الأصل الأول : عليك البداية وعليه التمام
الأصل الأول: عليك البداية وعليه التمام
اعلم حبيبى فى الله الكريم السائر الى الله:
أن الله – تعالى – أراد برحمته – سبحانه – وهو الحكيم العليم والخبير البصير أن يحكم هذا الكون بسنن ربانية غاية فى الدقة والثبات " فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا " (فاطر: 43).. تلكم الاولى..
وأما الثانية: فان الانسان خلق مبتلى فى هذه الدنيا " الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور " (الملك: 2).
وثالثهما: أن الله العزيز الكريم خلق الخلق وهو اعلم بهم، قال سبحانه " هو أعلم بكم اذ أنشأكم من الارض وإذ أنتم أجنة فى بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى " (النجم: 32)
وقال سبحانه " وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا " (الاسراء: 17).
وقد أراد الله ابتلاء واصلاحا، أن يبتلى عباده بتكليف هو غاية فى الخطورة وهو أنه – سبحانه – أناط بهم البداية، فأحال عليهم بداية الشروع اليه والقصد نحوه، قال - سبحانه – فى الحديث القدسى: " عبدى قم الىّ أمش اليك "، وهذا رعاية لجلال العزة وحماية لجناب العظمة: أن يكلف العبد أن يأتى سيده ثم يكون من السيد القبول والاكرام.
قال – سبحانه –وتعالى – " وقال ربكم ادعونى أستجب لكم " (غافر: 60)، وقال – سبحانه وتعالى – " واذا سألك عبادى عنى فانى قريب أجيب دعوة الداع اذا دعان " (البقرة: 186)
وقال - تعالى – فى الحديث القدسى " يا ابن آدم قم الىّ أمش اليك، وامش الىّ أهرول اليك " [صححه الألبانى]
وقال - سبحانه – أيضا " من تقرب منى شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب منى ذراعا تقربت منه باعا ومن أتانى يمشى أتيته هرولة " [متفق عليه]. اذا فابدأ.. ابدأ فبداية الطريق خطوة، ابدأ خطوة الى الله والله يبارك ويتم، فهو - سبحانه – كريم.. ابدأ ولا تشتك.
ان كثيرا منا يشكو الفتور وينام.. اذا أصبت بالفتور فعليك بالتفكير فورا فى عمل تقوم به.. اعمل والله يرفع عنك البلاء.. ابدأ والله يأخذ بيدك.. اعمل.. تحرك.
ان كثبرا من الاخوة ينتظر نصر الله بمعجزة، ينتظر اصلاح فساد قلبه بمعجزة فى لحظة دون أن يصنع شيئا.. وهذا لا يكون.
أخى ان القضية تحتاج الى عمل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بل اعملوا فكل ميسر لما خلق له " [متفق عليه].. اعملوا.. لابد من عمل.
ان بعض الناس يعيش هذه الدنيا على أنها " ضربة حظ " يعيش الحياة على انها " ظروف " فيعيش كيفما اتفق، تماما كالذى يدخل الى الصلاة ولا يدرى ماذا صلى، لانه فى الاصل لا يعبأ بالخشوع، يترك نفسه هكذا، فالمهم عنده أنه أدى الصلاة فقط.. المهم عنده أن يعيش، والامر ليس كذلك.
وتأمل معى قصة عكاشة بن محصن فى حديث السبعين ألفا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عرضت علىّ الامم، فرأيت النبى ومعه الرهط، والنبى ومعه الرجل والرجلان، والنبى وليس معه أحد، اذ رفع لى سواد عظيم فظننت أنهم أمتى، فقيل لى: هذا موسى وقومه، فنظرت فاذا سواد عظيم، فقيل لى: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب " ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس فى اولئك فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا فى الاسلام فلم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ".. فقام عكاشة فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلنى منهم قال: " أنت منهم " قال: ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلنى منهم، فقال: " سبقك بها عكاشة ". [متفق عليه]
قد يبدو للناظر أن عكاشة خطف " الجنة " بغير حساب أو أدركها بكلمة بضربة حظ، ولكنك – أخى – تنظر الى التشطيبات النهائية ولا ترى ما وراء ذلك، انك تنظر الى اللقطة الاخيرة ولم تر أصل الموضوع وتقدير الارزاق.
ان عكاشة سار الى الله طويلا وعمل كثيرا حتى بلغ هذه المنزلة. فلما بلغها أوحى الله الى رسوله صلى الله عليه وسلم بقبول عكاشة فى ركب السبعين المفردين، وأجرى على لسانه صلى الله عليه وسلم الذى لا ينطق عن الهوى هذا الكلام، ثم أنطق عكاشة بالطلب فى لحظتها وهذا دليل ترقيه لها فأعطيها.. هذه حقيقة الامر.. فليس عكاشة قد خطفها فى لحظة.. لا.. الله علم حكيم..
عليم يعلم ان عكاشة تعب فى السير اليه، فكان الأولى بها أحق بها وأهلها، ولما فتح الباب وقلده آخرون منعوا، ولا يظلم ربك أحدا " ان الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون "
(يونس: 44)، ان عكاشة بدأ السير الى الله فى هذه الطريق، فلما وصل تلك المنزلة وأراد الله أن يمنحه اياها، أجرى الله هذا الكلام على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحضره فى المكان فأسمعه ثم أنطقه فبشره.. هذه هى القضية.. فليست خطفة فى لحظة.. افهم ذلك جيدا.
موقف آخر يفسر لك الموضوع:
أمسك جعفر الصادق بغلام ليعاقبه، فقال الغلام: يا سيدى أتعاقب من ليس له شفيع عندك غيرك؟
فقال: انطلق اذا، فلما انطلق الغلام التفت اليه وقال: يا سيدى اعلم انك لست الذى أطلقتنى، انما أطلقنى الذى أجراها على لسانى، فقال: اذهب فأنت حر لوجه الله.
وقفت – أيها الاخوة – مع هذا الموقف مليا أقول: سبحان الله ! هذا كلام عبد لعبد، فأعتق العبد عبده، فكيف اذا جرى هذا الكلام مع السيد الكريم الله؟!.. اللهم أعتق رقابنا من النار.. آمين.
نعم: لو جرى هذا الكلام على لسانك لربك لتحررت من العبودية لغيره، ولكن من الذى يجريه على لسانك، وماذا قدمت لكى يجريه؟ ! لابد أن تبدأ أنت أولا.. ان الله اذا أراد عبده لأمر هيأه له وأجراه على لسانه فهو – سبحانه – الذى ينطق لسانه، قال – تعالى - " أنطقنا الله الذى أنطق كل شىء " (فصلت: 21).. أنطق كل شىء.. سبحانه وتعالى.
ولذلك قال الله – تعالى " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه انه هو التواب الرحيم " (البقرة: 37)، فالله – تعالى – هو الذى أجرى على لسان آدم كلمات التوبة منّ بقبولها، فكان الفضل منه اولا وآخرا. نعم: وفقه للتوبة فتاب، وقبل توبته، لانه – تعالى – تواب رحيم.
أيها الاخوة، ان هذه القضية تحتاج الى وقفة كبيرة، فالايمان لا ياتى طفرة وانما له مقدمات وتمهيدات تحتاج منك الى استعانة بالله وعمل، اللهم ثبت على الايمان قلوبنا، وارزقنا فهما فى الدين يرضيك عنا.. آميــــن.
ان الذى ينظر فى قصة السحرة، سحرة فرعون مع موسى، هؤلاء الذين آمنوا فى لحظة وتعرضوا لاقصى انواع التهديد: لأقطعن ولأصلبن ولأفعلن ولأفعلن، فثبتوا وقالوا " فاقض ما أنت قاض " (طه: 72) – ان الناظر الى هؤلاء يظن انهم حصلوا على الايمان فى لحظة، لم ينظر لقدر الله كيف عمل فى هؤلاء السحرة سنين ليعدهم لتلك اللحظة.لم اختير هؤلاء السحرة بالذات؟ ولم وجدوا فى هذا المكان بالذات؟! والجواب: لأنهم سعوا.. نعم – أخىّ -: ان القضية تحتاج منك الى سعى.
وفى قصة الثلاثة أصحاب الغار، لما نزلت صخرة فسدّت عليهم باب الغار، توسل الأول بعمل صالح فانفرجت الصخرة شيئا يسيرا حتى رأوا النور، فلما توسل الثانى انفرجت أكثر حتى رأوا السماء، فلما توسل الثالث انفرجت الصخرة حتى خرجوا يمشون، فعلى قدر عطائك تعطى، وعلى قدر سعيك تمنح.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس فى حلقة من أصحابه فدخل ثلاثة، فأما الاول: فوجد فرجة فجلس فيها، وأما الثانى: فاستحيى فجلس خلف الحلقة، وأعرض الثالث فمشى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو أخبركم بخبر الثلاثة نفر، أما الأول: فأوى الى الله فآواه الله وأما الثانى: فاستحيى فاستحيى الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه ". [متفق عليه]
فان أويت الى الله آواك، وان أعرضت عنه أعرض عنك وطردك وألقاك. قال الله – جل جلاله – عن يونس عليه السلام " فلولا أنه كان من المسبحين * للبث فى بطنه الى يوم يبعثون "
(الصافات: 143- 144).. مع أنه نبى.. نعم: فلا أحد عزيز على الله – مهما بلغت منزلته – ان لم يئو الله.. فائو الى الله ولا تعرض.
قال ابن القيم رحمه الله: " وأيما جهة أعرض الله عنها أظلمت أرجاؤها ودارت بها النحوس ".
ائو الى الله وابدأ.. ابدأ خطوة.. اعمل.. اتعب.. تحرك.. اسع وسوف يتم عليك بخير.
ودائما معلوم أن نقطة البداية هى الاشق، وانطلاقة البداية هى الأصعب، وهذا هو عين الابتلاء من الله – سبحانه وتعالى – " فاذا عزم الامر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم " (محمد: 21) فسعادته فى صدق العزيمة وصدق الفعل فصدق العزيمة جمعها وجزمها وعدم التردد فيها بل تكون عزيمة لا يشوبها تردد ولا تلوّم.
فاذا صدقت عزيمته بقى عليه صدق الفعل، وهو استفراغ الوسع وبذل الجهد فيه، وأن لا يتخلف عنه بشىء من ظاهره وباطنه، فعزيمة القصد تمنعه من ضعف الارادة والهمة، وصدق الفعل يمنعه من الكسل والفتور. ومن صدق الله فى جميع أموره صنع الله له فوق ما يصنع لغيره. وهذا الصدق معنى يلتئم من صحة الاخلاص وصدق التوكل، فأصدق الناس من صح اخلاصه وتوكله ".
فأخى الحبيب، انت مبتلى بأن تبدأ، وممتحن بأن تصدق، فإذا بدأت كما يحب أتم لك كما تحب..
والانقطاع سببه البداية الضعيفة. فان السائر ان فتر عزمه استمر سيره بقوة الدفع الأولى. فأين بدايتك أيها الحبيب؟ أعطنى الدفعة الأولى واترك الأقساط على الله.
* * *
مختارات