الصفة السادسة عشرة من صفات المتقين الإحسان
وقد ذكر الله -تعالى- هذه الصفة في أوصاف المتقين الذين وعده بالمغفرة لذنوبهم، وأعدّ لهم الجنة جزاء لهم على أعمالهم الطيبة، وأمر عباده بالمسارعة إلى المغفرة والجنة، وذلك بالمسارعة إلى أسباب ذلك، وهي الأعمال الصالحة، فقال -تعالى-: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ.
فوصف الله -تعالى- المتقين بالإحسان في قوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ والإحسان أعلى مقامات الطاعة، وهو يشمل الإحسان في الأقوال وفي الأعمال، وفي الاعتقاد، كما قال -تعالى-: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أي: أحسنوا في الإنفاق في الطاعة، روى ذلك عن بعض الصحابة
وفي الأقوال: يقول الله -تعالى-: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا أي: كلموهم طيبًا، ولينوا لهم جانبًا، ويدخل في ذلك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الحسن البصري في هذه الآية: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا.
" فالحسن من القول: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحلم ويصفح، ويقول للناس حسنًا كما قال الله، وهو كل خلق حسن رضيه الله " ا.هـ.
ويدخل في ذلك: الأمر بالتوحيد، كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: المعنى: قولوا لهم: لا إله إلا الله، ومروهم بها.
وقال ابن جريج قولوا للناس صدقًا في أمر محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولا تغيروا نعته، وقال أبو العالية قولوا لهم الطيب من القول، وجازوهم بأحسن ما يحبون أن تجازوا به، والآية أعم من ذلك كله.
وبالجملة فالإحسان يشمل الأقوال والأعمال والاعتقادات؛ إذ الإحسان مصدر أحسن العمل يحسنه إحسانا إذا جاء به حسنا، والإحسان هو الذي خلق الله الخلائق من أجل الاختبار فيه، أيحسنوا العمل أم لا، كما قال الله -تعالى- في أول سورة هود وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.
فبين أن الحكمة في الخلق ابتلاؤه الخلق أيهم أحسن عملًا، ولم يقل أيهم أكثر عملًا، وقال في أول سورة الكهف: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا ثم بين الحكمة فقال: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وقال في أول سورة الملك الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ثم بين الحكمة فقال: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.
والإحسان الذي خلقنا من أجل الابتلاء فيه هو الذي أراد جبريل أن ينبه المسلمين إلى الطريق التي يصح فيها الإحسان، حينما جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان، فبين له النبي -صلى الله عليه وسلم- أن إحسان العمل لا يكون إلا بالواعظ الأكبر والزاجر الأعظم، وهو مراقبة الله، وعلم العبد أنه كأنه ينظر إلى الله -تعالى-، وأنه إن كان لم ير الله فالله -عز وجل- يراه.
فعلى العبد أن يستشعر بأنه بين يدي خالق السماوات والأرض، وأنه يراه، وأنه ليس بغائب عنه، فإذا لاحظ العبد ذلك ملاحظة صحيحة أحسن العمل.
ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في جوابه: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك وقال -تعالى-: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ وقال -تعالى-: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ.
وقد وصف الله المؤمنين بالإحسان في القول والعمل، وأثنى عليهم، ووعدهم على ذلك الأجر العظيم، وأمنهم من الخوف والحزن، فقال -تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ.
فهم أحسنوا القول فقالوا: ربنا الله، وشهدوا أن لا إله إلا الله، وقد أخرج مسلم في صحيحه والنسائي من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن سفيان بن عبد الله الثقفي -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولًا، لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال صل الله عليه وسلم: قل آمنت بالله، ثم استقم الحديث.
فهؤلاء المحسنون المستقيمون تتنزل عليهم الملائكة عند الموت قائلين: لا تخافوا مما تقدمون عليه من أمر الآخرة، ولا تحزنوا على ما خلفتم من أمر الدنيا من ولد وأهل ومال، فإنا نخلفكم فيه، ثم يبشرون قائلين: وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ.
وقد أثنى الله -تعالى- على الدعاة المهتدين، وأخبر أنه لا أحد أحسن قولًا منه، فقال -تعالى-: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي: لا أحد أحسن قولًا ممن دعا إلى عبادة الله وطاعته، وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي: وهو في نفسه مهتد مما يقوله، فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومتعد، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، وينهون عن المنكر ويأتونه، بل يأتمر بالخير ويترك الشر، ويدعو الخلق إلى الخالق، وهذا عام في كل من دعا إلى خير وهو في نفسه مهتد، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولى الناس بذلك.
قال الحسن -رحمه الله- في هذه الآية: هو المؤمن الذي أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه، وعمل صالحًا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين ويدخل في هذه الآية المؤذنون الصلحاء، كما ثبت في صحيح مسلم -رحمه الله-: المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة.
وروى أصحاب السنن الأربعة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، فأرشد الله الأئمة وغفر للمؤذنين.
والصحيح أن هذه الآية عامة في المؤذنين وفي غيرهم، كما قال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن البصري -رحمه الله- أنه تلا هذه الآية: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فقال: " هذا حبيب الله، هذا وليّ الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، دعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين هذا خليفة الله " .
ومن الإحسان في القول والعمل: أن تدفع من أساء إليك بالإحسان إليه، بأن تصبر عند الغضب، وتحلم عند الجهل، وتعفو عند الإساءة، فإذا فعلت ذلك خضع لك عدوّك، وصار كالصديق القريب من الشفقة إليك والإحسان إليك، ولكن ما يلقي هذه الخصلة، وهي دفع السيئة بالحسنة، ويقبل هذه الوصية، ويعمل بها إلا من صبر على كظم الغيظ، واحتمال المكروه، وذلك يشق على النفوس، وما يلقى هذه الخصلة ويصبر عليها ويقبلها إلا ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة، وذو حظ عظيم في الخير والثواب، ووجبت له الجنة، قال الله -تعالى- في ذلك: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.
وقال -تعالى- في سورة الأعراف: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وقال -تعالى- في وصف أولي الألباب السعداء، الذين لهم عقبى الدار، وهي جنات عدن يدخلونها قال: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي: يدفعون القبيح بالحسن، فإذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبرًا واحتمالًا وعفوًا، وقال -تعالى- في سورة " المؤمنون " : ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ.
وقد وعد الله -تعالى- من أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح، الحسنى في الدار الآخرة وهي الجنة، ووعدهم على ذلك أيضا: زيادة، وهي تشمل تضعيف ثواب الأعمال الحسنة بعشر أمثالها، وتشمل ما يعطيهم الله في الجنان من القصور والحور والرضا عنهم، وما أخفاه لهم من قرة أعين، وأعلاه النظر إلى وجه الله الكريم، فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه، لا يستحقونها بعملهم، بل بفضله ورحمته، قال -تعالى- في بيان هذا الوعد الكريم للمحسنين: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وقال -تعالى- في الآية الأخرى: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ وقد روى تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم، عن جماعة من السلف والخلف من الصحابة ومن بعدهم.
وجاء في تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم أحاديث كثيرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- منها حديث صهيب -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلا هذه الآية: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وقال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدًا، يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبيض وجوهنا؟، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئًا أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم
رواه الإمام مسلم وجماعة من الأئمة، من حديث حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب -رضي الله عنه-.
كما أخبر الله -تعالى- أن هؤلاء المحسنين لا يغشى وجوههم غبار وقتام وسواد في عرصات المحشر، كما يعتري وجوه الكفرة والفجرة من القترة والغبرة، ولا يحصل لهم هوان ولا صغار، فلا يحصل لهم إهانة في الباطن ولا في الظاهر، فقال -تعالى-: وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ بل هم كما قال -تعالى- في الآية الأخرى: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا أي: نضرة في وجوههم وسرورًا في قلوبهم، وهؤلاء هم أهل الجنة المقيمون فيها أبد الآباد، لا يرحلون عنها ولا يظعنون، ولهذا قال فيهم: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ جعلنا الله منهم بمنه وفضله ورحمته، إنه جواد كريم رءوف رحيم.
مختارات