يا مصرُ.. غزة تجري في عروقك!
يدرك أهل غزة أن الانقسام الفلسطيني قد حقق مكسبا سياسياً آنياً للدولة العبرية، ولكن سيطرة حماس على غزة تشكل خطراً استراتيجياً على بقائها، ويدرك الفلسطينيون أن تعزيز المكسب السياسي هذا للدولة العبرية يقضي بالتخلص من أكثر مليون ونصف فلسطيني في غزة على وجه السرعة، وتعليق همهم في رقبة مصر، كخطوة أولى على طريق التخلص من همّ سكان الضفة الغربية عن طريق الأردن، وتفكيك التهديد الاستراتيجي الذي تمثله " حماس " للدولة العبرية بأيد عربية، ولاسيما مصرية، ويدرك أهل غزة أن مصلحة جمهورية مصر العربية تقضي بالتصدي للمخطط الإسرائيلي المكشوف، وتسعى لإفشاله، ولن تسمح ل " إسرائيل " بتحقيق مصالحها على حساب مصر، ولن تكون شريكة في أي صراع داخلي فلسطيني، وبالتالي فإن تواصل إغلاق الحدود المصرية مع قطاع غزة يأتي ضمن الحقوق السيادية، والرؤية السياسية المصرية لآلية الحل الشامل للقضية الفلسطينية. يدرك أهل غزة الحقيقة، ولكنهم يقعون بين مطرقة الحلم بفلسطين الذي تمثله لهم حماس، وسندان الواقع السياسي، والحياتي الذي تتحكم فيه الدولة العبرية بحكم تفوقها، فراحوا يفتشون عن مخرج يحفظ لهم الحلم، والأمنية بفلسطين، ويضمن لهم البقاء، والعيش فوق ترابهم ضمن هذا الواقع الظالم، فلم يجدوا غير مصر العربية الحبيبة على قلوبهم لتمد لهم اليد، مصر التي امتزجت دماء أبنائها مع دماء أهل غزة كل سنوات الصراع مع الدولة العبرية، مصر التي تحملت مسؤولية غزة منذ النكبة سنة 1948، وحتى الاحتلال الإسرائيلي لها سنة 1967، مصر التي حاربت عسكرياً كل السنوات دفاعاً عن الأمة بشكل عام، وعن فلسطين بشكل خاص، مصر التي فتحت جامعاتها مجاناً للفلسطينيين منذ الثورة وحتى زمن قريب، مصر التي ظلت الرئة التي يتنفس منها أهل غزة هواء التواصل مع العالم الخارجي في عز قيظ الاحتلال، مصر الروابط الأسرية، والعائلية، والجذور التاريخية، وتكفي الإشارة هنا إلى أن جزءاً كبيراً من سكان قطاع غزة تعود أصولهم إلى مصر، ويوجد في كل قرية من قرى فلسطين المغتصبة 1948، تجمع سكني ينتمي للعائلات الفلسطينية، ويحمل اسمها، من أصول مصرية، وفي الجغرافيا السياسية حرص القادة المصريون عبر التاريخ على اعتبار أن حدود الشام تبدأ بعد غزة، التي حرص " بيبرس " والمماليك، وحتى الزمن العثماني الأول على تصنيفها حدوداً مصرية.
إن عميق الرابط الديني، والتاريخي، واللغوي، والاجتماعي، والحياتي، والنفعي بين المصريين والفلسطينيين قد فرض على أهل غزة التيمم صوب مصر للخلاص من الحصار الإسرائيلي الذي أكل اللحم، ويذيب الشحم، وهم يدركون الأبعاد السياسية لهذا التواصل، فأهل غزة حريصون على عدم تذويب قضيتهم السياسية، وعدم الانفصال عن بقية فلسطين، وفي نفس الوقت مضطرون للبقاء على قيد الحياة وكسر الحصار، فكانت مصر الأمل لهم، والشعب المصري هو الأقرب لمد يد العون في الضائقة، وتكفي هنا الإشارة إلى أن عدد الأنفاق تحت الأرضية التي أقامها الفلسطينيون والمصريون للتواصل رغم أنف الجيش الإسرائيلي الذي سيطر على الحدود الفاصلة حتى سنة 2005، قد بلغ عدة مئات من الأنفاق، وقد تبلغ تكلفة النفق ثلاثمائة ألف دولار، ويبلغ طول بعضها آلاف الأمتار، وتصل أعماقها تحت الأرض من عشرين إلى ثلاثين متراً، ألا يكفي ذلك دليلاً على مدى التآخي والتنسيق والتعاون الشعبي بين المصريين والفلسطينيين؟ وفي أقسى الظروف، فلم تكن الأنفاق ترفاً فلسطينياً، ولا اختبار قوة، إنها إرادة حياة، ورغبة تواصل، وبدائل انفراج تحت أرضية للحصار فوق الأرض، إنها حاجة مختنق للنفس، إن ما يجري في الفترة الأخيرة من محاربة مصرية للأنفاق، وتدمير العشرات منها كما جاء في صحيفة " هأرتس العبرية " عن قيام مصر بإلقاء قنابل دخان سامة داخل الإنفاق، تسببت بمقتل عدد من الفلسطينيين، ليبعث على الاستغراب، ويفرض على مصر بحكم الجوار، وروابط الدم أن تعمل على توفير البديل الإنساني للحصار، وقتها ستنتهي ظاهرة الأنفاق بلا محاربة، وتغدو بلا قيمة نفعية. رغم ما حل بهم من دمار، ومن حصار، وإغلاق معابر، يحرص أهل غزة على ألا يكونوا معبراً للمخطط الإسرائيلي، وألا يكونوا ثقلاً على مصر، وألا يندلقوا بعنفهم، وغضبهم، وحزنهم، وأجسادهم المتفجرة، ونفوسهم الثائرة على مصر، أهل غزة لهم عدو واضح، ومعروف، ومحدد، يغتصب أرضهم، ويحاصرهم بسجنه الوحشي، ولا يرون في مصر وشعبها إلا إخوة، وأحبة، وأهلا، وهوى، وشركاء في المغنم والمغرم، ولا يطمعون بأكثر من تسهيل سفرهم إلى العالم الخارجي، وعودتهم عبر البوابة المصرية الوحيدة التي لم تغلق حتى في زمن الاحتلال الإسرائيلي الكامل لقطاع غزة، ولا تقع غزة الآن تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشرة، إنها تحت سيطرة حماس، وإغلاق المعبر المصري فيه عقاب للناس في غزة، وليس لحماس، وإذا كان الهدف من إغلاق المعبر الضغط لتحقيق المصالحة الفلسطينية، فإن ذلك لن يجدي مع فتح، ولا مع حماس، وفيه عقاب للناس، ولن يخرج أهل غزة على حماس بالعصي والفؤوس، إذ ليس أمامهم إلا البوابة المصرية نافذة الانفتاح على العالم الخارجي، أما من يقول: بأن المعبر قرين العودة لاتفاقية المعابر الموقعة بين السلطة الفلسطينية و " إسرائيل "، فمصر لم تكن طرفاً موقعاً على تلك الاتفاقية، فهي ليست ملزمة لها، ومصر لم تكن طرفاً في خطة الفصل أحادية الجانب التي نفذها شارون، فهي ليست ملزمة لها، فقط، مصر كانت طرفاً عندما احتلت " إسرائيل " سنة 1967 أراضي قطاع غزة وهي تحت السيادة المصرية.
لقد أمسى الفلسطيني يدرك أنه خسر قضيته السياسية من تلك اللحظة التي نفض فيها مؤتمر القمة العربي في الرباط، يده من الصراع العربي الإسرائيلي، وأوكل بالفلسطينيين حل قضيتهم بأنفسهم، ليصير الصراع على الوجود نزاعاً على الحدود بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبات الهم السياسي الفلسطيني يتمثل في التشبث بما تبقى من الأرض، والدفاع عن النفس للبقاء، والحفاظ على مقومات الحياة بأدنى مراتبها، على أمل التغيير في موازين القوى التي تميل لصالح الدولة العبرية، وقد دللت السنوات الطويلة من التفاوض العبثي أن ليس لدى القيادة الإسرائيلية بكافة أحزابها السياسية أي استعداد للتنازل عن السيادة على الأرض التي أعطيت لهم من الرب؛ كما يقولون في كتابهم: [لنسلك أعطيت هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير] وستظل الدولة العبرية متمسكة بكل شبر من أرض فلسطين، ما داموا قادرين على حمايتها، والحفاظ على الأمن، وتكفي الإشارة هنا إلى ما نشر في صحيفة " هآرتس " عن مسودة اتفاقية مبادئ مفصلة عرضها رئيس الوزراء الإسرائيلي على الرئيس الفلسطيني، بعد عشرات اللقاءات وسنوات طويلة من المفاوضات، والسفريات، والاجتماعات، والتدخلات الدولية، ما عرض على الفلسطينيين يتمثل في مطالبتهم بالتنازل عن 7 " من أراضي الضفة الغربية، إضافة للتنازل عن القدس، ومنطقة غور نهر الأردن، والتنازل عن حق اللاجئين بالعودة، وحفظ أمن " إسرائيل "، كل ذلك مقابل السلام.
يا مصر، كما يحلم السجين بالحرية، وكما تتمنى الأرض العطشى فيضان النهر، وكما يحن الغريب لوطنه، يحن، ويتمنى، ويحلم أهل غزة أن تنبسط يد مصر الأبية، وتفتح لهم المعبر الوحيد الذي سيجري بالحياة في عروقهم.
ــــــــــــــــــــــــ
القدس العربي
الكاتب: د. فايز أبو شمالة
مختارات