فقه حقيقة العبودية (١)
- قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨)} [الذاريات: ٥٦ - ٥٨].
٢ - وقال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥)} [البينة: ٥].
٣ - وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)} [البقرة: ٢١ - ٢٢].
الله تبارك وتعالى هو الملك الذي لا يخرج عن ملكه أحد، الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل مخلوق في العالم العلوي وفي العالم السفلي فقير إلى الله بالذات، وفقره من لوازم ذاته لا ينفك عنه أبداً.
والله سبحانه هو الصمد، الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه.
والإنسان يذنب دائماً، ويقصر دائماً، فهو فقير مذنب مقصر، وربه تعالى يرحمه ويغفر له؛ لأنه هو الغفور الرحيم.
ولولا رحمة الله لعباده وإحسانه إليهم، لما وجد العبد خيراً أصلاً، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وليست سعادة الإنسان في أن يكون عالماً بالله، مقراً بما يستحقه، دون أن يكون محباً له، عابداً له، مطيعاً له.
بل أشد الناس عذاباً يوم القيامة، وأشقاهم حياة في الدنيا، عالم لم ينفعه الله بعلمه.
فإذا علم الإنسان الحق، وأبغضه وعاداه كان مستحقاً من غضب الله وعقابه ما لا يستحقه من ليس كذلك كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (١٦)} [الشورى: ١٦].
والله عزَّ وجلَّ هو المستحق للعبادة وحده دون سواه.
فهو سبحانه أعظم من خلق.
وأكرم من سئل.
وأرحم من ملك.
وأحق من عُبد.
لا إله غيره، ولا رب سواه.
فكمال الأدب مع الله يكون بالإيمان به، وتوحيده، وطاعته، والقيام بدينه، والتأدب بآدابه ظاهراً وباطناً.
ولا يستقيم لأحد قط الأدب مع الله إلا بثلاثة أشياء:
معرفة الله بأسمائه وصفاته.
ومعرفة دينه وشرعه، وما يحبه ويرضاه.
ونفس مستعدة قابلة لينة متهيئة لقبول الحق، والعمل به والدعوة إليه، والصبر عليه.
ولا يتم صلاح العبد في الدارين إلا بأمرين:
اليقين.
والعافية.
فاليقين: يدفع عن العبد عقوبات الآخرة.
والعافية: تدفع عنه أمراض الدنيا في قلبه وبدنه.
وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين عافيتي الدين والدنيا بقوله: «اسْأَلُوا اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فَإِنَّ أَحَداً لَمْ يُعْطَ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْراً مِنَ الْعَافِيَةِ» أخرجه الترمذي (١).
ولله سبحانه على كل إنسان عبودية خاصة بحسب مرتبته وقدرته، سوى العبودية العامة التي سّوَّى الله بين عباده فيها.
فعلى العالم من عبودية نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره.
وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما.
وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه، وإلزام من هو عليه به، والصبر على ذلك، والجهاد عليه، ما ليس على المفتي.
وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير.
وعلى القوي بدينه من عبودية الجهاد ما ليس على الضعيف.
.
وهكذا.
وقد غر إبليس أكثر الخلق فحسّن لهم القيام بنوع من الذكر، أو قراءة القرآن، أو الصلاة والصيام، أو الزهد في الدنيا والانقطاع عن الناس، وعطلوا هذه العبوديات، فلم يحدثوا قلوبهم بالقيام بها.
وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس ديناً وفقهاً.
فإن الدين هو القيام لله بما أمر به، فتارك الحقوق التي تجب عليه لله أسوأ حالاً عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي.
فإن ترك الأمر أعظم عند الله من ارتكاب النهي.
ومن له بصيرة وخبرة بما بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبما كان عليه هو وأصحابه رضي الله عنهم، رأى أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس ديناً وفقهاً.
وأي دين؟ وأي خير؟ وأي علم؟ وأي فقه؟ فيمن يرى الكفر يملأ الأرض وهو صامت ساكن لا يدعو إلى الله، ويرى الجهل قد عمّ وطمّ، ويرى تفشي البدع وهو ساكن لا يتحرك، ساكت لا يأمر ولا ينهى.
ويرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وهو بارد القلب، صامت اللسان، ساكن الجوارح.
وهل بلاء الدين إلا من هؤلاء، الذين إن سلمت لهم وظائفهم ورياستهم ومآكلهم فلا مبالاة لهم بما جرى على الدين وأهله.
وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله، ومقت الله لهم، قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية وهم لا يشعرون، وهي موت قلوبهم.
فإن القلب كلما كانت حياته أتم، كان غضبه لله ورسوله ودينه أقوى، وانتصاره للدين أكمل.
(١) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (٣٥٥٨)، صحيح سنن الترمذي رقم (٢٨٢١).
مختارات