كرامة القلب ! (جواب عابر عن دواء العشق).
هذه النفس حين تمتلئ باهتمامات نافعة ومطامح عليَّة.. فإنها تتزاحم في القلب وتتملك مفاتيحه فيسلو عن سواها!
ولهذا تجد في الكتب تعريف بعضهم للعشق بأنه (جهل عارض.. صادفَ حركة قلب فارغ!) وهذان المعنيان: (الجهل والفراغ) لا أعرف معنيين مطروقين في الكتب والأشعار التي تناولت أسباب العشق وبواعثه وأدواءه مثلهما! فهما عمودا خيام العاشقين، فالقلب الفارغ من الهموم هو أرض بكر مهيأة للاحتلال، والجهل والغفلة والإغضاء عن العيوب هو ضمان حياة هذا العشق بين الضلوع، فإذا سقط أحد العمودين اضمحل العشق وأوشك على الانهيار! لذلك يقول الرافعي: (ينظر الحب دائما بعين واحدة، فيرى جانبا ويعمى عن جانب، ولا ينظر بعينيه معا إلا حين يريد أن يتبين طريقه لينصرف!).
ويقول أبو الطيب:
مما أضرَّ بأهل العشق أنهمُ *** هَوَوا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا
وأكثر القراء يعرفون البيت التالي لهذا البيت ويحفظونه، ويجعلون هذا البيت بمثابة مقدمة لما يليه، أما أنا فأرى أن مِن أعمق ما قاله أبو الطيب هو أن هؤلاء الكائنات: (هووا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا!) فهو أقوام اغتروا بالظواهر، ووقفوا على الرسوم، واعتقلتهم اللحظات الفانية، ومن ثمَّ باركوا تسليم أرواحهم في هيئة خواتم في أنامل المارَّة والعابرين !
ثم إن العشق يتنافى مع أنفة الروح الكريمة وسموقها وشموخها واستقلالها وحريتها وإرادتها التامة، فالعاشق أبدًا مسلوب الإرادة على الإباء، مشلول القدرة على الاختيار، مدفوع دوما إلى أضيق الطرق، وهذا يتناقض جذريا مع معاني كرامة الروح وإبائها، وهذا أمر يجده كل عاشق –وإن كابر- في أول خطوات طريقه فكيف بأواخره، فعزة النفس والتهالك على أعتاب مخلوق طريقان متوازيان لا يلتقيان! والإنسان الشريف تعز عليه نفسه أن تتسول المشاعر إلحافا، وأن ترضى أن تكون مجرد احتمالٍ في حياة آخرين..!
جاء في معلقة امرئ القيس:
أغرك مني أن حبَّكِ قاتلي *** وأنك مهما تأمر القلب يفعل!
هذا الشطر (وأنك مهما تأمر القلب يفعل) يفهمه عامة قراء المعلقة بهذه الصورة بأنك: (مهما تأمري قلبي يفعل لأنه مطيع لك)، وهذا معنى صحيح محتمل، لكن لهذا البيت معنى آخر مليح للغاية، أورده الشراح كالأنباري والزوزني، لكن هذا المعنى الآخر غير متداول فيما رأيت، وهو معنى يروقني جدا لما فيه من شرف القلب وعزة النفس وإباء الروح والقدرة التامة على التكيف مع الواقع والأحوال! والمعنى هو: (أنك مهما تأمري قلبَكِ يفعل! لأنك مالكة له! وأنا لا أملك قلبي..). فهي تملك أن تحب وتملك أن تصد! تملك أن تقبل بقلبها وتملك أن تصد بروحها! فما أجمل أن تقف حارسا ببوابة قلبك، تُدخل في جوفه من شئت، وتخرج من حَرَمِهِ من شئت، وإذا استعصى عليك طرد أحدهم من أعماق القلب انتضيت سيف العزيمة، وقطعت عنه الواردات والإمدادات والخيالات وعرضته لتيار آخر يعاكس مساره، فإذا بالساكن المستعصي بعد زمن يسير مجرد خرقة بالية، ومحض جُثَّةٍ تدفنها وتواريها في أدنى مقبرة!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون).
مختارات