فقه حقيقة العبودية (٢)
وكلما تمكن العبد من منازل العبودية كانت عبوديته أعظم، والواجب عليه منها أكبر وأكثر من الواجب على من دونه.
ولهذا كان الواجب على الأنبياء والرسل أعظم من الواجب على أممهم، والواجب على أولي العزم أعظم من الواجب على من دونهم، والواجب على العلماء أعظم من الواجب على من دونهم، وكل أحد بحسب مرتبته وقدرته تكون مسئوليته وعبوديته.
وكمال العبودية والمحبة والطاعة إنما يظهر عند المعارضة، والدواعي إلى الشهوات والإرادات المخالفة للعبودية.
وكذلك الإيمان إنما تتبين حقيقته عند المعارضة والامتحان، وحينئذ يتبين الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، كما قال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٤)} [العنكبوت: ٢ - ٤].
وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤)} [البقرة: ٢١٤].
فالجنة غالية الثمن، لا ينالها المؤمنون إلا بالجهاد والصبر، فَخَلْق الشياطين وأوليائهم وجندهم من أعظم النعم في حق المؤمنين.
فإنهم بسبب وجودهم صاروا مجاهدين في سبيل الله، يحبون في الله، ويبغضون لله، ويوالون في الله، ويعادون في الله، ويعطون لله، ويمنعون لله.
ولا تكمل نفس العبد ولا يصلح لها الزكاء والفلاح إلا بذلك.
ولما كان ذلك لا يحصل إلا بمجاهدة النفس والشيطان وبني جنسه، وكان العامل إذا علم أن ثمرة عمله وتعبه يعود عليه وحده لا يشركه فيه غيره كان أتم اجتهاداً وأوفر سعياً كما قال سبحانه: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٦)} [العنكبوت: ٦].
ولما كان زمن التألم والعذاب والمجاهدة قصيره طويل، سلَّى الله أهله بأن له أجلاً ثم ينقطع، وضرب لأهله أجلاً للقائه سبحانه، ليهون عليهم أثقاله، ويخف عليهم حمله واحتماله كما قال سبحانه: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥)} [العنكبوت: ٥].
وعبادة الله تبارك وتعالى أصل السعادة في الدنيا والآخرة، فقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وميزه بمزاج لطيف عجيب، وجعل فيه ميل الانتخاب، وميل الأحسن، وميل الزينة.
ولأجل تلك الميول احتاج الإنسان في تحصيل حاجاته في مأكله ومشربه ومسكنه ومركبه وملبسه إلى الامتزاج مع أبناء جنسه، ليستفيد كل من الآخر في سائر المعاملات والحاجات.
وذلك يحتاج إلى أوامر من الله يسير عليها العباد في معاملاتهم ومعاشراتهم؛ لئلا يقع بينهم الظلم والعدوان.
ثم لتأسيس إطاعة الأوامر واجتناب النواهي احتاج العبد إلى إدامة تصور عظمة الخالق ومالك الملك في الأذهان، وذلك هو التوحيد والإيمان بالله عزَّ وجلَّ.
ثم لإدامة هذا التصور ورسوخ العقيدة في القلب، يحتاج العبد إلى مذكِّر مكرَّر، وعمل متجدد.
وما المذكر المكرر إلا العبادة من صلاة وصيام وذكر ونحوها.
فالعبادة لتوجيه القلوب والجوارح إلى الخالق الحكيم العليم القدير، والتوجه لتأسيس الانقياد، والانقياد للوصول إلى النظام الشامل لشعب الحياة كلها، والذي شرعه الله لمصالح عباده.
والإنسان كما أن له علاقة مع نفسه، ومع أبويه، ومع أقاربه، ومع جيرانه، ومع من يستفيد منه ويتعامل معه في مأكله وملبسه ومركبه ومسكنه ونحو ذلك، فكذلك له علاقة مع ربه، ومع كتابه، ومع رسوله.
والله سبحانه جعل لكل علاقة مما سبق تعليمات وإرشادات، وسنناً وآداباً، وأصولاً وأحكاماً، وأعطى على ذلك الأجر والثواب.
وهذا هو الدين الذي أكرم الله به البشرية، والذي ينبغي أن يدخل في كل شيء؛ لأن به صلاح كل شيء كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨)} [البقرة: ٢٠٨].
وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢)} [الجمعة: ٢].
فالعبادة: هي كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
وحاجة العباد إلى الدين أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، فالدين إذا خرج من حياة الأمة أصابها بلاء عظيم، وعوقبت بأمرين هما: الجهل والغفلة.
فيصير الإنسان جاهلاً بالحقوق والحدود، غافلاً عن القيام بالواجبات والحقوق والحدود، وكل حق له حد، فطاعة الوالدين حقها أن يطاعا ما لم يأمرا بمعصية الله عزَّ وجلَّ، وطاعة الحاكم حدها أن يطاع في كل شيء ما لم يأمر بمعصية الله عزَّ وجلَّ.
وإذا كانت المعاملات والعلاقات على غير الدين جاء الفساد وكثر، ثم جاءت المصائب والعقوبات نقداً كما قال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١)} [الروم: ٤١].
والأسباب إنما هي للابتلاء، وهي مكان الأوامر، يبتلي الله بها العباد، ليعلم من يطيع أمره ممن يتبع هوى نفسه كما قال سليمان - صلى الله عليه وسلم -: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠)} [النمل: ٤٠].
وحقيقة الدين ليس معناها كيف نصوم ونصلي فقط؟، وكيف نؤدي العبادات رسوماً بلا روح، ونفعل ما نشاء، ونترك ما نشاء.
مختارات