سورة الشعراء " توصيل الرسالة بأفضل الوسائل الممكنة"
سورة الشعراء (مكية)، نزلت بعد الواقعة، وهي في ترتيب المصحف بعد سورة الفرقان وعدد آياتها مئتان وسبع وعشرون آية.
بلّغوا عني ولو آية
وتدور سورة الشعراء حول أهمية توصيل الرسالة إلى الناس بأحسن الوسائل المؤثرة. ففي عهد سيدنا موسى كانت هذه الوسيلة هي السحر، وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت الشعر والشعراء (ومن هنا اسم السورة).
نزلت هذه السورة في أكثر وقت كان المسلمون فيه بحاجة إلى تعلّم فن الإعلام وتوصيل الأفكار: مع بداية مرحلة الدعوة الجهرية، وخاصة بعد وقوف النبي على جبل الصفا وإعلان الإسلام لأول مرة في مكة كدعوة علنية... وبذلك تكون رسالة السورة واضحة في بيان أهمية الإعلام وحسن توصيل الأفكار في نشر الدعوة.
خطورة الكلمة المسموعة
والإعلام سلاح ذو حدين، فهو إما أن يستخدم في تضليل الناس وإما أن يستخدم في هدايتهم، ولذلك ختمت السورة بقوله تعالى:
" وَٱلشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ & أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ & وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ & إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَذَكَرُواْ ٱلله كَثِيراً وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ " (224 - 227).
فالشعراء في عصر النبي صلى الله عليه وسلم - أو الإعلاميون بلغة العصر - قد يكونون سبباً لإغواء الناس وصدّهم عن سبيل الله، وقد يكونون منابر للهدى وإيصال كلمة الحق إلى الناس. ولذلك لا بد للدعاة إلى الله أن يمتلكوا هذه الأداة المهمة في توصيل الأفكار (والتي تتغير بحسب مقتضيات العصر) ويستخدموها لنشر الإسلام بأفضل الطرق.
مفاتيح القلوب
وكما رأينا في كل سور القرآن، فإن قصص الأنبياء الواردة في السورة تخدم هدف السورة. فحين تحدثت السورة عن سيدنا موسى عليه السلام، بينت كيف كان يخشى ألا يؤثر في الناس بصورة جيدة فقال " وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَـٰرُونَ " (13). وكل قصص الأنبياء التي جاءت في السورة كانت تركّز على حوار النبي مع قومه.
وهذا ما نجده في قصص موسى وإبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام، حيث نرى التركيز على " قال وقالوا "... آيات رائعة في أسلوب الحوار لتهيء النبي عليه الصلاة والسلام لبداية مرحلة الدعوة الجهرية، التي أعلنت عنها الآية 214 بوضوح: " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ ".
من روائع الحوارات الإعلامية
وعلى سبيل المثال، نرى في حوار سيدنا موسى مع فرعون أساليب رائعة للحوار.
" فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ & أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرٰءيلَ & قَالَ أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ & وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ " (16-19) تهمة صعبة يوجهها فرعون إلى موسى، فماذا يكون جواب الدعاة إلى الله في مثل هذه الظروف؟ " قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالّينَ & فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِى رَبّى حُكْماً وَجَعَلَنِى مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ " (20-21).
فأغلق باب التهمة بما حصل في الماضي، ثم انتقل من الدفاع إلى الهجوم في قوله: " وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْرٰءيلَ " (22).
وينتهي تبادل الاتهامات ليبدأ الحوار الدعوي. اسمع معي الآيات:
" قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ & قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ " (23-24).
" قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ & قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ " (25-26).
" قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ & قَالَ رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ " (27-28).
فنرى أن سيدنا موسى استرسل في الجواب على سؤال " وَمَا رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ " (23) للتأثير على المستمعين دون أن يبالي بالتفاهات التي صدرت من فرعون بعد السؤال الأول.
الإعلام في قصة موسى
وفي نفس القصة، نرى حرص سيدنا موسى على التأثير على الناس بأفضل طريقة ممكنة، فيقول لفرعون:
" قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ " (30).
فماذا كانت هذه الوسيلة؟ إنها السحر، الذي كان أفضل وسيلة للتأثير في الناس في عهد سيدنا موسى كما قلنا (تماماً كدور الشعراء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو كدور الإعلاميين في عصرنا).
ونرى تركيز الباطل أيضاً (فرعون وجنوده) على إعلام الرأي العام في قوله تعالى " قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَٱبْعَثْ فِى ٱلْمَدَائِنِ حَـٰشِرِينَ " (36)
فهم يريدون لهذه المواجهة أن تكون علنية " وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ " (39).
سيدنا إبراهيم والحوار الدعوي
وفي قصة سيدنا إبراهيم، نرى أسلوباً آخر في الحوار تعلمنا إياه السورة. فهو بدأ بالحوار العقلاني في مواجهتهم في قوله.
" قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ & أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ " (72-73). فلما كان ردهم ضعيفاً قال: " قَالَ أَفَرَءيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ & أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ ٱلأَقْدَمُونَ & فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ " (75-77)
وعندما يذكر سيدنا إبراهيم ربه جل وعلا، يستفيض في ذكر صفات الله تعالى، " ٱلَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ & وَٱلَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ & وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ & وَٱلَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ & وَٱلَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ ٱلدِينِ " (78-82).
بيان القرآن
ولأن القرآن هو محور دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فإننا نرى الآيات التي تحدثت عن القرآن في السورة تركز على بيان القرآن وأهميته في التأثير في الناس. فمن البداية نرى قوله تعالى " تِلْكَ ءايَـٰتُ ٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ " (2).
وفي أواخر السورة، وبعد قصص الأنبياء، يأتي قوله تعالى: " بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ " (195).
ولا بد للغة الخطاب والتأثير أن تكون ملائمة للجو الذي يعيش فيه الناس، مهما كانت قيمتها، لذلك نرى في السورة قوله تعالى: " وَلَوْ نَزَّلْنَـٰهُ عَلَىٰ بَعْضِ ٱلأَعْجَمِينَ & فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ " (198-199).
فآيات السورة واضحة أشد الوضوح في إرشاد المسلمين والدعاة إلى الله، في كل زمان ومكان، إلى استخدام أفضل الأساليب وأوضحها في الدعوة.
الإعلام الرباني
فعندما تقرأ أخي المسلم سورة الشعراء، تذكر دائماً أن الإعلام ينبغي أن يكون من وسائل الدعوة إلى الله، لا أن يستخدم في الترويج للمعاصي والفتن والفواحش. هذه هي رسالة السورة للإعلاميين. وأما الرسالة الثانية، فهي للأمة كلها، وخاصة الدعاة إلى الله، ليتعلموا البحث عن أفضل الطرق التي يؤثرون بها في الناس، مقتدين في ذلك بالحوار الراقي لأنبياء الله مع أقوامهم خلال السورة.
وسميت السورة باسم الشعراء، لكي نستخدم أفضل وسائل نشر الدعوة، ولئلا نستخدم الوسائل ذات الحدين في معصية الله بل نستخدمها في طاعته ومن ذلك الإعلام... وليكون قدوتنا في ذلك الأنبياء سيدنا إبراهيم وموسى عليهما السلام. وسيدنا محمد صلى الله عليه في طريقة حوارهم الراقية المؤثرة في هداية الناس..
مختارات