أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم
أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم:
للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في القرآن والسُّنَّة أسماء كثيرة، وكثرة الأسماء هذه تدلُّ على شرف المسمَّى، وعلوِّ مكانته، وكان من عادة العرب أن تطلق الأسماء الكثيرة على من كان عظيم الشأن ورفيع المنزلة، كما أنَّ الاهتمام باختيار الأسماء من الأمور التي دعا إليها الإسلام ورغَّب فيها.
وكان من جملة خصائصه صلى الله عليه وسلم التي اختصَّه الله بها دون غيره، تلك الأسماء الكثيرة، والصفات الجليلة، ذات المعاني المتفرِّدة، كما أنَّ أسماءه صلى الله عليه وسلم تدلُّ أكمل الدلالة على معانيها، وتجسَّدت في سلوكه حقيقة، وهي ليست كما يمكن أن يحدث مع كثيرٍ من الناس عندما تكون طبائعهم وصفاتهم مختلفةً كثيرًا عن أسمائهم؛ فأسماء الرسول صلى الله عليه وسلم توقيفيَّة، بمعنى أنَّ الله تعالى هو الذي أوحى إليه بها، أو ذكرها سبحانه وتعالى في الكتب السماويَّة. لهذا اهتمَّ العلماء المسلمون بهذه الأسماء وأوضحوا معانيها، وصنَّفوا فيها مصنَّفاتٍ كثيرة؛ منها على سبيل المثال: «الرياض الأنيقة في شرح أسماء خير الخليقة» للسيوطي، و«المستوفى في أسماء المصطفى» لابن دحية.
وقد اختلف العلماء في أسماء كثيرة؛ هل تصحُّ نسبتها إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم أم لا؟، وكان من أهمِّ أسباب الخلاف؛ أنَّ من العلماء من رأى أنَّ كلَّ وصفٍ وُصِفَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم في القرآن من أسمائه، في حين قال آخرون: إنَّ هذه صفاتٌ وليست أسماء أعلام. كالإمام النووي والسيوطي رحمهما الله[1]. وكان من نتيجة هذا الخلاف؛ اختلافهم في عدد هذه الأسماء، وقد زاد البعض فيها حتى وصل بها ابن دحية إلى نحو ثلاثمائة اسم[2]!
وبين أيدينا حديثٌ ذكر فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم خمسة أسماء له؛ منها اثنان عَلَمٌ عليه؛ أي كان الناس ينادونه بهما، وثلاثةٌ تُعتبر من الصفات، وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أطلق عليها لفظ «الأسماء»، فعن جُبَيْر بن مُطْعم رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ وَأَنَا المَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللهُ بِي الكُفْرَ، وَأَنَا الحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا العَاقِبُ»[3]. وفي روايةٍ أخرى زاد نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ[4] اسمًا سادسًا؛ وهو الخاتم، نقلًا عن أبيه، فقد دخل نافعٌ رحمه الله عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَقَالَ: أَتَحْصِي أَسْمَاءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي كَانَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، يَعُدُّهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، هِيَ سِتٌّ: مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَخَاتَمٌ وَحَاشِرٌ وَعَاقِبٌ وَمَاحٍ، فَأَمَّا حَاشِرٌ فَيُبْعَثُ مَعَ السَّاعَةِ ﴿نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ [سبأ: 46]، وَأَمَّا عَاقِبٌ فَإِنَّهُ عُقْبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَمَّا مَاحٍ فَإِنَّ اللهَ مَاحٍ بِهِ سَيِّئَاتِ مَنِ اتَّبَعَهُ»[5]. أولاً: محمد ﷺ:
هذا هو أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم؛ وهو الذي سُمِّيَ به يوم ولادته. سمَّاه به جدُّه عبد المطلب، ولقد قِيلَ لَهُ: لِمَ سَمَّيْتَهُ مُحَمَّدًا وَتَرَكْتَ اسْمَكَ وَأَسْمَاءَ آبَائِكَ؟ فَقَالَ: لِيَحْمَدَهُ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ[7].
ومُحَمَّدٌ مَنْقُولٌ مِنِ اسْمِ مَفْعُول حَمَّدَهُ تَحْمِيدًا إِذَا أَكْثَرَ مِنْ حَمْدِهِ[8]، والمـُحَمَّد هو المحمود، أي الذي حُمِد حَمْدًا بعد حَمْدٍ، وهو بذلك يدلُّ دلالةً حقيقيَّةً واقعيَّةً على معناه، فليس هناك في الدنيا إنسانٌ يحمده الناس، ويشكرونه، ويثنون عليه، وعلى فضله عليهم، كمحمدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم إنَّ الأمر سيكون أوسع من ذلك يوم القيامة؛ حين يحمده البشر جميعًا ويشكرونه على قيامه بالشفاعة لهم لبدء الحساب.
ورسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ليس أوَّل من سُمِّي بذلك الاسم في العرب، بل سُمِّي به آخرون، وقد اختلف المؤرِّخون في عددهم، وأقرب الأقوال إنهم ثلاثة، وقيل سبعة، أو أكثر.
وقال السهيلي: «لَا يُعْرَفُ فِي الْعَرَبِ مَنْ تَسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ قَبْلَهُ صلى الله عليه وسلم إلَّا ثَلَاثَةٌ طَمِعَ آبَاؤُهُمْ -حِينَ سَمِعُوا بِذِكْرِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم- وَبِقُرْبِ زَمَانِهِ، وَأَنّهُ يُبْعَثُ فِي الْحِجَازِ، أَنْ يَكُونَ وَلَدًا لَهُمْ. ذَكَرَهُمْ ابْنُ فَوْرَكٍ فِي كِتَابِ الْفُصُولِ، وَهُمْ: مُحَمَّدُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعٍ، جَدُّ جَدُّ الْفَرَزْدَقِ الشَّاعِرِ، وَالْآخَرُ: مُحَمَّدُ بْنُ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ بْنِ الْحَرِيشِ بْنِ جمحى بن كلفة ابْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، وَالْآخَرُ: مُحَمّدُ بْنُ حُمْرَانَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَكَانَ آبَاءُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ قَدْ وَفَدُوا عَلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ، وَكَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، فَأَخْبَرَهُمْ بِمَبْعَثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبِاسْمِهِ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْ خَلَّفَ امْرَأَتَهُ حَامِلًا، فَنَذَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: إنْ وُلِدَ لَهُ ذَكَرٌ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُحَمَّدًا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ»[10].
هذا النصُّ السابق يُبَيِّن أنَّ اسم «مُحَمَّد» موجودٌ بلفظه هكذا في كتب أهل الكتاب، وذكر ابن القيم أنَّه رآه في التوراة[11]، وهذا يدلُّ على أنَّه توقيفيٌّ، وأنَّ الله ذكره قبل ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم بسنواتٍ عديدة، وألهم جدَّ الرسول صلى الله عليه وسلم عبدَ المطلب أن يُسَمِّيَه به، وهو يدلُّ -أيضًا- على أنَّ معناه مقصود، وهو أنَّ الكثير من البشر، وهم المسلمون منذ البعثة النبويَّة إلى آخر عمر الدنيا، سيحمدونه حمدًا بعد حمدٍ، وسيُضاف إليهم في الحمد البشرُ جميعًا يوم القيامة.
ثانيًا: أحمد ﷺ:
هذا هو الاسم الثاني التالي في الشهرة لاسم «محمد»، وهو موجودٌ كذلك في التوراة والإنجيل، وقد أكَّد القرآن على وجوده في الإنجيل، وذلك في بشارة عيسى عليه السلام بالنبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال تعالى على لسان عيسى عليه السلام: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصف: 6]. أمَّا التوراة فقد ذكرته -أيضًا- بالاسم نفسه، وثبت ذلك في روايةٍ صحيحةٍ ذَكَرَ فيها يهوديٌّ من أهل المدينة الرسولَ صلى الله عليه وسلم باسم «أحمد» عند ميلاده؛ فعَنْ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قال: «إِنِّي لَغُلَامٌ يَفَعَةٌ، ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، أَوْ ثَمَانٍ، أَعْقِلُ كُلَّ مَا رَأَيْتُ وَسَمِعْتُ، إِذَا يَهُودِيٌّ بِيَثْرِبَ يَصْرُخُ ذَاتَ غَدَاةٍ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ، قَالُوا: وَيْلَكَ مَا لَكَ؟، قَالَ: طَلَعَ نَجْمُ أَحْمَدَ الَّذِي وُلِدَ بِهِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ»[12].
وأَحْمَد صيغة تفضيل؛ فأحمد تعني أنَّه أحمد الحامدين لربِّه عز وجل[13]، فهو أكثر الخلق حمدًا لله تعالى. وإذا كان الأنبياء جميعًا، وفي مقدِّمتهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، يحمدون الله حمدًا عظيمًا في حياتهم فإنَّ رسول الله «أحمد» صلى الله عليه وسلم سيكون أعلى منهم حمدًا يوم القيامة؛ لأنَّه سيُلْهَم محامد جديدة يَحمدُ اللهَ بها لا يعرفها أحدٌ من الخلق، وذلك في مقام الشفاعة يوم القيامة! وَضَحَ هذا الفضل العظيم في رواياتٍ صحيحةٍ جاءت بألفاظٍ مختلفة يضيف بعضها إلى بعض. في أحد هذه الألفاظ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «.. فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا..»[14]. فالله عز وجل يُعَلِّم نبيَّه صلى الله عليه وسلم هذه المحامد في هذا الموقف فقط، ولم يكن يعرفها قبل ذلك. وفي لفظٍ آخر -عن أنس رضي الله عنه أيضًا- يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «.. فَأَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ الْآنَ، يُلْهِمُنِيهِ اللهُ..»[15]. فهذا اللفظ يبيِّن أنَّها ليست محامد جديدة فقط إنَّما لا يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم لسببٍ أو لآخر أن يقولها في الدنيا. أمَّا اللفظ الثالث فجاء عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وفيه يكشف أمرًا جديدًا مهمًّا، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «.. وَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلِي، وَلا يَحْمَدُهُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي..»[16]، فهذا اللفظ يُضيف بعدًا جديدًا وهو تفرُّد هذه المحامد؛ فلم ولن يقوم بها أحدٌ غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لعله من أجل هذا الحمد المتفرِّد لرسول الله صلى الله عليه وسلم سيُعطيه اللهُ عز وجل يوم القيامة لواء الحمد، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وهو يصف موقفًا من مواقف يوم القيامة: «.. وَبِيَدِي لِوَاءُ الحَمْدِ وَلَا فَخْرَ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمَ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي..»[17]. وفي الحديث دلالةٌ واضحةٌ على تميُّز الرسول صلى الله عليه وسلم في جانب الحمد، كما أنَّ فيه دلالةٌ على أفضليَّته صلى الله عليه وسلم على كافَّة الأنبياء.
ممَّا سبق نتبيَّن أنَّ اسمَي مُحَمِّدٍ وأحْمَد متكاملان، وليسا بمعنى بعضهما البعض، فالأوَّل -محمد- يعني أنَّه صلى الله عليه وسلم أكثر مَنْ حمده الناسُ وشكروه، والثاني -أحمد- يعني أنَّه صلى الله عليه وسلم أكثر مَنْ حَمَدَ اللهَ عز وجل.
ثالثًا: الماحي:
ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه، اسمًا جديدًا له، فقال: «.. وَأَنَا المَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللهُ بِي الكُفْرَ».
وقد أَشْكَل على العلماء هذا الوصف؛ لأنَّ الكفر ما زال موجودًا في الدنيا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا اجتهدوا في تفسير هذا اللفظ. قال القاضي عياض: محو الكفر إمَّا من مكة وبلاد العرب وما زَوَى له صلى الله عليه وسلم من الأرض، ووعد أن يبلغه ملك أمته، أو يكون المحو عامًّا بمعنى الظهور والغلبة كما قال: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [الفتح: 28][18].
وأضيفُ تأويلًا آخر وهو احتمال أنَّ المقصود هو المحو الأخير للكفر من الدنيا بعد نزول عيسى عليه السلام ليحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فعندها يعمُّ الإسلامُ الأرضَ بكاملها.
ومع ذلك فهناك تفسيرٌ آخر لاسم «الماحي»، وقد ذكره نافع بن جبير في روايته، فقال: «.. وَأَمَّا مَاحٍ فَإِنَّ اللهَ مَاحٍ بِهِ سَيِّئَاتِ مَنِ اتَّبَعَهُ»، وهذا المعنى محتملٌ أيضًا، وقد جاء في حديث إسلام عمرو بن العاص رضي الله عنه، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟»[19].
ولا يمنع أن يكون لاسم «الماحي» معنيان أو أكثر، فلا تعارض بين الروايات إن شاء الله.
رابعًا: الحاشر:
ذَكَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه، اسمًا آخر له، فقال: «وَأَنَا الحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي»، وفي لفظ: «وَأَنَا الحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عِقِبِي»[20].
وجمع ابن حجر العسقلاني خمسة تأويلات لهذا الوصف في فتح الباري، فقال: «.. وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي أَيْ عَلَى أَثَرِي، أَيْ إِنَّهُ يُحْشَرُ قَبْلَ النَّاسِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: «يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عَقِبِي»، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَدَمِ الزَّمَانَ، أَيْ وَقْتَ قِيَامِي عَلَى قَدَمِي[21] بِظُهُورِ عَلَامَاتِ الْحَشْرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ وَلَا شَرِيعَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ يُحْشَرُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ»، وَقِيلَ مَعْنَى الْقَدَمِ السَّبَبُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ عَلَى مُشَاهَدَتِي قَائِمًا لِلهِ شَاهِدًا عَلَى الْأُمَمِ»[22].
والقول الثاني الذي ذكره ابن حجر، وهو تأويل الحاشر بأنَّه وقت قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بالبعثة النبويَّة، واعتبارها علامةً من علامات الحشر لأنَّه آخر نبيٍّ، وبهذا فبعثته من علامات الساعة، هذا القول تؤيِّده رواية نافع بن جبير، التي قال فيها مفسِّرًا معنى الحاشر: «فَأَمَّا حَاشِرٌ فَيُبْعَثُ مَعَ السَّاعَةِ ﴿نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ [سبأ: 46]». وقد جاء في الحديث أنَّ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ». قَالَ: وَضَمَّ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى[23].
خامسًا: العاقب:
ذَكَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه، اسمًا خامسًا له، فقال: «.. وَأَنَا العَاقِبُ».
فسَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى العاقب في روايةٍ أخرى بقوله: «.. وَأَنَا الْعَاقِبُ، وَالْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ»[24]. وهذا يعني أنَّه صلى الله عليه وسلم جاء عقب الأنبياء كلِّهم، ولا يأتي نبيٌّ عقبه، ونقل النووي قول ابن الأعرابي: «العاقب الذي يخلف في الخير من كان قبله»[25].
سادسًا: الخاتم:
جاء في رواية نافع بن جبير التي مرَّت بنا اسمٌ سادسٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الخاتم.
وكلمة الخاتم تُكْتَب بفتح التاء أو بكسرها، وهي تُعطي بتغيير التشكيل معانيَ مختلفة، وكلُّ المعاني صحيحة، ولهذا يمكن أن يكون المقصود من الاسم شموله لكلِّ معانيه اللغويَّة، وهذا من جوامع الكلم، كما أنَّ اللفظ موجودٌ في القرآن الكريم في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب: 40]، وقد مرَّ بنا في الفصل السابق حديثٌ عن هذه الآية[26].
قال الصالحي الشامي: «والخاتَم بالفتح معناه أنَّه أحسن الأنبياء خَلقًا وخُلقًا، ولأنَّه صلى الله عليه وسلم جمال الأنبياء صلى الله عليه وسلم كالخاتَم الذي يتجمَّل به، وقيل: لما انقبضت النبوَّة وتمَّت كان كالخاتَم الذي يُختَم به الكتاب عند الفراغ، والخاتِم بالكسر معناه آخر الأنبياء»[27]. وفي حديثٍ آخر ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَّة أسماء أخرى له، مع تكرار لبعض الأسماء التي ذكرها في الروايات السابقة، فعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً، فَقَالَ: «أَنَا مُحَمَّدٌ، وأَحْمَدُ، والْمُقَفِّى، والْحَاشِرُ، ونَبِيُّ التَّوْبَةِ، ونَبِيُّ الرَّحْمَةِ»[28]. هذه الرواية تُضيف لنا ثلاثة أسماء جديدة.
سابعًا: الـمُقَفِّي:
نقل القاضي عياض قول شمر في معنى اسم «المقفِّي» أنَّه بمعنى العاقب[29]، ومع ذلك فأنا أعتقد أنَّ الأسماء الكثيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليست مترادفة؛ وإنَّما يعني كلُّ واحدٍ منها معنًى خاصًّا دقيقًا، خاصًّة أنَّها لم تُطْلَق عليه من الناس؛ إنَّما ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، أو جاءت في كتاب الله عز وجل، أو في الكتب السماويَّة السابقة، فالترادف فيها بعيدٌ والله أعلم.
لهذا أميل لقول ابن الأعرابي الذي نقله النووي في شرحه لصحيح مسلم، حيث قال: «هو المتَّبِعُ للأنبياء، يقال: قَفَوْتُه، أَقْفُوه، وقَفَّيتُه بتشديد الفاء المفتوحة، أَقْفِيه، إذا اتَّبعته، وقافيةُ كلِّ شيءٍ آخرُه»[30]. ويؤيد هذا المعنى ما جاء في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90]. والمقصود اقتفاء آثار الأنبياء في سلوكهم، وطريقتهم في الحياة، وعقيدتهم السليمة، وأخلاقهم الحميدة، وليس المقصود في الشريعة؛ لأنَّ شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم ناسخةٌ للشرائع التي قبلها، وفيها بعض الأمور المخالفة لتشريعات الأنبياء السابقين، وذلك كما قال تعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157].
ثامنًا: نبيُّ التوبة:
منذ عهد آدم عليه السلام كانت التوبة من المعصية كلماتٌ يقولها العبد بإخلاصٍ لله تعالى فيقبل الله منه، ويغفر له. قال تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 37]، وعندما أسرف الناس على أنفسهم في المعاصي، ووصل الأمر إلى الكفر بالله تعالى شدَّد الله عليهم، حتى جعل التوبة في بني إسرائيل تصل إلى قتل النفس أحيانًا! قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: 54].
كان هذا ابتلاءً شديدًا، كما كان مدعاةً لمخالفة الكثيرين منهم للأمر. قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 66]. لهذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، بفضلٍ من الله ورحمة، بالتوبة الميسَّرة؛ إذ عاد الأمر إلى ما كان عليه من التوبة إلى الله باللسان، مع الإقلاع عن الذنب، والندم على فعله، والعزم على عدم العودة إليه، وهذه أمورٌ يفعلها العبد بينه وبين الله تعالى، وليس عليه أن يفضح نفسه مع رجال الدين كما يفعل أهل الأديان الأخرى، وفي هذا تيسيرٌ كبيرٌ على الناس. -أيضًا- جاءت الشريعة الإسلاميَّة بفيضٍ عظيمٍ من الآيات والأحاديث التي تحثُّ المسلمين على التوبة، وتبشِّرهم بسهولة قبول الله تعالى لتوبة المذنب مهما كان فعله.
من أمثلة ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 64]، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [التحريم: 8].
وفي السُّنَّة النبوية مثل ذلك من تيسير التوبة، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اللهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ، سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَقَدْ أَضَلَّهُ فِي أَرْضِ فَلاَةٍ»[31]. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ»[32]. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «يَنْزِلُ اللهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ، فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الْمَلِكُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ، فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُضِيءَ الْفَجْرُ»[33].
بهذه الأمور الميسَّرة وأشباهها صار النبيُّ صلى الله عليه وسلم نبيَّ التوبة بحقٍّ!
تاسعًا: نبيُّ الرحمة:
هذه من أبرز صفات النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وسأُفرد لها فصلًا مستقلًّا في هذا الكتاب[34]، ولكن أشير هنا فقط إلى بعض الأمور التي من أجلها -فيما أرى- صار مناسبًا أن تُنْتَقى الرحمة من بين كلِّ الأخلاق ليُتَّخَذ منها اسمٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
1. قَصْرُ اللهِ تعالى هدف رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم على الرحمة بالعالمين في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، فإذا كان هذا هو هدف الرسالة الأساس، فمن المنطقي والمناسب أن يكون رسولها هو نبيُّ الرحمة، ويؤكِّد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى في حديثٍ له؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً»[35].
2. ليس هدف الرسالة فقط هو تحقيق الرحمة بالعالمين إنَّما كان ذلك هو هدف خَلْقِ الإنسان من البداية. قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ` إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118، 119]. ومع أنَّ العلماء مختلفون حول المقصود من علَّة الخلْق في قوله تعالى: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، فبعضهم يجعل المقصود هو الاختلاف ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾، وبعضهم يجعله الرحمة ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾، إلَّا أنَّني أميل إلى أنَّه الرحمة، وهذا هو قول ابن عباس رضي الله عنهما: «لِلرَّحْمَةِ خَلَقَهُمْ وَلَمْ يَخْلُقْهُمْ لِلْعَذَابِ»[36]. وهذا في الواقع يتَّفق مع روح الشريعة، ويتناسق مع الآيات والأحاديث الكثيرة في هذا المجال؛ فالله عز وجل يقول: ﴿وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ` يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 27، 28]، ويقول: ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ [النساء: 147]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ لِلهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[37]. فالرحمة هي الاتِّجاه العام للشريعة، ولذا تحتَّم أن يكون الرسولُ الحامل لهذه الرسالة هو نبيُّ الرحمة.
3. يُعتبر وصف «نبيِّ الرحمة» مناسبًا جدًّا لوصف حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لشموليَّة هذا الخُلُق في مفهومه صلى الله عليه وسلم. فرحمته ليست في اتِّجاهٍ دون غيره، ولم تكن تُعْنَى بقومٍ وتستثني آخرين؛ إنَّما كانت شاملةً بمعنى الكلمة. كانت رحمته صلى الله عليه وسلم تشمل المسلمين وغير المسلمين، والرجال والنساء، والكبار والصغار، ومَن يعرف ومَنْ لا يعرف، والطائعين لله والعاصين له، بل كانت تشمل الحيوان والطير، حتى وصلت إلى شمول النمل والهوام! ثم إنَّها -أيضًا- رحمةٌ ممتدَّةٌ إلى يوم القيامة، ولها مظاهر عدَّة في ذلك اليوم الطويل. لا بدَّ للنبيِّ الذي يتعامل بهذه الصورة أن يكون نبيَّ الرحمة!
4. كان من الواضح -أيضًا- في نهج الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يُرَجِّح جانب الرحمة عند الاختيار بين أمرين، وكان اجتهاده دومًا يتَّجه نحو التيسير. قالت عائشة رضي الله عنها: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلهِ بِهَا»[38]. ووصل الأمر إلى أنَّه إذا خُيِّر بين الإطالة في الصلاة، وهي قرَّة عينه، وبين الرحمة بأمٍّ يبكي طفلها، اختار الرحمة بالأمِّ واختصر صلاته! فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ»[39]! كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم بهذا النهج يستحقُّ بلا جدال اسم «نبيِّ الرحمة».
5. أيضًا إذا نظرنا إلى مواقف عتاب ربِّ العالمين للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في السيرة النبويَّة، لوجدنا أنَّها في معظمها كانت ناتجةً عن «فرط» رحمته صلى الله عليه وسلم لا عن شدَّةٍ أو قسوة، وقد تناولنا هذه النقطة في الفصل السابق فلْيُرْجَع إليها هناك. هذا من جديد يجعل هذا النبيَّ العظيم صلى الله عليه وسلم نبيَّ الرحمة.
6. لكلِّ ما سبق وَصَفَ الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم بالتيسير، والشفقة، والرأفة، والرحمة، فقال: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]، وهذا يدعم بقوَّة أن تكون الرحمة هي الخُلُقُ الأساس الذي يوصف به رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
وجاءت أسماء أخرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى، ويمكن الإشارة إلى بعضها في النقاط التالية:
عاشرًا: نبيُّ الملاحم:
جاء هذا الاسم في روايةٍ صحيحةٍ عن حُذَيْفَةَ بنِ اليمان رضي الله عنه قال: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: إِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَالْحَاشِرُ، وَالْمُقَفِّي، وَنَبِيُّ الْمَلَاحِمِ»[40].
والملاحم هي المعارك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مجاهدًا عظيمًا، وكان يُقَاتِل مَنْ قاتله من المشركين وأهل الكتاب، وكان ذا بأسٍ شديدٍ في قتاله، حتى قال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: «كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ، وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ، اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدْنَى مِنَ القَوْمِ مِنْهُ»[41]، واشترك رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في ثمانٍ وعشرين غزوةً عسكريَّة، وهذا في خلال السنوات العشر التي قضاها في المدينة؛ أي بمعدل ثلاث معارك كلَّ سنة تقريبًا، وهذا معدَّلٌ كبير، هذا غير السرايا التي كان يبثُّها ولا يخرج فيها، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ، وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»[42].
وقد يُسْتَشْكَل على بعضهم كون الرسول صلى الله عليه وسلم نبيَّ الرحمة، ونبيَّ الملاحم، في الوقت ذاته، أو أن يكون مبعوثًا بالرحمة، ومبعوثًا بالسيف، في آنٍ واحد! وقد ناقش البغوي هذه المسألة في شرح السُّنَّة فقال: «.. فَكيف يكون مَبْعُوثًا بِالرَّحْمَةِ، وَقد بعث بِالسَّيْفِ؟ قيل: هُوَ مَبْعُوث بِالرَّحْمَةِ كَمَا ذكر، وكما أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَذَلِكَ أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، وأيَّدهم بالمعجزات، فَمن أنكر من تِلْكَ الْأُمَم الْحق بعد الْحجَّة والمعجزة عذِّبُوا بِالْهَلَاكِ والاستئصال، وَلَكِنَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمر نبيَّه عَلَيْهِ السَّلَام بِالْجِهَادِ مَعَهم بِالسَّيْفِ، ليرتدعوا عَن الْكفْر، وَلم يُجتاحوا بِالسَّيْفِ؛ فَإِنَّ للسيف بَقِيَّة، وَلَيْسَ مَعَ الْعَذَاب الْمنزل بَقِيَّة..»[43]. هذا الكلام يعني أنَّ جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم بالسيف كان في الواقع رحمةً بالأقوام المكذِّبة؛ إذ يُقْتَلُ بعضها، وهو قليل، وينجو معظمها، أمَّا البديل الذي دَرَجَت عليه الأمم السابقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الإهلاك «التامُّ» لهم، وذلك معروفٌ في سير الأمم السالفة. قال تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ﴾ [ق: 36].
حادي عشر: المتوكِّل:
جاء هذا الاسم في التوراة؛ فعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ[44]، قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رضي الله عنهما، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَ: «أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي القُرْآنِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الأحزاب: 45]، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ[45]، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ، وَلاَ سَخَّابٍ[46] فِي الأَسْوَاقِ، وَلاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجَاءَ[47]، بِأَنْ يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا[48]»[49].
والصفات التي وُصِفَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في النصِّ السابق صفاتٌ جليلةٌ وعظيمة، ولكنَّنا معنيُون في هذه النقطة باسم «المتوكِّل» الذي تمَّ التصريح بأنَّه اسمٌ في الرواية.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان متوكِّلًا على الله «حقَّ التوكُّل»، وهو الذي قال -كما روى عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه-: «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا»[50]. وحقُّ التوكُّل هو أن تأخذ بكلِّ أسباب النجاح التي تقدر عليها، مع اعتقاد أنَّ هذه الأسباب لن تؤتي ثمارها إلَّا إذا أراد الله لها النجاح، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، مع كونه مؤمنًا بالله حقَّ الإيمان، ومتوكِّلًا عليه حقَّ التوكُّل، يعمل، ويكتسب، ويتداوى، ويحاور، ويجاهد، ويسأل أهل الخبرة، ويضع الخطط، ويبذل الجهود الكبرى لإنجاح مهامِّه المختلفة في الحياة، ولقد اختصر الرسول صلى الله عليه وسلم رؤيته عن التوكُّل في كلمتين! فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قال: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ»[51].
ثاني عشر: أسماء أخرى:
سُمِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسماء أخرى أقلَّ شهرةً من الأسماء التي ذكرناها، وقد حفلت بها الكتب المتخصِّصة، ونورد منها على سبيل المثال لا الحصر، بعضها، فهو الشَّاهِدُ، والْمُبَشِّرُ، والنَّذِيرُ، والْمُبِينُ، والدَّاعِي إِلَى اللهِ، والسِّرَاجُ الْمُنِير، والْمُذَكِّرُ، وَالرَّحْمَةُ، وَالنِّعْمَةُ، وَالْهَادِي، وَالشَّهِيدُ، وَالْأَمِينُ، وَالْمُزَّمِّلُ، وَالْمُدَّثِّرُ، والْمُخْتَارُ، وَالْمُصْطَفَى، وَالشَّفِيعُ، والْمُشَفَّعُ، وَالصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، وَغير ذَلِك من أسماء شريفة[52].
مختارات