في رحاب قوله تعالى: (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكمْ)
في سورة الأنفال الآية [60] قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ شاعت في أجهزة الإعلام في العالم وعلى ألسنة الخاصّة والعامّة كلمة الإرهاب، وهم يطلقونها على القتل والهدم والتفجير والتخريب والأذى وكل أنواع الشرور والإفساد، ويظنّون أن ذلك ينطبق على معنى آية الأنفال هذه، وهذا وهم خطير، وجهل مركّب وكبير؛ فالبون واسع والفرق شاسع بين: «تُرهبون» و: «تقتلون أو تُجرمون أو تخربون أو تُفسدون». قال تعالى في سورة [ن: 35- 36]: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ35/مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ36﴾.
فالله تعالى يأمر المؤمنين المسلمين في هذه الآية الكريمة آية الأنفال أن يُعدوا ما يستطيعون من قوة مادية ومعنوية، ومن أسلحة قوية ثابتة ومتحركة تُخيف عدوهم؛ فلا يتجرأ على قتالهم أو الهجوم أو الاعتداء عليهم؛ لئلا تجريَ حربٌ أو قتال بين المسلمين وخصومهم.
ولأنَّ الإسلام نصير السلام لا إكراه على الدين فيه. يريد أن يدخلَ الناسُ الجنةَ بخيطٍ من حرير: بإيمان عن قناعة، ويقين عن رضا وطاعة، وعمل صالح فيه إتقان وبراعة، وخلق رفيع في كل دقيقة أو ساعة، لا بالقهر أو القسر أو بسلسلةٍ من حديد.
فقوله تعالى: ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ أي تخيفونهم لوجود قوة لديكم فلا يحاربونكم، ولا يتجرأون على قتالكم لأنهم يَرهبون ويَخشون بأسكم وقوتكم؛ فينتشر السلام بينكم. ولو كنتم ضعافاً لاعتدوا عليكم، فكونوا أقوياء لتمنعوا عنكم كل اعتداء.
فمبادئ الإسلام حق وعدل وشورى ومساواة، وشرعه قويم يقوم على صراط مستقيم يقبله كل ذي عقل سليم وخلق قويم. يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والقدوة الصالحة والأسوة الحسنة، وكل ما فيه كالعافية للبدن، والشمس للنهار، والبدر والنجوم لليل، والسمو للنفس، والنشاط والقوة للروح.
وليس يَصحُّ في الأذهان شيءٌإذا احتاج النهارُ إلى دليلِ
والجهاد –وهو بذل الجهد لإحقاق الحق وإبطال الباطل- شُرِعَ لقتال من يعتدي ويبدأ بالقتال؛ لرد عدوانه، وحماية الحق كي يُصان ولا يُهان، وإعلاء كلمة الله وحماية المقدسات والأوطان. قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ190﴾ [البقرة: 190].
وفي الجهاد حمايةٌ للمؤمن المسلم من أن يُفتَنَ في دينه، أو يُساء إلى عرضه أو نفسه أو ماله، أو تُنتهك حرماتُه. قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ﴾ [البقرة: 193] وما أعظمَ وأكرمَ وأشرفَ موقفَ المعتصمِ حين قال: «لبيك لبيك» وقد نُقِلَ إليه أن امرأة مسلمة صرخت في بلاد الروم: «وامعتصماه» تستغيث به –وقد حاول روميٌّ أن يسيءَ إليها، ويعتدي عليها –وزحف بجيش عرَمْرمٍ لإنقاذها، فصانها، وأدَّبَ وعاقب من أهانها، ولله در أبي تمام القائل له في ذلك في قصيدته العصماء:
السيفُ أصدقُ إنباءً من الكتبفي حدّه الحدُّ بين الجدّ واللعب
حيث يقول فيها:
ما بين أيّامك اللاتي نُصِرتَ بهاوبين أيّامِ بدرٍ أقربُ النسَبِ
ولله درّ الشاعر عمر أبي ريشة حيث قال:
رُبَّ «وامعتصماهُ» انطلقتْمِلءَ أفواهِ البناتِ اليُتَّمِ
جاوزتْ أسماعَنا لكنّها لم تُلامِسْ نخْوةَ المعتصمِ
فيجوز الجهاد إذا هاجَمَنا عدوُّنا، أو بدأ بقتالنا معتدياً كعادته، أو خطَّط لغزونا وعلمْنا ذلك، أو توقَّعنا منه غدراً أو خيانةً ونقضاً للعهود والمواثيق، وحينئذٍ نبدأ قبل أن يبدأ.
بعد أن نطرَحَ إليه العهدَ الذي غدر به ونَقضَه، ونعلمه أننا اكتشفنا خيانتَه ومكره وغدره. قال تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ 58﴾ [الأنفال: 58]؛ لأن الهجوم عندئذٍ هو خير وسيلةٍ للدفاع. والملحوظ في آية الأنفال [60] تقديم عدو الله على عدو المجاهد في سبيل الله حيث قال تعالى: ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ مع أن عدوَّ المؤمنين المسلمين هو عدوٌّ لله، ولكنَّ هذا التقديم يُراد منه أن يكون جهاد المسلم المؤمن المادي والمعنوي، وعمله كله لوجه الله والإخلاص له، وإرضائه بفعل ما فرض وأمر والانتهاء عما نهى عنه وزجر. لا سعياً وراءَ سمعةٍ أو شهرة أو مصلحة ذاتيّة، أو كسبٍ دنيويٍّ خبيث. فتدبّر.
* المصدر:
- الجديد في فقه لغة القرآن الكريم: الشيخ هشام الحمصي.
مختارات