زواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصفية
في العام السابع للهجرة، وفي غزوة خيبر، فتح المسلمون حصن بني أبي الحقيق، وكانت صفية ـ رضي الله عنها ـ قبل إسلامها في سبي اليهود، بعد أن قتل زوجها كِنَانة بن أبي الحقيق.
وجاء دحية بن خليفة الكلبي ـ رضي الله عنه ـ فقال: يا نبي الله، أعطني جارية من السبي، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا نبي الله، أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة بني النضير وقريظة، لا تصلح إلا لك.
استحسن النبي - صلى الله عليه وسلم – ما أشار به الرجل، وقال لدحية: خذ جارية من السبي غيرها، ثم أخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ وعرض عليها الإسلام فأسلمت، فأعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، حتى إذا كان بسد الصهباء راجعا إلى المدينة طهرت من حيضتها، فجهزتها له أم سليم، فأهدتها له من الليل، فأصبح عروساً بها، وأولم عليها، ودعا المسلمين، فأصبحت صفية ـ رضي الله عنها ـ إحدى أمهات المؤمنين..
وقد ذكر البيهقي في دلائل النبوة: " أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى بعين صفية ـ رضي الله عنها ـ خضرة، فقال: ما هذا؟، قالت: يا رسول الله، رأيت قبل قدومك علينا كأن القمر زال من مكانه، وسقط في حجري، ولا والله ما أذكر من شأنك شيئا، فقصصتها على زوجي، فلطم وجهي، فقال: تمنين ملك يثرب ـ أي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ".
وهكذا صدق الله رؤيا صفية ـ رضي الله عنها ـ، وأكرمها بالزواج من رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وجعلها أماً للمؤمنين، وزوجاً في الجنة لخاتم الأنبياء والمرسلين.
ذاقت صفية ـ رضي الله عنها ـ حلاوة الإيمان، وأدركت الفرق العظيم بين الجاهلية اليهودية ونور الإسلام، وتأثّرت بأخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأصبح - صلى الله عليه وسلم - أحب إليها من نفسها وأبيها والناس أجمعين، تفديه بكل ما تملك حتى نفسها، وإذا ألمَّ به مرض، تمنت أن يكون المرض فيها، وأن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سليماً مُعافَى.
روى ابن حجر في الإصابة وابن سعد في الطبقات: عن زيد بن أسلم - رضي الله عنه ـ قال: " اجتمع نساؤه - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي توفى فيه، فقالت صفية ـ رضي الله عنها ـ: إني والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك بي، فغمز بها أزواجه، فأبصرهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ فقال: ( مضمضن، فقلن: من أي شيء؟، فقال: من تغامزكن بها، والله إنها لصادقة ).
وتحدثنا أم المؤمنين صفية ـ رضي الله عنها ـ عن خُلق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتقول ـ كما روى الطبراني: " ما رأيت أحدًا قط أحسن خلقا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لقد رأيته ركب بي في خيبر، وأنا على عجر ناقته ليلاً، فجعلت أنعس، فتضرب رأسي مؤخرة الرحل، فيمسني بيده، ويقول: ( يا هذه مهلاً ) ".
وسجلت أم المؤمنين صفية ـ رضي الله عنها ـ شهادة على عِلم اليهود بنبوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصِدْقه، فقد روى ابن إسحاق: أن أم المؤمنين صفية ـ رضي الله عنها ـ قالت: " كنت أحَبَّ ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه. قالت: فلما قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي حيى بن أخطب، وعمى أبو ياسر بن أخطب مُغَلِّسِين، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كَالَّيْن كسلانين ساقطين يمشيان الهُوَيْنَى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلىَّ واحد منهما، مع ما بهما من الغم. قالت: وسمعت عمى أبا ياسر، وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟، قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟، قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟، قال: عداوته والله ما بقيت ".
لقد قامت الحجج القاطعة والبراهين الساطعة لليهود على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن ذلك لم يزدهم إلا عناداً وعداوة واستكباراً، وحقداً وحسداً عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال الله تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (البقرة:146)، وقال: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } (المائدة: من الآية82).
كان في زواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بصفية ـ رضي الله عنها ـ حكمة عظيمة، فهو لم يُرِد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بزواجه منها قضاء شهوة، أو إشباع غريزة، كما يزعم المنافقون والكذابون، وإنما أراد إعزازها وتكريمها، وصيانتها من أن تتزوج رجلا ربما لا يعرف لها شرفها ونسبها في قومها، إضافة إلى ما في زواجه منها ـ صلى الله عليه وسلم ـ من العزاء لها، فقد قُتِل أبوها وزوجها وكثير من قومها، كما أن فيه رباط المصاهرة بينه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين اليهود، عسى أن يخفف هذا الزواج من عدائهم للإسلام، والانضواء تحت لوائه، ويمهد لقبولهم دعوة الحق التي جاء بها ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وكانت وفاتها في رمضان سنة خمسين للهجرة في زمن معاوية ـ رضي الله عنه ـ، وقيل سنة اثنتين وخمسين، وقد دفنت بالبقيع، فرضي الله عنها وعن سائر أمهات المؤمنين..
مختارات