فقه حقيقة العبودية (٦)
والاعتصام بالله ثمرة ملازمة الإيمان به، فإذا عرف العبد ربه بأسمائه وصفاته وأفعاله، وعرف عبودية الكل له، وعرف جلاله وجماله وكماله، فلا يبقى أمامه إلا أن يعتصم بالله وحده: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)} [آل عمران: ١٠١].
ولا تسكن النفوس ولا تطمئن القلوب إلا بالاعتصام بالله وحده دون سواه.
وإذا اعتصم الناس بالله وحده، وقام شرعه حقيقته، عبدٌ لله، وسيد مع كل من عداه، فالمعبود واحد، والخلق كلهم سواء في العبودية، لكنهم فريقان:
مطيعون.
وعصاة: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (١٧٥)} [النساء: ١٧٥].
فهؤلاء الذين أطاعوه، {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (١٧٣)} [النساء: ١٧٣].
والله سبحانه هو الإله الواحد الذي لا شريك له في ألوهيته، وهو الخالق الواحد الذي لا شريك له في خلقه، وهو المالك الواحد الذي لا شريك له في ملكه.
فوجب بذلك أن لا يقضى شيء إلا بشرعه وإذنه.
فهو جلَّ وعلا صاحب الحق، ومالك الملك، وصاحب السلطان في تقرير المنهج الذي يرتضيه لملكه ولخلقه.
هو سبحانه الذي يملك أن يشرع لخلقه، وهو الذي يجب أن يطاع شرعه، وينفذ حكمه، وإلا فهو الخروج والمعصية والكفر الموجب للعذاب الأليم.
وهو سبحانه وحده العليم الحكيم الذي يقرر الاعتقاد الصحيح للقلب، كما يقرر النظام الصحيح للحياة سواء بسواء.
والمؤمنون هم الذين يؤمنون بالعقيدة التي أمر بها، ويتبعون النظام والشرع الذي يرتضيه لهم، هذه كتلك سواء بسواء.
وهم يعبدونه سبحانه بإقامة الشعائر، ويعبدونه باتباع الشرائع، فكلاهما من عند الله، هذا أمره، وهذا أمره، ولا سلطان لأحد في ملكه وعباده معه.
وهو وحده الذي يستحق أن يعبد، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى، ولا يستحق العبادة أحد سواه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢)} [الأنعام: ١٠٢].
وقد حرم الله الخمر والميسر؛ لأنهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة التي تصل المسلم بربه.
ويصرفان العبد عن امتثال أوامر الله والنهوض بما أمر الله به، فالخمر تنسي، والميسر يلهي، وغيبوبة السكر واللهو تنافي اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم، ليكون موصولاً بالله في كل لحظة، مراقباً لله في كل خطوة.
ثم ليكون كذلك بهذه اليقظة عاملاً إيجابياً في نماء الحياة وتجددها، وفي صيانتها من الضعف والفساد، وفي حماية نفسه وماله وعرضه، وحماية أمن الجماعة المسلمة، ودينها وشريعتها من كل اعتداء.
فالمسلم سلعة غالية، ولهذا اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وأعطاهم على ذلك الجنة.
فللمسلم وظائف وأعمال، وجهد وبناء، وليس متروكاً لذاته ولذّاته وشهواته، فعليه في كل لحظة حيث كان ومن كان تكاليف وأوامر من ربه تستوجب اليقظة الدائمة:
تكاليف لربه.
وتكاليف لنفسه.
وتكاليف لأهله.
وتكاليف للجماعة المسلمة التي يعيش فيها.
وتكاليف للإنسانية كلها يدعوها إلى ربها، ويهديها إلى خالقها.
ومجموع هذه التكاليف والأوامر هي الدين، وهي العبادة التي يتقرب بها إلى ربه، يؤديها خالصةً لربها، وفق سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)} [الأنعام: ١٦٢، ١٦٣].
والناس ليسوا وحدهم في هذا الكون، حتى يكون وجودهم مصادفة، وحتى تكون حياتهم سدى وفوضى.
إن حولهم أحياء أخرى كلها ذات أمر منتظم، ومخلوقات أخرى لا يحصيها إلا الله، وكلها تعبد الله وتسبحه سامعة مطيعة لفاطرها كما قال سبحانه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (٤٤)} [الإسراء: ٤٤].
وذلك كله يدل على عظمة الخالق، وحسن تدبيره، وسعة رحمته التي عمت كل خلقه، وما ترك الله شيئاً من خلقه بدون تدبير يشمله، وعلم يحصيه، وفي النهاية تحشر الخلائق إلى ربها، فيقضي في أمرها بما شاء: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨)} [الأنعام: ٣٨].
والله على كل شيء قدير، وقد شاء أن يجعل في الإنسان الاستعداد المزدوج للهدى والضلال عن اختيار وحكمة لا عن قهر وإلزام.
وكذلك الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، بمشيئته تلك التي تعين من يجاهد، وتضل من يعاند، ولا تظلم أحداً من العباد.
والله سبحانه هو الإله الذي يستحق أن يعبد ويخضع له، ويطاع أمره، فهو خالق خلقه ومالكهم، وهو كذلك الرازق الذي يرزقهم من ملكه الذي ليس لأحد شريك فيه.
فكل ما يقتاته الخلق وكل ما يأكلونه فإنما هو من هذا الملك العظيم الخالص لله.
فإذا تقرر أن الله وحده هو الخالق المالك الرازق تقرر أن تكون الربوبية له سبحانه، وأن تكون الألوهية له سبحانه، وأن تكون العبودية خالصة له سبحانه.
فلا يُعبد ولا يطاع ولا يُشَرِّع إلا هو سبحانه، ومن له الأسماء الحسنى والصفات العلا والكمال المطلق والجلال والجمال كيف يليق بالإنسان العاقل أن يعرض عنه، ويعبد غيره؟: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤)} [الأنعام: ١٦٤].
أغير الله أبغي رباً ناقصاً عاجزاً يحكمني ويصرف أمري؟.
أغير الله أبغي رباً وهذا الكون كله في قبضته، والخلائق كلها تحت قهره وربوبيته؟.
أغير الله أبغي رباً وإليه مرجع العباد فيحاسبهم على نياتهم وأعمالهم، وعلى طاعاتهم ومعاصيهم؟.
أغير الله أبغي رباً وهو الذي خلق الناس، واستخلفهم في الأرض، ورفع بعضهم فوق بعض درجات في الجسم والعقل، والعلم والرزق، ليبتليهم أيشكرون أم يكفرون؟.
أغير الله أبغي رباً فأجعل شرعه شرعاً وأمره أمراً وآيات الكون وآيات القرآن كلها ناطقة شاهدة بأن الله وحده هو الرب الواحد القادر على كل شيء؟.
أغير الله أبغي رباً وهو العزيز الجبار سريع العقاب لمن عصاه، الملك الغفور الرحيم لمن تاب إليه؟.
ألا ما أظلم الإنسان وما أسفهه، وما أوحشه إذا أعرض عن ربه ومولاه، وتولاه عدوه الشيطان، وأطاع نفسه وهواه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠)} [القصص: ٥٠].
فسبحان العظيم الذي لا أعظم منه، وسبحان الكبير الذي لا أكبر منه، القوي الذي لا أقوى منه، الكريم الذي لا أكرم منه، الحليم الذي لا أحلم منه.
أحق من عبد، وأجود من سئل، وأرحم من ملك.
هو الملك وكل ما سواه عبد، هو الغني وكل ما سواه فقير، هو القوي وكل ما سواه ضعيف.
ومن هذه أسماؤه وهذه صفاته وهذه أفعاله أيليق بالعاقل أن يتركه ويعرض عنه، ويعبد غيره من طاغوت عاجز أو حجر أو نبات لا يسمع ولا يبصر، ولا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً؟: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (٦٤)} [الزمر: ٦٤].
{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤)} [الأنعام: ١٤].
مختارات