3. فوائد من كتاب أدب الدنيا والدين للماوردي
حكمــــــة
ربما كان لبعض السلاطين رغبة في العلم لفضيلة نفسه، وكرم طبعه فلا يجعل ذلك ذريعة في الانبساط عنده، والادلال عليه، بل يعطى ما يستحقه بسلطانه وعلو يده. فإن للسلطان حق الطاعة والاعظام، وللعالم حق القبول والاكرام. ثم لا ينبغي أن يبتدئه الا بعد الاستدعاء، ولا يزيده على قدر الاكتفاء، فربما أحب بعض العلماء إظهار علمه للسلطان فأكثره فصار ذلك ذريعة إلى ملل ومفضيا إلى بعده، فإن السلطان متقسم الافكار مستوعب الزمان، فليس له في العلم فراغ المنقطعين إليه ولا صبر المنفردين به.
حكمــــــة
قد حكى الاصمعي رحمه الله قال: قال لي الرشيد: يا عبد الملك أنت أعلم منا ونحن أعقل منك لا تعلمنا في ملاء، ولا تسرع إلى تذكيرنا في خلاء، واتركنا حتى نبتدئك بالسؤال فإذا بلغت من الجواب حد الاستحقاق فلا تزد الا أن يستدعى ذلك منك، وانظر إلى ما هو ألطف في التأديب، وأنصف في التعليم، وبلغ بأوجز لفظ غاية التقويم. وليخرج تعليمه مخرج المذاكرة والمحاضرة لا مخرج التعليم والافادة؛ لأن لتأخير التعلم خجلة تقصير يجل السلطان عنها، فإن ظهر منه خطأ أو زلل في قول أو عمل لم يجاهره بالرد وعرض باستدراك زلله، وإصلاح خلله.
حكمــــــة
اعلم أن الله سبحانه وتعالى إنما كلف الخلق متعبداته، وألزمهم مفترضاته، وبعث إليهم رسله وشرع لهم دينه لغير حاجة دعته إلى تكليفهم، ولا من ضرورة قادته إلى تعبدهم، وإنما قصد نفعهم تفضلا منه عليهم كما تفضل بما لا يحصى عدا من نعمه. بل النعمة فيما تعبدهم به أعظم؛ لأن نفع ما سوى المتعبدات مختص بالدنيا العاجلة، ونفع المتعبدات يشتمل على نفع الدنيا والاخرة، وما جمع نفع الدنيا والاخرة كان أعظم نعمة وأكثر تفضلا. وجعل ما تعبدهم به مأخوذا من عقل متبوع، وشرع مسموع فالعقل متبوع فيما لا يمنع منه الشرع، والشرع مسموع فيما لا يمنع منه العقل؛ لأن الشرع لا يرد بما يمنع منه العقل، والعقل لا يتبع فيما يمنع منه الشرع.
حكمــــــة
توجه التكليف إلى من كمل عقله فأرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. فبلغهم رسالته، وألزمهم حجته، وبين لهم شريعته، وتلا عليهم كتابه، فيما أحله وحرمه، وأباحه وحظره، واستحبه وكرهه، وأمر به ونهى عنه، وما وعد به من الثواب لمن أطاعه وأوعد به من العقاب لمن عصاه. فكان وعده ترغيبا، ووعيده ترهيبا؛ لأن الرغبة تبعث على الطاعة، والرهبة تكف عن المعصية، والتكليف يجمع أمرا بطاعة ونهيا عن معصية. ولذلك كان التكليف مقرونا بالرغبة والرهبة، وكان ما تخلل كتابه من قصص الانبياء السالفة، وأخبار القرون الخالية، عظة واعتبارا تقوى معهما الرغبة، وتزداد بهما الرهبة. وكان ذلك من لطفه بنا وتفضله علينا. فالحمد لله الذي نعمه لا تحصى وشكره لا يؤدى.
حكمــــــة
جعل الله إلى العلماء استنباط ما نبه على معانيه، وأشار إلى أصوله بالاجتهاد فيه إلى علم المراد، فيمتازوا بذلك عن غيرهم ويختصوا بثواب اجتهادهم. قال الله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} وقال الله تعالى: {وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم} فصار الكتاب أصلا والسنة فرعا واستنباط العلماء إيضاحا وكشفا.
حكمــــــة
إن الله من رأفته بخلقه وتفضله على عباده أن أقدرهم على ما كلفهم، ورفع الحرج عنهم فيما تعبدهم؛ ليكونوا مع ما قد أعده لهم ناهضين بفعل الطاعات ومجانبة المعاصي. قال الله تعالى: {لا يكلف الله نفسا الا وسعها} وقال: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وجعل ما كلفهم ثلاثة أقسام: قسما أمرهم باعتقاده، وقسما أمرهم بفعله، وقسما أمرهم بالكف عنه؛ ليكون اختلاف جهات التكليف أبعث على قبوله، وأعون على فعله، حكمة منه ولطفا.
حكمــــــة
جعل الله ما أمرهم بالكف عنه ثلاثة أقسام: قسما لإحياء نفوسهم وصلاح أبدانهم، كنهيه عن القتل، وأكل الخبائث والسموم، وشرب الخمور المؤدية إلى فساد العقل وزواله. وقسما لائتلافهم وإصلاح ذات بينهم، كنهيه عن الغضب، والغلبة، والظلم، والسرف المفضي إلى القطيعة، والبغضاء. وقسما لحفظ أنسابهم وتعظيم محارمهم، كنهيه عن الزنا ونكاح ذوات المحارم. فكانت نعمته فيما حظره علينا كنعمته فيما أباحه لنا، وتفضله فيما كفنا عنه كتفضله فيما أمرنا به.
حكمــــــة
أول ما فرض الله عز وجل بعد تصديق نبيه صلى الله عليه وسلم عبادات الابدان، وقد قدمها على ما يتعلق بالاموال؛ لأن النفوس على الاموال أشح وبما يتعلق بالابدان أسمح، وذلك الصلاة والصيام. فقدم الصلاة على الصيام؛ لأن الصلاة أسهل فعلا، وأيسر عملا، وجعلها مشتملة على خضوع له وابتهال إليه. فالخضوع له رهبة منه، والابتهال إليه رغبة فيه.
حكمــــــة
جعل للصلاة شروطا لازمة من رفع حدث، وإزالة نجس؛ ليستديم النظافة للقاء ربه، والطهارة لأداء فرضه. ثم ضمنها تلاوة كتابه المنزل ليتدبر ما فيه، من أوامره ونواهيه، ويعتبر إعجاز ألفاظه ومعانيه. ثم علقها بأوقات راتبة، وأزمان مترادفة؛ ليكون ترادف أزمانها وتتابع أوقاتها سببا لاستدامة الخضوع له والابتهال إليه، فلا تنقطع الرهبة منه ولا الرغبة فيه، وإذا لم تنقطع الرغبة والرهبة استدام صلاح الخلق. وبحسب قوة الرغبة والرهبة يكون استيفاؤها على الكمال أو التقصير فيها حال الجواز.
حكمــــــة
فرض الله تعالى الصيام وقدمه على زكاة الاموال لتعلق الصيام بالابدان. وكان في إيجابه حث على رحمة الفقراء وإطعامهم وسد جوعاتهم لما عاينوه من شدة المجاعة في صومهم. وقد قيل ليوسف - على نبينا وعليه السلام -: أتجوع وأنت على خزائن الارض؟ فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع. ثم لما في الصوم من قهر النفس وإذلالها وكسر الشهوة المستولية عليها وإشعار النفس ما هي عليه من الحاجة إلى يسير الطعام والشراب. والمحتاج إلى الشيء ذليل به. وبهذا احتج الله تعالى - على من اتخذ عيسى - على نبينا وعليه السلام - وأمه إلهين من دونه، فقال: {ما المسيح ابن مريم الا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام}. فجعل احتياجهما إلى الطعام نقصا فيهما عن أن يكونا إلهين.
حكمــــــة
وصف الحسن البصري نقص الانسان بالطعام والشراب فقال: مسكين ابن آدم محتوم الاجل، مكتوم الامل، مستور العلل. يتكلم بلحم وينظر بشحم، ويسمع بعظم. أسير جوعه، صريع شبعه تؤذيه البقة، وتنتنه العرقة وتقتله الشرقة. لا يملك لنفسه ضرا، ولا نفعا ولا موتا، ولا حياة، ولا نشورا. فانظر إلى لطفه بنا، فيما أوجبه من الصيام علينا.
حكمــــــة
فرض الله زكوات الاموال وقدمها على فرض الحج؛ لأن في الحج مع إنفاق المال سفرا شاقا، فكانت النفس إلى الزكاة أسرع إجابة منها إلى الحج، فكان في إيجابها مواساة للفقراء، ومعونة لذوي الحاجات، تكفهم عن البغضاء وتمنعهم من التقاطع وتبعثهم على التواصل؛ لأن الامل وصول والراجي هائب، وإذا زال الامل وانقطع الرجاء واشتدت الحاجة وقعت البغضاء واشتد الحسد فحدث التقاطع بين أرباب الاموال والفقهاء، ووقعت العداوة بين ذوي الحاجات والاغنياء، حتى تفضي إلى التغالب على الاموال والتغرير بالنفوس. هذا مع ما في أداء الزكاة من تمرين النفس على السماحة المحمودة ومجانبة الشح المذموم.
حكمــــــة
فرض الله الحج فكان آخر فروضه؛ لأنه يجمع عملا على بدن وحقا في مال. فجعل فرضه بعد استمرار فروض الابدان وفروض الاموال؛ ليكون استئناسهم بكل واحد من النوعين ذريعة إلى تسهيل ما جمع بين النوعين. فكان في إيجابه تذكير ليوم الحشر بمفارقة المال والاهل، وخضوع العزيز والذليل في الوقوف بين يديه، واجتماع المطيع والعاصي في الرهبة منه والرغبة إليه، وإقلاع أهل المعاصي عما اجترحوه، وندم المذنبين على ما أسلفوه، فقل من حج الا وأحدث توبة من ذنب وإقلاعا من معصية ؛ لأن الندم على الذنوب مانع من الاقدام عليها، والتوبة مكفرة لما سلف منها. فإذا كف عما كان يقدم عليه أنبأ عن صحة توبته، وصحة التوبة تقتضي قبول حجته.
حكمــــــة
قال بعض صلحاء السلف: قد أصبح بنا من نعم الله تعالى ما لا نحصيه، مع كثرة ما نعصيه، فلا ندري أيهما نشكر، أجميل ما ينشر، أم قبيح ما يستر. فحق على من عرف موضع النعمة أن يقبلها ممتثلا لما كلف منها وقبولها يكون بأدائها، ثم يشكر الله تعالى على ما أنعم من إسدائها. فإن بنا من الحاجة إلى نعمه أكثر مما كلفنا من شكر نعمه.
حكمــــــة
إن نحن أدينا حق النعمة في التكليف تفضل بإسداء النعمة من غير جهة التكليف، فلزمت النعمتان ومن لزمته النعمتان فقد أوتي حظ الدنيا والاخرة، وهذا هو السعيد بالاطلاق. وإن قصرنا في أداء ما كلفنا من شكره قصر عنا ما لا تكليف فيه من نعمه، فنفرت النعمتان ومن نفرت عنه النعمتان فقد سلب حظ الدنيا والاخرة، فلم يكن له في الحياة حظ ولا في الموت راحة، وهذا هو الشقي بالاستحقاق.
حكمــــــة
المحرمات التي يمنع الشرع منها واستقر التكليف، عقلا أو شرعا، بالنهي عنها فتنقسم قسمين. منها ما تكون النفوس داعية إليها، والشهوات باعثة عليها، كالسفاح وشرب الخمر، فقد زجر الله عنها؛ لقوة الباعث عليها، وشدة الميل إليها بنوعين من الزجر: أحدهما: حد عاجل يرتدع به الجريء. والثاني: وعيد آجل يزدجر به التقي. ومنها ما تكون النفوس نافرة منها، والشهوات مصروفة عنها، كأكل الخبائث والمستقذرات وشرب السموم المتلفات، فاقتصر الله في الزجر عنها بالوعيد وحده دون الحد؛ لأن النفوس مستعدة في الزجر عنها، ومصروفة عن ركوب المحظور منها.
حكمــــــة
قال بعض الحكماء: إياكم والخلوات فإنها تفسد العقول، وتعقد المحلول. قال بعض البلغاء: لا تمض يومك في غير منفعة، ولا تضع مالك في غير صنعة. فالعمر أقصر من أن ينفد في غير المنافع، والمال أقل من أن يصرف في غير الصنائع. والعاقل أجل من أن يفني أيامه فيما لا يعود عليه نفعه وخيره، وينفق أمواله فيما لا يحصل له ثوابه وأجره.
حكمــــــة
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ما انتفعت ولا اتعظت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل كتاب كتبه إلي علي بن أبي طالب - رضى الله عنه -: أما بعد فإن الانسان ليسره درك ما لم يكن ليفوته ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه، فلا تكن بما نلته من دنياك فرحا، ولا لما فاتك منها ترحا، ولا تكن ممن يرجو الاخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة بطول الامل، فكأن قد والسلام.
حكمــــــة
كان سفيان بن عيينة رحمه الله يتأول قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي}. أن العدل استواء السريرة والعلانية في العمل لله تعالى، والاحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته، والفحشاء والمنكر أن تكون علانيته أحسن من سريرته. وكان غيره يقول: العدل شهادة أن لا إله الا الله، والاحسان الصبر على أمره ونهيه وطاعة الله في سره وجهره، وإيتاء ذي القربى صلة الارحام، وينهى عن الفحشاء يعني الزنا، والمنكر القبائح، والبغي الكبر والظلم. وليس يخرج الرياء بالاعمال من هذا التأويل أيضا؛ لأنه من جملة القبائح.
حكمــــــة
قيل: الناس في الخير أربعة: منهم من يفعله ابتداء، ومنهم من يفعله اقتداء، ومنهم من يتركه استحسانا، ومنهم من يتركه حرمانا. فمن فعله ابتداء فهو كريم، ومن فعله اقتداء فهو حكيم، ومن تركه استحسانا فهو رديء، ومن تركه حرمانا فهو شقي. ثم لما يفعله من الزيادة حالتان: إحداهما: أن يكون مقتصدا فيها، وقادرا على الدوام عليها. فهي أفضل الحالتين، وأعلى المنزلتين. عليها انقرض أخيار السلف، وتتبعهم فيها فضلاء الخلف.
حكمــــــة
قال بعض الحكماء: الدنيا مرتجعة الهبة والدهر حسود لا يأتي على شيء الا غيره ولمن عاش حاجة لا تنقضي ولما بلغ مزدك من الدنيا أفضل ما سمت إليه نفسه نبذها وقال: هذا سرور، لولا أنه غرور، ونعيم، لولا أنه عديم، وملك، لولا أنه هلك، وغناء، لولا أنه فناء، وجسيم، لولا أنه ذميم، ومحمود، لولا أنه مفقود، وغنى، لولا أنه منى، وارتفاع، لولا أنه اتضاع، وعلاء، لولا أنه بلاء، وحسن، لولا أنه حزن، وهو يوم لو وثق له بغد.