فقه حقيقة العبودية (٥)
وتمام العبودية وكمالها يكون بتكميل نوعين من أنواع التذلل والتعبد:
أحدهما: ذل المحبة لله، بأن يشهد العبد عزة محبوبه وجلاله وعظمته، فيحمله ذلك على التقرب إليه، والتودد إليه، والتملق له، وإيثار ما يرضيه، والصبر على أوامره، والرضى بأقداره، والحمد على نعمه، والتلذذ بطاعته.
الثاني: ذل المعصية، فإذا وقع العبد في معصية أحدث له ذلك الذل والانكسار.
فإذا انضاف هذا إلى ذاك لم يبق إلا شهود عزة الله وجلاله وكبريائه، وضعف الإنسان وعجزه، وفقره وذله لربه.
ومتى شهد العبد صلاحه واستقامته شمخ بأنفه، فإذا ابتلي بالذنب تصاغرت نفسه وذل وخضع لربه.
ولكل اسم من أسماء الله عزَّ وجلَّ وصفاته عبودية خاصة تظهر على القلب والجوارح.
فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالنفع والضر، والعطاء والمنع، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة، يثمر له عبودية التوكل على الله سبحانه.
وعلم العبد بسمع الله تعالى وبصره، وعلمه بكل شيء، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يثمر له حفظ لسانه وجوارحه، وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله.
ويجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه فيثمر له ذلك الحياء، ويثمر له الحياء الإكثار من الطاعات، واجتناب المحرمات.
ومعرفة العبد بغنى الله، وجوده وكرمه، وبره وإحسانه، وعفوه ورحمته يوجب له ذلك سعة الرجاء، والتضرع إلى الله، والوقوف ببابه، وسؤاله ودعائه.
ومعرفته بجلال الله وعظمته وكبريائه وعزته يثمر له الخضوع لربه، والاستكانة إليه، والمحبة له، والاعتماد عليه.
وعلم العبد بكمال الله وجماله، وجمال أسمائه وصفاته وأفعاله، يوجب له محبة خاصة.
فالمحبة نوعان:
محبة تنشأ عن الإنعام والإحسان فتوجب شكراً.
ومحبة تنشأ عن جمال المحبوب وكماله فتوجب عبودية وطاعة أكمل من الأولى، وعبادة الله عزَّ وجلَّ هي طاعته بامتثال أوامره في جميع الأحوال والأوقات.
فالعبادة: هي الغاية من خلق الخلق كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨)} [الذاريات: ٥٦ - ٥٨].
وبعث الله بها كل رسول إلى قومه كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦)} [النحل: ٣٦].
ودعا إليها كل رسول بقوله: {قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: ٨٥].
وأمر الله بها الناس جميعاً بقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١)} [البقرة: ٢١].
والعبادات والشعائر كالصلاة والصيام ونحوهما رباط وثيق بالله.
ولقاء كريم بين العبد ومولاه.
وضيافة عزيزة عند الله.
.
ومعراج للنفس البشرية إلى الملكوت الأعلى.
إذ كيف يكون حب من الله لعبده ولا يكون لقاء؟.
وكيف يكون ود من الله لعبده ولا تكون ضيافة؟.
وكيف تكون رحمة من الله لعبده ولا تكون طاعة من العبد لربه؟.
وفي العبادة تجرد لله من كل شيء، لتدريب النفس على عدم التعلق بأحد سوى الله.
وللعبودية منازل:
الأولى: اليقظة والانتباه من النوم، فإذا استنار قلبه بعد الانتباه أوجب له ملاحظة نعم الله الظاهرة والباطنة.
ثم شاهد عظمتها وكثرتها وتنوعها، ثم يئس من عدها، ثم شاهد منَّة الله بها من غير استحقاق ولا دفع ثمن، فيرى تقصيره في شكرها، فيلهج بذكر الله وحمده.
الثانية: مطالعة الجناية بالنظر إلى ما سلف من الإساءة، فيشمر لتخليص نفسه من رق الجناية بالاستغفار والندم، ويمحص نفسه من خبث الجناية بالتوبة والاستغفار، وفعل الحسنات الماحية.
الثالثة: الانتباه لمعرفة الزيادة والنقصان من الأيام، فيتدارك ما فاته في بقية عمره، ويستغل أوقاته فيما يقربه إلى الله عزَّ وجلَّ.
إن الإسلام ميلاد جديد للإنسان، يخضع فيه العبد لربه، ويتوجه إليه في جميع أحواله، ويمتثل أمر من خَلَقه، ويشكر من رَزَقه، ويتشرف بطاعته.
فالعبودية لله مرتبة عالية، ومنزلة سامية، ورتبة كريمة، ولا يأباها إلا كافر بنعمة الخلق والإنشاء.
والله سبحانه لا يريد من عباده أن يقروا له بالعبودية وأن يعبدوه وحده لأنه بحاجة إلى عبوديتهم وعبادتهم، ولا لأنها تزيد في ملكه تعالى، ولكنه سبحانه يريد لهم أن يعرفوا حقيقة الربوبية، وحقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية.
فلا يمكن أن تستقر التصورات، ولا أن تستقر الحياة وتنتظم إلا بهذه المعرفة الشاملة.
يريد الله تبارك وتعالى أن يستقر الإيمان في نفوس الناس وفي حياتهم، ليخرجوا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ليعرفوا مّنْ صاحب السلطان في هذا الكون، وفي هذه الأرض.
فلا يخضعوا إلا له، وإلا لمنهجه وشريعته، وإلا لمن يحكم حياتهم بمنهجه وشرعه دون سواه.
يريد سبحانه أن يعرف الناس أن العبيد كلهم عبيد فقراء، ليس فيهم رب ولا إله.
ألا ما أجمل الحياة إذا تعلقت نفوس البشر بالله وحده، وتعلقت قلوبهم برضاه، وتعلقت أعمالهم بتقواه، وتعلق نظام حياتهم بإذنه وشرعه ومنهجه دون سواه.
وأما ما يجزيهم به في الآخرة فهو كرم منه وفضل وفيض من عطاء الله.
والذين يستنكفون عن عبادة الله يذلون لعبوديات أخرى في هذه الأرض لا تنتهي.
يذلون لعبودية الهوى والشهوة.
أو عبودية الوهم والخرافة.
ويذلون لعبودية البشر من أمثالهم.
ولهم في الآخرة عذاب أليم: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (٦٠)} [غافر: ٦٠].
فالعبادة حق لله وحده، وقد وضعوها في غير موضعها، وصرفوها لغير مستحقها، وهذا ظلم عظيم، وعقوبته أشد عقوبة كما قال سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٧٢)} [المائدة: ٧٢].
مختارات