور الحضيف في جريدة المحايد، فإذا به يشير لشاعر اسمه السياب لأول مرةٍ أسمع به، والحضيفُ الذي كانت تروقني عباراته تلك الأيام يتحدث عن السياب بلغةِ المعجب الهائم، أذكر أنه قال: (اللغة التي يهذي بها السياب بطقوسية غير مسبوقة في قصيدة أنشودة المطر وقصيدة المومس العمياء)، بحثت مباشرة عن ديوان للسياب فلم ألق إلا دراسة عنه لم تشف عليلا ولم ترو غليلا، بعد حين استعرت ديوانه من أحدهم، فتحطمت قوائم خيلي على سفح قصائده ومجاهل رموزه الشعرية، لم أدر ما يقوله هذا العراقي الهاذي، كنت آتيا من مدرسة أخرى، من ذائقة مختلفة، لم تألف أذني غير هذا الإيقاع:
لا تسقني ماء الحياة بذلة... بل فاسقني بالكأس مر الحنظل!
أو:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة... وليس وراء الله للمرء مذهب
أو:
وتجلدي للشامتين أريهم... أني لريب الدهر لا يتضعضع!
فإذا بي أجد من يقول متغزلا:
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
ويقول:
عيناك ياللكوكبين الحالمين بلا انتهاء
لولاهما ما كنت أعلم أن أضواء الرجاء
زرقاء ساجية، وأن النور من صنع النساء
ويقول منيبا لربه -وقد كان شيوعيا قبلُ!- وهو يكابد المرض:
شهور طوال وهذي الجراح
تمزق جنبي مثل المدى
ولا يهدأ الداء عند الصباح
ولا يمسح الليل أوجاعه بالردى
ولكن أيوب إن صاح صاح
لك الحمد إن الرزايا ندى!
بعد حين ألِفْتُ هذا الصوتَ، وصارَ هذا الديوانُ أثيرا على روحي، وباعثا فيَّ المتعةَ والمشاعرَ المختلفة.
(16)
لا يُدرِكُ الذين يَشْغَلُهُم هَمُّ تصدرِ المجلسِ القادمِ بهذه المعلومةِ أو تلك، مَنْ يَقرأونَ في الصَّباحِ وفي ذِهنِهِم أن يُفْرِغوا شُحْنَتَهُم في المساء، لا يدرِكون أنَّ المعرفةَ روحٌ تَتَمَشَّى في مَفَاصلِ القارئ قبلَ غيرِهِ، اقرأْ لأجلِكَ أنت هذه السِّنين، لتعبد ربك على بصيرة، لتستشعر لذة تهاوي قلاع الجهل في أعماقك، لتكون المشرف على تشييد صروح المعارف في داخلك، وكن دوما نزاعا نحو التأصيلِ في كلِّ فن، ما قيمة كاتبٍ أو أديبٍ لا يعرف ما يقيم صُلْبَه من قواعدِ النحوِ والإملاء، أو متحدثٍ في الشَّأنِ الفِكري والمذاهبِ لا يَعرف كلامَ أهلِ السنَّة في المسألةِ التي يطرقها، أو ناطقٍ في مسألةٍ فقهية لا يعرفُ دليلَها... أليس العلم نقطة كثرها الجهلاء!
لم أحزنْ كثيرا لأني رأيتُ صحفيا يؤَلِّفُ في موضوعٍ شائكٍ كـ(الديمقراطية والسلفية)، أو موضوعٍ باطلٍ كـ(حريةِ المنافقين)، أو لأنَّ أولئك: لمعتْ في عُيُونِهِم الحضارةَ الغربيةَ بِـجَنبَيها الفاتِنَينِ (الحريةِ والحقوقِ): فألبسوها -بكلِّ تفاصيلها- جُبَّةً شرقيةً وعِمَامَةً دينية، لم أحزنْ لأنَّهم أَلَّفوا وكَتَبوا، لكنِّي أتألَّم من نفوقِ أفكارِهِم الـمُدَجَّنَةِ بين الأخيار، حتى غدت كثير من العقول مجرد عارضة لأزياء الأفكار الجديدة كما وجدت عارضات أزياء الملابس!
لـمَّا أَجَلتُ النظر في شبكات التواصل خَطَر بِبالي أنه لا داعي لثني الرَّكَب عند العلماء، وتضييعِ العُمُرِ بِحِفْظِ النُّصوصِ وَفَهْمِهَا، ومِنْ ثَمَّ جَرْدُ الـمُطَوَّلات، المسألةُ أسهلُ بكثير من هذا العناء: فقط افتح حسابا هناك..، بعد ذلك تَمَتَّعْ بِقَدرٍ من الجُرْأة، وفيضٍ من الوقاحَةِ، واجعلْ لحومَ الأكابرِ مضغةً في فَمِك، ولا تنسَ بأن تُرَدِّدَ أن شطرا طويلا من عُمُرِكَ -الذي لم يتجاوزْ الثلاثين بعدُ-: خُدِعْتَ بالسَّلَفية، وأنَّ الدعوةَ الوهابيةَ سلبياتُها أكبرُ من إيجابياتِها، وفي خِضَمِّ ذلك الانتِشاء بالتنظير ؛ اكتبْ مَقَالا بِعُنوان: (رحلتي من السَّلَفيةِ الضَّيقةِ إلى الإسلامِ الأرحب) حاولْ أن تكرِّرَ فيه اسمَي مارتن لوثر وكالفِنْ مِرارا، بعد هذا ستلقى من يُبَجِّلُك ويراك مُثَقَّفا موهوبا، ولديك من الأفكارِ ما يَسْتَحِقُّ الإشادَةَ والقِرَاءَةَ، سَتَلقى مَن يَظُنَّك أبا حامدِ الغزالي الذي غَرِقَ في بحر متلاطمٍ من الفَلسَفَة، لن يَعْلَموا أنَّ قُصَارى قِراءاتك لم تتجاوزْ رواياتِ علاء الأسواني، وإحدى روايات دان براون، ثم وَجَدتَّ الطريق قصيرا نحو التَّصَدُّرِ والتَّنظيرِ...!
بصراحة من الأشياء التي تقلقني جدا كلما جالست بعض إخواني الذين لهم اهتمام معرفي أني أرى ضعفَ المناعةِ الفكرية مرضا مستشريا في الأوردةِ والشرايين..، أما أولئك البعيدون عن القراءة والمطالعة فهم في أمان من التحولات والموضات الفكرية، فأصبحت القراءة والمعرفة بسبب المنهجيات الخاطئة والقراءات السطحية والهزيمة الداخلية خطرا محدقا بينما كان المفترض أن تكون صِمام أمان ومصدرا لليقين في نفس القارئ ومَن حوله! وهذا لا ينفي وجود كوكبة كبيرة جمعت قوة الاطلاع وعمق اليقين وجمالية التعبير لكن بالمقابل هناك خضوع داخلي لدى آخرين لسلطة القراءات الجديدة، فالبناء الفكري السامق في سنوات قابلة للتصدع والانهيار في لحظات، أستطيع أن أفهم أن يغرق الإنسان في أمواج ضاربة من القراءات، لكن لا أفهم كيف يغرق هذا في قاع كأس؟! إلا أن يكون السبب: قابلية المحل للانحراف! خصوصا أن كثيرا من الانحرافات المعاصرة التي تثار أجاب عنها أئمة أهل السنة خلال قرون، فتجد الشاب يحفظ الشبهة ويتعنى في الوصول إليها لكنه لا يكلف نفسه مطالعة كلام أهل السنة وحسن التأمل فيه، وقد كانت النظرية الطبية عند الأطباء القدامى -اليونان والعرب- تقوم على مبدأ أبقراطي قديم وهو الاعتماد على الطبيعة الشافية، وما الدواء إلا مثير للقوة الشافية، فكانوا يسمونها (المدبر) فإذا عجزت هذه القوة عن مقاومة المرض لم يعد للعلاج قيمة، وكذا الشبه الخاطفة في النفوس الضعيفة؛ إذا ضعفت القوة الشافية صار القلب مستودع الأوبئة العقلية والعلل الفكرية !
اللهم إنا نسألك العلم النافع والعمل الصالح ونعوذ بك من النصب والسهر في تحصيل معارف تقصينا عن منابع اليقين وتوردنا المهالك يوم الدين!
----------------------------------
[1] يغلط النحاة إضافة أل التعريف على " بعض " و " غير " و " كل " ويرون أنها ملازمة للإضافة، وقد شاع تساهل كثير من الأفاضل في استعمال ذلك، وقال الشيخ ابن عدود –رحمه الله- في صدر نظمه مختصر خليل معتذرا عن ذلك:
وربما استعملتُ لحنا اشتهر *** كالـ غير والـ كل اقتداءً بالنفر
إذ لا أرى في النحو لي مزية *** على شيوخِ الحيِّ من غَزية!
وقد أردت أن أصحح هذا التركيب، لكني قرأت بيتي الشيخ ابن عدود في أثناء تحرير المقالة فاستلطفتها وقوَّى قلبي على إبقائها!
[2] بعض التقييمات المتعلقة بالشخصيات العلمية والكتب في هذه المقالة مرتهنة بلحظات كتابة المقالة قبل سنوات.
مختارات