في رحاب قوله تعالى: ( وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً ) (النساء: 69)
قال الإمام البغوي في تفسيره: « نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه يعرف الحزن في وجهه فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ما غيَّر لونك؟ فقال: يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ثم ذكرت الآخرة فأخاف أني لا أراك لأنك ترفع مع النبيين وإني إن دخلت الجنة في منزلة أدنى من منزلتك وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبداً فنزلت هذه الآية ».
ومن نماذج المحبين عبد الله بن زيد رضي الله عنه كان يعمل في حديقة له فأتاه ابنه فأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم قد توفي فقال: اللهم أذهب بصري حتى لا أرى بعد حبيبي محمد أحداً فكفَّ بصره واستجاب الله دعاءه.
وهذا بلال الحبشي مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم نشأ منذ إيمانه على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه الموت فسمع بعض أهله يقول – واكرباه- فإذا بلال قد فتح عينه مبتسماً ثغره قائلاً: واطرباه غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه.
وكان عبد الله الزبير رضي الله عنه إذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع.
ومن نماذج حب النساء له صلى الله عليه وسلم تلك المرأة الأنصارية(قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا)التي قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: خيراً هو بحمد الله كما تحبين فقالت أرونيه حتى أنظر إليه فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل يا رسول الله.
حدّث عمرو بن العاص يوماً فقال: ما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه قال عروة بن مسعود حين وجهته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية ورأى من تعظيم أصحاب رسول الله ومحبتهم له ما رأى وأنه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه وكادوا يقتتلون عليه ولا يبصق بصاقاً ولا يتنخم نخامة إلا تلقوه بأكفهم فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم ولا تسقط منه شعره إلا ابتدروها وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيماً له.
وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه إذا حدث فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم علاه كرب وتحدر العرق من جبينه رضي الله عنه وأرضاه.
بل إن محبته صلى الله عليه وسلم تقتضي محبة أصحابه رضوان الله عليهم، يقول عبد الله بن المبارك: خصلتان من كانتا فيه نجا الصدق وحب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
ويقول أبو أيوب السختياني: من أحب أبا بكر فقد أقام الدين ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل ومن أحب عثمان فقد استضاء بنور الله ومن أحب علياً فقد أخذ بالعروة الوثقى ومن أحسن الثناء على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم برئ من النفاق ومن انتقص أحداً منهم فهو مبتدع مخالف للسنة والسلف الصالح وأخاف ألا يرفع له عمل إلى السماء حتى يحبهم جميعاً ويكون قلبه سليماً.
إن محبة رسول الله هي المنزلة التي يتنافس فيها المتنافسون وإليها يشخص العاملون وعليها يتفلى المحبون ويروح نسيمها وبروح العابدون فهي من قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون.
ومحبة المصطفى والاقتداء به حياة من حُرمها فهو من جملة الأموات ونور من فقده فهو في بحر الظلمات فلا حياة للقلوب إلا بمحبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به.
ألا ترى المحبين قرت أعينهم بحبيبهم وسكنت نفوسهم إليه واطمأنت قلوبهم به واستأنسوا بقربه وتنعموا بمحبته وصاروا أعزة في الدنيا وسادة وفي الآخرة يذوقون طعم السعادة وعلى العكس الذين تنكبوا الطريق وابتعدوا عن الجادة حياتهم كلها هموم وغموم وآلام وحسرات.
يقول العلامة ابن القيم في زاد المعاد: «.... والمقصود أنه بحسب متابعة الرسول تكون العزة والكفاية والنصرة كما أنه بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنجاة فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته وجعل شقاوة الدارين في مخالفته فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح والعزة والكفاية واللذة والولاية والتأييد وطيب العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفته الذلة والصغار والخوف والضلال والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة »
فعلى كل من نصح نفسه وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هدي المعصوم وسيرته وحياته ما يخرج به عن الجاهلية ويدخل به في عداد أتباعه العارفين به والناس في هذا بين مستقل ومستكثر ومحروم والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. أسأل الله أن يجعلنا من حزبه المخلصين وأن يوردنا حوضه ويحشرنا في زمرته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
في رحاب قوله تعالى
قال الله تعالى: (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ).
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار فقلت يا رسول الله: لو أن أحدهم نظر إلى قدمه أبصرنا، فقال يا أبا بكر:ما ظنك باثنين الله ثالثهم.
هذا أبو بكر الصديق _ رضي الله عنه وأرضاه _ واسمه عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، أول من استجاب لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم من الرجال، فكان أول من صدقه، وكيف لا يصدقه وما جرب عليه كذبًا؟ كيف لا يصدقه وهو يعلم أنه أهل للرسالة وحمل الأمانة؟
قال صلى الله عليه وسلم:ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت منه عنده كبرة، ونظر، وتردد، إلا ما كان من أبي بكر ما عكم عنه حين ذكرته له، وما تردد فيه.
جعل الصديق رضي الله عنه ماله في سبيل الله، يقدمه لمن يرى أنه بحاجة إليه من المسلمين، ويشتري من يسلم من الأرقاء ثم يعتق من اشترى، وكان رضي الله عنه رجلاً بكاء إذا قرأ القرآن استبكى.
وهو في موقفه العظيم عندما أتى إليه المشركون ليخبروه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بيت المقدس وصلى فيه ثم رجع،فكان رده القوي: والله لئن كان قاله لقد صدق، ولذلك سمي الصديق.
وهذا يدل على رسوخ الإيمان وقوة اليقين، وشجاعة بالحق، واستنارة بالفكر، واستعلاء بعقيدته، وها هو يخرج مهاجرًا في صحبة حبيبه صلى الله عليه وسلم متحملاً عناء الطريق، حاملاً في همه ألا يصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أذى، فسارا وانطلقا متوجهين إلى المدينة.
وكان الصديق رضي الله عنه أثناء الهجرة يسير أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرد عنه خطر الطريق، فإذا تخيل الطالب من الوراء رجع وسار خلفه، وهكذا طول الطريق خوفًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحماية له، ولما وصلا إلى المدينة استقبلهما الأنصار ومن هاجر قبل الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وعمر فرآهما يومًا مقبلين، فقال:إن هذين لسيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين كهولهم وشبابهم إلا النبيين والمرسلين([5]).
لم يشارك أبو بكر رضي الله عنه في أي من السرايا التي لم يخرج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبقائه إلى جانبه وحباً من أبي بكر بالبقاء بالقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه ويتأدب، ويتعلم ما يأتي به الوحي لرسول الله غير أنه كان ينطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزوات التي يسير فيها.
بعد أن أظهر الله دينه وانتصر المسلمون في بدر نصرًا مؤزرًا وتتابعت الانتصارات أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوجه إلى مكة فأبى عليه المشركون دخولها حتى تم صلح الحديبية والذي كرهه كثير من المسلمين وعلى رأسهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فوثب إلى أبي بكر فقال له يا أبا بكر: أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أو لسنا مسلمين؟ قال: بلى، قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدَّنيئة في ديننا؟، قال أبو بكر رضي الله عنه: يا عمر الزم غرزه فإني أشهد أنه رسول الله...
وفي غزوة تبوك دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته العظمى إلى أبي بكر رضي الله عنه وكانت سوداء، وكان ذلك في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة، ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه أميرًا على الحج في السنة التاسعة ليقيم للمسلمين حجهم والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم، فخرج أبو بكر رضي الله عنه ومن معه من المسلمين، فأقام أبو بكر للناس الحج.
وهكذا عاش أبو بكر راضيًا مرضيًا في صحبة حبيبه صلى الله عليه وسلم؛ فالصديق أعظم المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صاحبه، وصديقه، وخليله، وخليفته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إن من أمنِّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر إلا خلة الإسلام، لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر([6]).
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثَهُ على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، فقلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: عمر بن الخطاب؛ فعد رجال.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن تبع منكم جنازة؟، قال أبو بكر: أنا، قال:من أطعم منكم مسكينًا؟، قال أبو بكر: أنا، قال:من عاد منكم مريضًا؟، قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة.
وعن عائشة _ رضي الله عنها _ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره.
ولما ثقل برسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد كثير ممن أسلموا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقف بعض الصحابة موقف غير المصدق، وأولهم عمر بن الخطاب، فكان موقف أبي بكر رضي الله عنه شجاعًا، وضح فيه علمه واتزانه، فصعد المنبر فقال:أيها الناس إنه من كان يعبد محمدًا فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أوقتل انقلبتم على أعقابكم). قال عمر رضي الله عنه:والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت (أي دهشت) حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات.
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بايع المسلمون أبا بكر رضي الله عنه، وأصبح خليفة المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتولى رضي الله عنها الخلافة مقتديًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، متمسكًا بكتاب الله، ملتزمًا بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ورغم قصر مدة خلافته إلا أنها كانت مليئة بالأعمال والمواقف الجليلة، وفيها العبر والحكم من الأفعال التي قام بها التي جعلته أنموذجًا يقتدي به كل حاكم عادل، وكل سلطان قوي، وكل إمام يعمل لصالح أمته وخير دينه. فرضي الله عن أبي بكر الصديق وعن الصحابة أجمعين، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
صلة الأرحام... قرب من الرحمن
الحمد لله كثير الفضل والإحسان، جزيل البر والإنعام، الذي أمر بصلة الأرحام، وبشر من قام بها بسكنى الجنان، وحذر من قطعها بالطرد عن جنته ولزوم البعد والحرمان والتقلب في النيران، أحمد سبحانه أبلغ حمد وأزكاه، وأشمله وأنماه، والصلاة والسلام على واصل الأرحام، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان، وعلى من سلك طريقه واقتدى بفعله ما تعاقب الجديدان.
يقول المولى جل وعلا حاثاً على صلة الرحم وترغيباً في فضلها:[واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى](النساء:36)، وقال تعالى:[إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى]ٍ(النحل:90)، وقال تعالى:[وآت ذا القربى حقه](الإسراء:26)، وقال تعالى:[واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام] النساء:1
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه..) متفق عليه.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه) متفق عليه.
وعن أبي أيوب خالد بن زيدٍ الأنصاري رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله أخبرني بعملٍ يدخلني الجنة، ويباعدني من النار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم)متفقٌ عليه.
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخلٍ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها، ويشرب من ماءٍ فيها طيبٍ، فلما نزلت هذه الآية: [لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ](آل عمران:2) قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول: [لَنْ تَنَالُوا البرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ] وإن أحب مالي إلي بيرحاء، وإنها صدقةٌ لله تعالى، أرجو برها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخٍ!! ذلك مالٌ رابحٌ، ذلك مالٌ رابحٌ ! وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه) متفقٌ عليه.
وعن أبي سفيان صخر بن حربٍ رضي الله عنه في حديثه الطويل في قصة هرقل أن هرقل قال لأبي سفيان: فماذا يأمركم به؟ يعني النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلت: يقول: (اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة) متفقٌ عليه.
فكل هذه الآيات والأحاديث جاءت في فضل صلة الرحم، وأنها من الأعمال الجليلة العظيمة التي ترضي رب العباد وتوصل إلى الجنات.
ومعلوم أن صلة الرحم علاقة عظيمة بين أفراد الأسرة الواحدة، فهي تنمي بينهم المحبة والإخاء، وتقوي بينهم صلة القربى، فتجد الغني يعطف على الفقير، والقوي يساعد الضعيف، والصحيح يزور المريض، وهكذا تجد أفراد الأسرة متعاونين على الخير، فيجتمعون في الأعياد والمناسبات، وفي المصائب والآلام، ويسأل بعضهم عن بعض، فيتوادون ويتراحمون ويترابطون رباطاً وثيقاً كما ذكر الله ذلك في كتابه فقال:[والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل](الرعد:21)، فيعم الخير، وتزداد الصلة، وتقوى المحبة، فماداموا متمسكين بما أمر الله به فهم على طريق الهدى والرشاد.
وثمرات الصلة كثيرة جداً، ومن ذلك ما أعده الله للواصلين من الأجر العظيم والثواب الجزيل في الدنيا والآخرة، وأيضاً سعة الأرزاق، وطول العمر، والبركة في المال والولد، وغير ذلك كثير.
إن صلة الأرحام مما قصَّر فيها الكثيرون في هذه الأزمان المتأخرة نظراً لانشغالهم بالملهيات والمغريات وحطام الدنيا الفاني، ولذا عظَّم الله شأن الرحم كما ثبت عند البخاري ومسلم عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله).
لقد حذر الله من قطيعة الرحم، وتوعد على ذلك بأشد الوعيد، ورتب على ذلك خسران الدنيا والآخرة، ثبت عند البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤوا إن شئتم:[فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أرْحَامَكُمْ * أُولئكَ الَّذينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أبْصَارَهُمْ](محمد: 22، 23) متفقٌ عليه.
لقد شاهدنا في دنيا الواقع من تكون الدنيا ومتاعها الفاني سبب فراقه مع أبويه أو أحدهما، وشاهدنا من ثارت بينهم العداوات وهم إخوة وأشقاء، وشاهدنا كيف يحقد الأخ على أخيه، وكيف يقتل القريب قريبه، أو يظلمه من أجل متاع زائل ودنيا حقيرة.
ألا يذكر هؤلاء جميعاً أن ما بينهم من الصلة والمودة والقربى فوق هذا المتاع الزائل، وليعلموا أن من أفضل صلة الرحم أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتحلم على من جهل عليك، وتحسن إلى من أساء إليك.
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: يارسول الله: إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، واحلم عليهم ويجهلون علي، فقال: (لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمت على ذلك).
أما من يهجر أهله وأقاربه ويقاطعهم بسبب كلمة سمعها أو وشاية نقلت إليه، فهذا المسكين جنى على نفسه وعلى غيره، وظلم الآخرين ومنع وصول الحق إليهم، وليتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قاطعٌ)، قال سفيان في روايته: يعني: (قاطع رحم) متفق عليه.
إن صلة الرحم تقوي المودة، وتزيد المحبة، وتوثق عرى القرابة، وتزيل العداوة والشحناء، وهي ذات مجالات شتى، فمن بشاشة عند اللقاء، ولين في المعاملة إلى طيِّب في القول وطلاقة في الوجه، إنها زيارات وصلات، وتفقد واستفسارات، مكالمات ومراسلات، إحسان إلى المحتاج، وبذل للمعروف، وتبادل في الهدايا، ينضم إلى ذلك غضٌ عن الهفوات، وعفو عن الزلات، وإقالة للعثرات، وعدلٌ وإنصاف.
وبفضل الله تعالى علينا وعلى أسرة الطيار أن الله جمع شملنا، وقوى صلتنا، وألقى بيننا المحبة والمودة، وحتى البعيدين عنا من أفراد أسرتنا مترابطين معنا ترابطاً قوياً حتى زالت بيننا وبينهم المسافات، فهم معنا في كل وقت وحين باتصالاتهم، وزياراتهم، ورسائلهم، ومشاركتهم لنا في جميع أمور أسرتنا.
ومن هؤلاء الذين أثني عليهم بكل خير أبناء العم في منطقة حائل، فقد أحسنوا صنعاً في ترابطهم ولقاءاتهم، واجتماعاتهم، وتوثق صلتهم مع بعضهم البعض، وهذه سمة بارزة في أسرة الطيار عموماً، فهم يأتمرون بأمر ربهم، ويقتدون بحبيبهم وقدوتهم، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع المسلم عامة فضلاً عن الأسر الكريمة الشريفة الأصيلة التي تتحرى الدين والخلق والتعاون على الخير والبر، وفقهم الله لكل خير، وجمع شملهم دائماً على طريق الهدى والصلاح، وسدد خطاهم بنور السنة والقرآن.
سائلاً المولى جل وعلا أن يجعلنا من الواصلين لأرحامنا، البارين بآبائنا وأمهاتنا، وأن يجمع شمل المسلمين على الخير والنور، وأن يهدي ضال المسلمين، ويردهم إلى دينهم رداً جميلاً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
حقوق الجار
يقول الله تعالى: (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ). سورة النساء الآية [36].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن أو يعلم من يعمل بهن؟ فقال أبو هريرة: فقلت أنا يا رسول الله فأخذ بيده وعد خمسًا وقال: اتق المحارم تكن أعبد الناس وارض بما قسم الله تكن أغنى الناس وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب] رواه الترمذي.
وعن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره........] رواه مسلم.
إن الجار أحد ثلاثة: إما أن يكون جاراً غير مسلم فهذا له حق الجوار فقط وإما أن يكون جاراً مسلمًا فهذا له حق الجوار وحق أخوة الإسلام، وإما أن يكون جاراً مسلمًا قريبًا فهذا له حق الجوار وحق أخوة الإسلام وحق صلة الرحم.
فعلى المسلم أن يحسن إلى جاره ويعامله معاملة طيبة وأن يتجنب أذاه وألا ينظر إلى نسائه فقد ورد في ذلك نهي شديد فيما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك، قال قلت له: إن ذلك لعظيم قال قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قال قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تزاني حليلة جارك). رواه مسلم.
فأنزل الله تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً). سورة الفرقان الآية [68].
وما أجمل ما قال الشاعر:
أغض طرفي إن بدت لي جارتي * حتى يواري جارتي مأواها
وللجار على الجار حقوق كثيرة منها:
1- إذا استعانك أعنته، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل) رواه مسلم.
فخير الناس أنفعهم للناس وخير الناس من كان في عون الناس لأن الناس لا يستغني بعضهم عن بعض كما قال أحدهم:
الناس للناس من بدو وحاضرة * بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
ويقول علقمة بن لبيد يوصي ولده: (يا بني إن احتجت إلى صحبة الرجال فاصحب من إن صحبته زانك وإن أصابتك خصاصة أعانك وإن قلت سدد قولك وإن صلت قوى صولتك وإن بدت منك ثلمة سدها وإن رأى منك حسنة عدها وإن سألته أعطاك وإن نزلت بك إحدى المهمات واساك من لا تأتيك منه البوائق ولا تختلف عليك منه الطرائق).
2- إذا استقرضك أقرضته: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبًا: الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر فقلت لجبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة) رواه ابن ماجة. والقرض الحسن هو الذي لا يكون فيه منٌّ ولا أذى وبعيداً عن شبهة الحرام كالربا وغيره لأن ما ينبت من حرام فلا مصيه له إلا النار.
3- إذا افتقر عدت إليه: أي أحسنت إليه وتعاونت معه تأكيداً للمعنى الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). رواه مسلم.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله عز وجل خلقًا خلقهم لحوائج الناس يفزع الناس إليهم في حوائجهم أولئك الآمنون من عذاب الله) رواه الطبراني.
وعلى المسلم أن يعلم أن المال مال الله وما هو إلا حارس عليه ومن زرع حصد، قال الله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه) سورة الزلزلة الآيتان [8،7].
4- إذا مرض عدته: عن علي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يعود مسلمًا غدوة إلا صلَّى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي وإن عاده عشية إلا صلَّى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح وكان له خريف في الجنة) رواه الترمذي.
وزيارة المرضى تقرب الناس من بعضهم لبعض وترفع معنويات المريض وتجعل بينهم صلات قوية ليس هذا فحسب بل هي موعظة بليغة للزائر إذ يرى أن الإنسان مهما تكبر وتعنت فيمكن لقليل من المرض أن يرقد على السرير ومن ثم يبتعد عن المعاصي حتى لا يناله انتقام الجبار المتكبر الذي ربما يبتليه بمرض يودي بحياته.
ومن السنة أن يقول الزائر للمريض: لا بأس عليك طهور إن شاء الله شفاك الله وعافاك، وأن يطمعه في الحياة وقرب الشفاء إلى غير ذلك من الكلمات الطيبة التي يكون لها أثر عظيم في نفس المريض.
5- إذا أصابه خير هنأه: فعلى الجار أن يظهر الفرحة بخير أصاب جاره حتى يشعر بحبه له وسعادته بما هو سعيد به فإذا رأيت جارك أو صاحبك قد لبس ثوبًا جديداً فقل له قول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى على عمر قميصًا أبيضًا فقال: (ثوبك هذا غسيل أم جديد؟ قال: بل غسيل قال: البس جديداً وعش حميداً ومتَّ شهيداً) رواه ابن ماجة.
وإذا قدم جارك من سفر فقل له: (الحمد لله الذي سلمك أو الحمد لله الذي جمع الشمل بك). وإذا أراد أن يحج فقل له مودعًا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للغلام الذي أراد الحج: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاء غلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريد هذه الناحية للحج قال: فمشى معه وقال: (يا غلام زودك الله التقوى ووجهك الخير وكفاك الهم، فلما رجع سلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرفع رأسه إليه فقال: يا غلام قبل الله حجتك وكفر ذنبك وأخلف نفقتك). رواه الطبراني.
وإذا أراد الزواج فقل له بعد عقد النكاح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير) رواه الترمذي.
وإذا رزق بمولود فقل له: (بارك الله لك بالموهوب وشكرت الواهب وبلغ أشده ورزقت بره).
ومن حقوقه أيضًا: أن تعزيه في مصيبته وأن تتبع جنازته إذا مات وألا تستطل عليه بالبنيان فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فأهد له وتبدأه بالسلام ولا تطيل معه الكلام وغض بصرك عن نسائه ولا تتبع النظر فيما يحمله إلى داره إلى غير ذلك من الحقوق الطيبة.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
البدعة وأثرها في الأمة
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)(المائدة:3)، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد الذي حذر أمته من البدع وشرع لهم من سنن الهدى ما فيه غنى ومقنع، فقال:{عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة}([1])، وقال أيضاً:{من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد}([2])، وفي رواية:{من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}([3])، وقال:{تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك}([4]). صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الذين اعتصموا بسنته فاتبعوا ولم يبتدعوا، وعلى من اقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، أما بعد: فإنه لا شيء أفسد للدين وأشد تقويضاً لبنيانه من البدع، فهي تفتك به فتك الذئب بالغنم، وتسري في كيانه سريان السرطان في الدم، والنار في الهشيم، لهذا جاءت النصوص الكثيرة تبالغ في التحذير منها، وتكشف عن سوء عواقبها الوخيمة.
لقد أحدث كثير من المسلمين في دينهم من البدع والخرافات ما لا يرضاه مسلم عاقل يؤمن بالله واليوم الآخر، حتى أنك ترى في كثير من الأحيان أن البدع تروج كأنها سنة، ويكون قصد مروجيها حسناً، لكنهم يضرون أنفسهم ويضرون غيره، قال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)(الكهف:103، 104).
وفي كل عام تخرج علينا بعض الاجتهادات حتى تصل إلى حد البدعة، وهذا من جهل الناس، وانطلاقهم من العواطف والحماس غير المنضبط. فهناك من ينشر أقوالاً وأفعالاً يظن أن فيها مصلحة وخيراً للناس لكنه في واقع الحال أن هذه الأمور معدودة من البدع، ولذا ينبغي على الإنسان ألا يقدم على شيء ليس له مستند شرعي حتى يسأل عنه أهل العلم، قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(النحل:43)
وإن مما استوقفني هذه الأيام بعض رسائل الجوال التي كثرت مثل: ختم العام بالاستغفار، وختم صحيفة العمل بالصيام والدعاء، ومثل بدء صحيفة العام الجديد بالعمل الصالح، أو يقول في آخر يوم من العام: أرجو أن تسامحني وأن تعفو عني، ويرسل هذه الرسائل لأقوام لا يعرفهم.
والأدهى والأمر أن يقول:{لأني أحبك أمانة في رقبتك أن تصلي على محمد عشر مرات وترسلها لغيرك وستسمع خبراً سارا}، أو يقول:{قل لا إله إلا الله عشر مرات وأرسلها لعشرة أشخاص}، أو يقول: {حاسب نفسك في آخر جمعة، فما تدري هل تصلي جمعة أخرى أم لا}.
هذه الكلمات في أصلها لا شيء فيها، لكن تقييدها بزمن أو مكان هو الممنوع، والقاعدة عند أهل العلم: (أن تقييد العبادة بزمن أو مكان لم يرد فيه نص شرعي يعتبر من البدع).
إن انتشار البدع ورواجها حصل بمثل هذا الحماس وتلك العواطف التي لم تلجم بلجام الشرع.
ومعلوم أن من أصول الدين الواجب اعتقادها، ولا يصح إيمان المرء دونها أن الإسلام دين أتقن الله بناءه وأكمله، فمجال الناس التطبيق والتنفيذ، وهذا أمر أدلته ظاهرة.
ولقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغ رسالة ربه أتم بلاغ وأكمله، فما انتقل إلى جوار ربه إلا والدين كامل لا يحتاج إلى زيادة، لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الزيادة في الدين فقال:{إذا حدثتكم حديثاً فلا تزيدن علي}([5])، وروي عن بعض الصحابة منهم ابن مسعود رضي الله عنه قال:{اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم}، وقال ابن عمر رضي الله عنهما:{كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة}.
وقال الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله:{من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة لأن الله يقول: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً) (المائدة:3)، وقال الإمام الشافعي رحمه الله:{من استحسن فقد شرَّع}، وقال الإمام أحمد رحمه الله: {أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة ضلالة}.
لقد أُرسلت إليّ أكثر من رسالة من هذا النوع، ثم أتصلُ مباشرة بمن أرسلها وأخوفه بالله تعالى، وأقول له: هل لك سلطة تحملني الأمانة؟ وما هو مستندك الشرعي؟ فكلهم يتراجع ويستغفر، ويقول: ظننت أن في ذلك أجراً، فلينتبه العقلاء وليحذروا عواطف الجهلاء وحماس الشباب غير المنضبط. فتعاونوا أيها المسلمون على الخير ووضحوا الأمر للجهلاء، وعلى طلاب العلم أن يجلَّوا الأمر في دروسهم ومجالسهم وخطبهم لعل الله أن ينفع بالأسباب.
أسأل الله الكريم بمنه وكرمه أن يوفقنا وإياكم للتمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والعض عليها، وأن يجنبا البدع ما ظهر منها وما بطن، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أمانة الكلمة
يقول الله تعالى:[أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ](سورة إبراهيم: الآيات 24ـ27).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً من رضوان الله يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوى بها في جهنم) رواه البخاري ومسلم.
كم من كلمة أفرحت وأخرى أحزنت وكم من كلمة انشرح لها الصدر وأنس بها الفؤاد وأحس بسببها سعة الدنيا وأخرى انقبضت لها النفس واستوحشها القلب وألقت قائلها أو سامعها في ضيق أو ضنك فضاقت الدنيا على رحبها وكم من كلمة آست جروحًا وأخرى نكأت وأحدثت حروقًا وآلامًا.
والكلمة في الإسلام ليست حركات يؤديها المرء دون شعور يتبعها بل إن الانضباط في الكلمة سمة من سمات المؤمنين الصادقين، وصدق الله تعالى إذ يقول:[قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ] (سورة المؤمنون: الآيات 1-3).
والمؤمن الحق يشعر بقيمة كلمته حيث يعرف أنها معراج للطهر وسبيل إلى الصلاح وفي ذلك أجمل عزاء حينما تنازعه نفسه ليحارب أرباب الكلام في كثرته وتفلته دون حسيب أو رقيب يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ * وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُوْلَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيْمًا](سورة الأحزاب: الآيتان 70-71).).
قال ابن كثير رحمه الله: (يقول الله تعالى آمراً عباده المؤمنون بتقواه وأن يعبدوه عبادة من كأنه يراه وأن يقولوا قولاً سديداً أي مستقيمًا لا اعوجاج فيه ولا انحراف ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم أي يوفقهم للأعمال الصالحة وأن يغفر لهم ذنوبهم الماضية وما قد يقع في المستقبل يلهمهم التوبة منه)(تفسير ابن كثير 3/521).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (.. والكلمة الطيبة صدقة..) رواه مسلم.
فعلى المؤمن أن يتعود اللفظ الإسلامي ويبتعد عن اللفظ الجاهلي فبدلاً من أن يقول لولا الله وفلان ما حدث كذا فليقل لولا الله ثم فلان، وبدلاً من بالرفاء والبنين في تهنئة الزواج فليقل بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير وعلى خير، وبدلاً من الحلف بالنبي والكعبة والأمانة وسيدي فلان ووجه أمي وأبي أو غير ذلك فليكن الحلف بلفظ الجلالة (الله) أو اسمًا من أسمائه سبحانه وتعالى أو صفة من صفاته، وبدلاً من قوله شاءت الظروف أن يحدث كذا فليقل اقتضى قدر الله حدوث كذا أو قول أحدهم الله موجود في كل مكان ولا يحيط به مكان وذلك عندما يسأل أين الله؟ والصحيح أن يقول الله في السماء كما ورد في صحيح مسلم وغيره مما كان سببًا في اعتناق الجارية المؤمنة والله سبحانه وتعالى يقول:[وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً](سورة البقرة: الآية83).
وكلمة الناس هنا تشمل المسلم واليهودي والنصراني والكافر وغيره فإذا كان الله جل وعلا يأمرنا أن نحسن القول للناس جميعًا فأول ما يجب أن نحسن القول له هو أولى بذلك من غيره المسلم حيث نرى العجب من بعض الناس الذين يحسنون معاملة الكفار والهندوس الذين يعملون لديهم في حين أنهم يسيئون معاملة المسلمين ويكيلون لهم السبائب والشتائم والألفاظ المقززة والاتهامات في الأخلاق وغير ذلك مما لا ينبغي أن يجري على لسان مسلم بل ربما وصلت المعاملة إلى الاستعباد وصدق الفروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أنكر ذلك بقوله (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً). فهل آن الأوان أن يفيق المسلمون وهل آن الأوان أن نفهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحسن معاملة من يعملون لدينا خاصة إذا كانوا ينطقون بكلمة التوحيد.
وقد قال بعضهم: (إن الظالمين مهما ظلموا والفاسقين مهما فسقوا ففيهم بذرة الخير ما داموا يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله وما علينا نحن المسلمين إلا أن نحافظ على هذه البذرة ونمدها بالحياة والإنبات فإن فشلنا في ذلك فلا نلومن إلا أنفسنا.
فأين المسلمون من هذا الفكر الراقي في معاملتهم لإخوانهم المسلمين.
وإن سلامة الإيمان مرتبطة بنزاهة اللسان قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تتبعوا عورات الناس فمن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته وفضحه ولو في بيته) رواه البيهقي بلفظ ونحوه.
فعلى المسلم أن ينزه لسانه من كل قبيح وما أجمل أن يجري على لسانه الذكر والتسبيح والتحميد والاستغفار وكلمة الحق وما أقبح أن يجري على لسانه كلمة زور أو كذب أو غيبة أو نميمة أو استهزاء واستخفاف بالناس أو لعن أو إفشاء سر أخيه عند الخصومة.
وعلى المسلم أن يضبط لسانه عند الكلام عند الكلام أثناء الغضب أو الجدال فلربما طلق زوجته أثناء الغضب فيكون قد أذى نفسه وأسرته ويندم ولات ساعة مندم.
وعلى المسلم أن يتورع ويتحرى في الفتوى ولا يقول على الله بغير علم لأن في ذلك إثمًا عظيمًا، يقول الله تعالى:[قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ](سورة الأعراف: الآية 33).
وصدق صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) رواه البخاري.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
مختارات