التصنيف التحصيلي
الحمد لله وبعد،،
تواطأت عبارات كثير من أهل العلم على التعجب والتساؤل حول كثرة مؤلفات الإمام النووي وشهرتها في الأقطار، في مقابل قصر عمره العلمي.
وقرأت وسمعت للبعض ممن يتساءل: كيف تأتّى للنووي إنجاز هذه المؤلفات العلمية المبنية على التحرير والتدقيق برغم محدودية المسافة الزمنية العلمية التي كتب الله له أن يعيشها رحمه الله؟
يستطيع كثير من المعنيين بالعلم أن يكتب كتابات جمعٍ وتلخيصٍ واختصارٍ بكثرة، لكن أن يكتب كتابة تحرير وتدقيق وتحقيق، بحيث تكون هذه الكتب مرجعية لدى العلماء الكبار، فهذا يحتاج غالباً عمراً طويلاً من الحفظ والضبط والبحث والتنقيب ومقارنة المصادر ومدارسة المسائل والتأمل والخبرة الطويلة بها، ومن هاهنا موضع الدهشة والانبهار حيال مؤلفات النووي، فمؤلفات النووي في الحديث والفقه واللغة والأعلام صارت " مصادر مرجعية " بين المتخصصين، برغم أن النووي طلب العلم متأخراً، ومات مبكراً!
فالنووي ابتدأ في طلب العلم متأخراً نسبياً سنة (649هـ) وكان عمره حينها كما أخبر هو عن نفسه (19سنة)، وهذا عمر متأخر في الطلب بالنسبة لزمانهم الذي يبتدئون فيه بطلب العلم قبل البلوغ، كما يقول النووي عن نفسه:
(فلما كان عمري تسع عشرة سنة؛ قدم بي والدي إلى دمشق في سنة تسع وأربعين، فسكنت المدرسة الرواحية)[ابن العطار، تحفة الطالبين، ص45].
ثم توفي النووي رحمه الله سنة (676هـ) وكان عمره حين توفي (45) عاماً، والعلماء في سن الأربعين يبتدئ للتو عطاؤهم العلمي الدقيق المحرر، فلم يعمّر الشيخ رحمه الله.
حسناً.. متى ابتدأ الشيخ بالتأليف والتصنيف؟ يقول الشيخ عن نفسه أنه مكث ست سنوات في طلب العلم ثم بدأ التأليف، أي أنه بدأ التأليف وعمره (25سنة)، كما يخبر النووي تلميذه ابن العطار:
(وذكر لي -رحمه الله- أنه كان لا يضيع له وقتا في ليل ولا نهار؛ إلا في وظيفة من الاشتغال بالعلم، حتى في ذهابه في الطرق ومجيئه يشتغل في تكرار محفوظه، أو مطالعة، وأنه بقي على التحصيل على هذا الوجه نحو ست سنين، ثم إنه اشتغل بالتصنيف)[ابن العطار، تحفة الطالبين، ص64].
هذا يعني أن غالب مؤلفات النووي التي نتداولها اليوم ألفها وهو في العشرين والثلاثين من عمره!
وهذه التواريخ التي استندت إليها، أعني: تاريخ بداية طلب النووي للعلم، وتاريخ بدايته التأليف، وتاريخ وفاته، كلها أخذتها من رسالة ابن العطار (ت724هـ)، وهو أشهر تلاميذ النووي وأخصهم به، والتي كتبها رحمه الله في ترجمة شيخه النووي وسمّاها (تحفة الطالبين في ترجمة الإمام محيي الدين) وعن هذه الرسالة نقل الناس أخبار النووي، وهي أوثق وأدق مصدر لترجمة النووي، ومن شدة اختصاص ابن العطار بشيخه النووي كان يسمى (مختصر النووي) كما يقول السخاوي:
(وقد أفرد ترجمة النووي بالتصنيف خادمه العلامة علاء الدين الدمشقي، عرف بابن العطار، الذي كان لشدة ملازمته له وتحققه به، يقال له " مختصر النووي "، وهو عمدتي بل عدتي، بل عمدة كل من أتى بعده)[السخاوي، المنهل العذب الروي في ترجمة قطب الأولياء النووي]
وبالمناسبة، فهذه الطريقة في تسمية العالم بمن اختص به من عالمٍ أو كتاب، كتسمية ابن العطار " مختصر النووي " هي طريقة معروفة مشهورة، ولها أمثلة ونظائر، فمن ذلك أن " الكافيجي " (ت 879هـ)، وهو شيخ السيوطي، ليس اسمه في الحقيقة الكافيجي، بل اسمه محيي الدين البرعمي، ولكن (لقّب بالكافيجي لكثرة اشتغاله بكتاب " الكافية " في النحو)[شذرات الذهب، 9/488]. والكافية هي المختصر الشهير لابن الحاجب في علم النحو اختصرها من خلاصة شرحه على المفصل للزمخشري.
ومن ذلك " الفصيحي " أحد علماء النحو، فليس اسمه كذلك، بل كما يقول ياقوت الحموي (سمي بالفصيحي لكثرة دراسته " كتاب الفصيح " لثعلب)[معجم الأدباء، 5/1964].
ومن ذلك إمام الحنابلة في زمنه " غلام الخلال " (ت 363هـ) فاسمه أبو بكر عبد العزيز، ولكن لشدة اختصاصه بالخلال سمي (غلام الخلال)، والذهبي صاحب الخبرة المعروفة في تراجم رجالات الإسلام، حتى اعتُبِر من أصحاب الاستقراء التام؛ يفخّم منزلة غلام الخلال جداً، حيث يقول الذهبي في سير النبلاء (قلت: ما جاء بعد أصحاب أحمد مثل الخلال، ولا جاء بعد الخلال مثل عبد العزيز، إلا أن يكون أبا القاسم الخرقي).
وابن العطار هذا هو –أيضاً- من شيوخ الذهبي (ت748هـ)، وهو كذلك أخو الذهبي من الرضاعة، ونقل الذهبي في كتبه ترجمة النووي من رسالة ابن العطار شيخه المشار إليها، ونقل الذهبي أشياء عن ابن العطار ليست في رسالته، فيبدو أن الذهبي أخذها من شيخه ابن العطار مشافهة.
حسناً.. لنعد الآن إلى التساؤل المطروح: كيف تأتّى للنووي تأليف هذه المؤلفات الكبيرة المرجعية ذات الوزن المصدري برغم أنه طلب العلم متأخراً نسبياً وعمره (19) سنة، وتوفي مبكراً وعمره (45) سنة، رحمه الله؟
هناك أطروحات متعددة في تعليل ذلك، لكن من أطرف وأعجب هذه التفسيرات، تفسير أشار إليه العلامة جمال الدين الإسنوي (772هـ) صاحب الكتاب المشهور(التمهيد في تخريج الفروع على الأصول)، ذلك أن الإسنوي له كتاب آخر من المطولات لم يشتهر بعد بين الباحثين المعاصرين بسبب تأخر طباعته، حيث لم يولد على رفوف المكتبات إلا عام 1430هـ، وبقي مخطوطاً كل هذه السنوات، وكتابه هذا اسمه (المهمات في شرح الروضة والرافعي) وهو كتاب يقع في عشرة مجلدات، على طريقة البسط والتوسع لا الاختصار، واشتغل فيه الإسنوي بدراسة المسائل التي ذكرها النووي والرافعي دراسة نقد ومقارنة وتمحيص، تميل إلى الصرامة والقسوة أحياناً، ومن الواضح منزلة كتاب المهمات في نفس الإسنوي نفسه، حتى أنه يشير إليه وينوه به كثيراً في كتابه (التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، وفي كتاب (المهمات) نقولات لا تكاد توجد في كتب الشافعية بسبب أن الإسنوي كما يقول عن نفسه:
(وقد تيسر لي بحمد الله من مؤلفات الشافعي والأصحاب، خصوصاً الأقدمين؛ ما لم يطرق اسمه بالكلية أذن أكثر المكثرين، ولم أعلمه قد اجتمع في مدينتنا عند أحد من العصريين، هذا وهي اليوم أعظم من الإسلام)[الإسنوي، المهمات في شرح الروضة والرافعي، تحقيق الدمياطي، دار ابن حزم، ط1، 1430هـ، ص 1/94].
المهم أن الإسنوي في كتابه الضخم هذا تعرض لشيء من سيرة النووي، وطرح تفسيراً لتساؤل (كثرة مؤلفات النووي برغم قصر عمره العلمي). تأمل معي تفسير الإسنوي ودعنا نناقش معطياته، حيث يقول الإسنوي في معرض ذكر التفاوت في مواضع من الروضة:
(ووقوع هذا للشيخ محيي الدين النووي أكثر، وذلك أنه لما تأهل للنظر والتحصيل، رأى من المسارعة إلى الخيرات أن جعل ما يحصله ويقف عليه تصنيفاً، ينتفع به الناظر فيه، فجعل تصنيفه تحصيلاً، وتحصيله تصنيفاً..، ولولا ذلك لم يتيسر له من التصانيف ما تيسر، فإنه رحمه الله دخل دمشق للاشتغال وهو ابن ثمانية عشرة سنة، ومات ولم يستكمل ستاً وأربعين)[الإسنوي، المهمات في شرح الروضة والرافعي، تحقيق الدمياطي، دار ابن حزم، ط1، 1430هـ، ص 1/99].
لا أستطيع أن أواري دهشتي من براعة هذه العبارة للإسنوي (فجعل تصنيفه تحصيلاً، وتحصيله تصنيفاً) وهو تعبير يمهد الطريق لنحت مصطلح (التصنيف التحصيلي).
ومراد الإسنوي أن النووي جعل تأليفه وسيلة للتحصيل وطلب العلم، وجعل طلبه وتحصيله للعلم في صيغة مؤلفاتٍ فوراً، أي أن تقييداته أثناء طلب العلم يجعلها في صيغة مؤلفات، بدلاً من أن تذهب مقيدات الشباب سدى.
حسناً.. هل فكرة التصنيف التحصيلي، أو " التأليف بهدف التعلم " تصور منفرد؟ أو تصور متأخر إلى عصر النووي؟ لا، طبعاً، فثمة شواهد قبل ذلك بقرون، ومن أجمل تلك الشواهد عبارة نقلها حافظ الدنيا في عصره الخطيب البغدادي (ت 463هـ) عن أشياخه، ذلك أن الخطيب تحدث عن أهمية التأليف، ثم نقل عبارة تحث على تحويل الكتابة الشخصية للتعلم إلى كتابة تصنيفية، يقول الخطيب:
(ينبغي أن يفرغ المصنف للتصنيف قلبه، ويجمع له همه، ويقطع به وقته، وكان بعض شيوخنا يقول " من أراد الفائدة فليكسر قلم النسخ وليأخذ قلم التخريج " )[الخطيب، الجامع لأخلاق الراوي، 2/282]
بالله عليك ألم تجد طعم هذه العبارة في حلقك " فليكسر قلم النسخ، وليأخذ قلم التخريج " ؟!
لكن ما معنى هذه العبارة؟ علّق على هذه العبارة البقاعي (ت885هـ) تلميذ الحافظ ابن حجر، حيث قال (أي: لأن الناسخ لا يتأمل في الغالب ما يكتبه، وإن تأمّل لم يُمعِن، بخلاف المخرِّج، فإنه يحتاج أن يتأمل حق التأمل)[البقاعي، النكت الوفية بما في شرح الألفية، تحقيق ماهر الفحل، مكتبة الرشد، ص 2/394].
ولا يبعد أن يكون هذا الشرح لابن حجر نفسه، ذلك أن غالب ما في كتاب النكت الوفية للبقاعي إنما هو تقييدات للبقاعي من تعليقات شيخه ابن حجر على شرح التبصرة والتذكرة.
والمراد أن هذا التعليق في كتاب البقاعي على العبارة التي نقلها الخطيب عن شيوخه تكشف لنا عن مبررات ومستندات هذه المقولة، وهي أن من يشتغل بنسخ العلم وكتابته لنفسه لا يكون في قوة التأمل كمن يكتب ليخرّج، لأن التخريج يستدعي المقارنة والموازنة والتأمل والتحليل، و " مقارنة المصادر ينبوع التحقيق "، وهكذا شأن التصنيف والتأليف.
ولاحظ في هذه العبارة التي نقلها الخطيب البغدادي عن شيوخه أنها تدعو طالب العلم أن يتوقف عن مرحلة معينة من طلب العلم، وينتقل إلى مرحلة أخرى، فينتقل من التلقي المحض، إلى التلقي بالمقارنة والتمحيص، فالنسخ نقل صِرف، والتخريج يستلزم المقارنة بين المعطيات الحديثية.
ولاحظ –أيضاً- كيف ساق الخطيب البغدادي هذه العبارة " من أراد الفائدة فليكسر قلم النسخ وليأخذ قلم التخريج " في موضع الشاهد على فائدة التصنيف، ذلك أنه لما ذكر التصنيف والتأليف وأهميتهما ساق هذه العبارة مساق الشاهد والتعزيز.
ولاحظ أيضاً -وهذا هو الأهم- أن هذه المقطع الذي يتحدث فيه الخطيب البغدادي عن التصنيف؛ ليس المقصود به الانتقال للتصنيف لنفع الناس، بل المقصود به التصنيف لإفادة الطالب نفسه، ذلك أنه صدّر هذه العبارة بقوله (من أراد الفائدة) بما يعني أنها وصية للطالب الذي قطع شوطاً بأن يبدأ يصنف ليستفيد.
ثم إن بعض المشتغلين بالعلم من المتأخرين لما تكلموا في أغراض التأليف وغايات المصنفين، أشار بعضهم إلى هذا المعنى، وهو أن طالب العلم يؤلف ويصنف ليبني نفسه علمياً، فمن ذلك المؤرخ الوراقي البحاثة التركي حاجي خليفة (ت 1067هـ)، وهو من أعاجيب الدنيا في الخبرة بالكتب والمصنفات، حتى أن الزركلي (ت 1396هـ) في حديثه عن بعض الكتب يكتفي بقوله (رآه حاجي خليفة)!
حيث عقد حاجي خليفة فصولاً بديعة في مطلع كتابه (كشف الظنون) تحدث فيها عن (أحوال العلوم)، ومن ذلك الفصل الذي سماه (الترشيح الثالث: في أقسام المصنفين، وأحوالهم) حيث يقول فيه:
(ومنهم: من جمع وصنّف للاستفادة، لا للإفادة، فلا حجر عليه، بل يرغب إليه إذا تأهل، فإن العلماء قالوا: ينبغي للطالب أن يشتغل بالتخريج والتصنيف فيما فهمه منه) [حاجي خليفة، كشف الظنون، ص 1/38]
فحاجّي خليفة أصل في الخبرة بتاريخ التأليف والتصنيف في الإسلام، وهاهو يشير إلى أن بعض أهل العلم صنّف بغرض أن يفيد نفسه أساساً.
ولذلك تجد في مقدمات كثير من كتب أهل العلم قولهم أنه صنفه لنفسه أصالةً، كقول الخلوتي في كشف المخدرات (ولكن علقته لنفسي، ولمن شاء الله تعالى من بعدي من الإخوان) وكقول ابن ضويان في منار السبيل (وإنما علقته لنفسي، ولمن فهمه قاصر كفهمي) ونحو هذه كثير، كما تجد كثيراً من أهل العلم يقول عن كتاب معين له أن جمعه لنفسه، ولم يكن يعزم نشره، لكن رآه بعض الناس فأشار عليه بإخراجه.
ومن النماذج المعاصرة التي لفتت انتباهي تجربة الشيخ د.سفر الحوالي، فقد كانت قراءة الشيخ واطلاعه كله في التراث الإسلامي، وخصوصاً المصنفات العقدية لأهل السنة ومكتبة شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكنه لما سجل رسالة الماجستير في العلمانية اضطرته الرسالة للاطلاع المنظم على أصول العلوم الإنسانية الغربية، حيث يقول الشيخ عن نفسه في كتابه " العلمانية ":
(وقد عرفت منذ اللحظة الأولى أن مهمتي ليست بيسيرة، وأن عليَّ أن أخوض في ميادين بعيدة عن مجال دراستي الشرعية البحتة، جاعلاً كل قراءاتي السابقة في الفكر الغربي بمثابة التمهيد فقط لما يجب علي أن أنهض به، وفعلاً خصصت نصف المدة المحددة للرسالة -تقريباً- في اطلاع دائب وقراءة متواصلة، فاطلعت على أمهات النظريات والاتجاهات في السياسة، والاقتصاد، والعلم، والاجتماع، والأدب، والفن، وكنت كلما ازددت إيغالاً في الاطلاع ازدادت ثقتي، وقوي عزمي على إكمال الطريق، ومع أن المراجع المذكورة آخر الرسالة لا تساوي إلا جزءاً مما قرأت، فإنني لا أشعر بشيء من الخسارة، بل أحمد الله تعالى الذي أراني الفكر الجاهلي الأوروبي على حقيقته)[د.الحوالي، العلمانية، دار الهجرة، ص11].
فبالله عليك لولا أن الله قدّر أن يكتب الشيخ سفر هذه الرسالة هل كان سيأخذ هذه الجولة المنظمة في العلوم الغربية؟!
وهذا الاطلاع على الفكر المعاصر بالإضافة لتكوينه الشرعي المؤصل، هو الذي وهب الشيخ سفر فرادته الخاصة، فانظر أثر التصنيف والتأليف على المؤلف نفسه!
وأتذكر مرةً أن أحد أصدقائي في كلية اللغات والترجمة، كان متخصصاً في اللغة الفرنسية، ويحدثنا عن أيام دراستهم، ويقول أن مشروع التخرج في كليتهم هو اختيار كتاب باللغة الفرنسية وترجمته، ويقارن مقارنة مدهشة ويقول: أن كل مادرسه عن اللغة الفرنسية أيام الكلية في كفة، وترجمته للكتاب في كفة أخرى، وأنه استفاد من مشروع التخرج أضعاف ما تلقاه في المحاضرات تلقياً محضاً مباشراً، ويتحدث حديثاً وجدانياً عن الليالي التي سهرها يتفحص عبارات في الكتاب الذي سيترجمه ويقارنها بالقواميس والمراجع.
حسناً.. هل هذا قاصر على " التصنيف " ؟ لا، طبعاً، بل سائر أنواع الإنتاج والعطاء العلمي مفيدة في التحصيل، فمثلاً: (تدريس العلم) يظن بعض الناس أنه مرحلة تأتي بعد الانتهاء من العلم، وهذا غير دقيق، بل تدريس العلم وسيلة من وسائل التعلم، فإذا قطع طالب العلم شوطاً في العلم، فيبدأ بتدريس من دونه، ويلاحظ كيف تتفتح له أغوار المسائل، ويتبين له فيها من التفاصيل والفروق والتدقيق في الصور والاستدلالات ما لم يتنبه له سابقاً.
وقد سمعت بأذني كثيراً من طلبة العلم يتحدثون عن أثر اشتغالهم بـ(تدريس العلم)في تمتين وتعميق تصوراتهم العلمية، وإشعال حماسهم للمراجعة والتأمل والبحث والنظر، بل بعضهم يشير إلى أن غرضه الأساس من انهماكه في تدريس العلم تحول من هدف تبليغ العلم، إلى هدف الاستعانة بالتدريس على التعلم والتحصيل، لما رأى من فائدته له شخصياً.
وسأنقل شاهداً طريفاً حول مسألة أثر تدريس العلم في تعميق تصورات المعلّم نفسه قبل المتلقين، وهو مثال من خارج الدائرة الإسلامية، ألا وهو الناقد الأدبي الأشهر إدوارد سعيد (ت 1424هـ)، حيث لاحظ كيف أنه أثناء عملية التدريس ذاتها تتفتح له تصورات لم تكن على باله أثناء التحضير، بل وأصبحت هذه الأفكار التي تطرأ له أثناء التدريس يستثمرها ويدونها في مؤلفاته، وعنون إدوارد سعيد لهذا الأمر عنوانا في أحد كتبه سماه (لطالما تعلّمت أثناء الدرس) يقول في هذا الفصل:
(أنا أدرّس منذ أربعين عاماً تقريباً، ولطالما تعلمت أثناء الدروس نفسها. أفتقد لشيء ما عندما أقرأ وأفكر من دون وجود طلاب، ولذلك طالما اعتبرت دروسي ليست روتيناً يفترض القيام به، بل تجربة بحث واستكشاف، وأعتمد كثيراً جداً على ردات فعل طلابي. عندما بدأت التدريس في أيامي الأولى، كنت أفرِط في التحضير، كنت أخطط لكل ثانية من الدرس. فيما بعد، اكتشفت أن تعليقات الطلاب يمكنها أن تحفّز أفكاراً ونقاشات لم أكن أتوقعها مسبقاً، وفي كثير من الأحيان كان ذلك يجد مكانه في كتاباتي)[إدوارد سعيد، السلطة والسياسة والثقافة، ترجمة نائلة حجازي، دار الآداب، ص 305].
في هذا النص يشير إدوارد سعيد إلى طريقته السابقة في تحضير دروسه، وهو أنه كما يقول عن نفسه (كنت أخطط لكل ثانية من الدرس) ثم اكتشف أن ما تثيره عملية التدريس ذاتها من أفكار وتصوررات أعمق بكثير من التفاصيل المعدّة مسبقاً، فلذلك تحول إلى إتاحة الوقت لهذا العامل ليستثمر هذه التدقيقات والانبلاجات، فتنعكس لاحقاً على أبحاثه وكتبه.
أحد أقراني في طلب العلم كان يلتمس منه بعض المربّين أن يلقي دروساً على بعض المبتدئين في طلب العلم من طلاب حلقات تحفيظ القرآن، فكان يمتنع مستحضراً معاني وجوب التواضع وهضم النفس وأن هذا من التصدر المبكر ونحوها، ثم إن ظروفه الأكاديمية ساقته سوقاً للتدريس فتفاجأ بأثر التدريس في فهم العلم وتحقيقه وتحريره والتدقيق في معانيه، فصار مشغوفاً بأي فرصة تدريس لما يتحرى فيها من الأثر العلمي على نفسه، ثم إنه بعث لي برسالة بديعة جداً، يتحدث فيها عن تجربته، وهذا نصّها:
(ظللت زمانا أمتنع عن تدريس بعض المتون الصغيرة التي كنت أظنني أتقنتها، وفي الفصل الماضي اضطررت بسبب الوظيفة لتدريس بعض المسائل الشرعية، فإذا بي أكتشف أن المستفيد الأكبر من التعليم هو المعلِّم، هذه حقيقة لايدركها إلا من جرب؛ فثمة ثغرات بيّنة في فهم بعض المسائل لا تنكشف إلا في قاعة الدرس، بل ثمة استنباطات وفتوحات، وربط بين الأبواب لايتجلى إلا مع التدريس، ولعل هذا من بركة نشر العلم وتعليمه. بعد رسوخ هذا القناعة أصبحت -والله يشهد- أبحث عمن أشرح له بعض المتون، وصرت أتصل ببعض الإخوان باحثاً عن طلاب علم يريدون استشراح متن! كنت من زاوية أخرى أبحث عن من آخذ منه بركة التعليم!)أ.هـ
وأنا بدوري أنقل هذه التجربة عن صاحبي لما ألتمس فيها من تحفيز طلاب العلم المتميزين على نشر العلم وتبليغه، لما يرجونه من الأثر العلمي على أنفسهم أولاً، وأن التدريس مفتاح من مفاتيح تحقيق العلم، وتحرير مسائله.
حسناً.. لنضع الآن الشواهد الثلاثة السابقة أمام ناظرينا مجدداً ولنجعلها مفتاحاً لمناقشة بعض الظواهر في بيئتنا العلمية، هذه النماذج الثلاثة السابقة هي:
1- قول الإسنوي عن النووي (فجعل تصنيفه تحصيلاً، وتحصيله تصنيفاً)
2- وقول الخطيب البغدادي (وكان بعض شيوخنا يقول " من أراد الفائدة فليكسر قلم النسخ وليأخذ قلم التخريج " ).
3- وقول حاجي خليفة (ومنهم: من جمع وصنّف للاستفادة، لا للإفادة).
هذه الشواهد الثلاثة تقودنا إلى مناقشة تصور منتشر وشائع، وهو أن التأليف والتصنيف لا يكون إلا بعد الانتهاء من طلب العلم، وانقضاء مرحلة التحصيل، وهذا تصور تسبب في أضرار على الحالة العلمية والتصنيفية.
تأمل الآن لمحات من احتياجاتنا العلمية: يحتاج عموم الناس اليوم إلى تيسير العلم وتقريبه لهم، ويحتاج المبتدئون في العلم في كافة الأصقاع في المدن والقرى إلى تكثيف فرص الدروس التي تتلاقي وتستجيب لاحتياجات الطلاب المتنوعة من حيث مستوى الدرس ووقته اليومي، وتتوالى مسائل النوازل التي تثير التعطش الشديد لدى الشباب للبحوث والدراسات التي تعالجها، وتطلب المؤسسات المصرفية والزكوية كثيراً من أبحاث الفقه المالي، ويتساءل الأطباء عن كثير من صور التداوي وأحكامها الشرعية، وتثير ثورات الربيع العربي كثيراً من مسائل فقه السياسة الشرعية بصورة ملحة جداً، ويثير التغريبيون شبهات ومسائل كثيرة في الفضائيات، والصحافة التقليدية، ومواقع التواصل الاجتماعي، حول أحكام المرأة أو الحسبة ونحوها، تحتاج لأوراق علمية رصينة تفندها، ونحو ذلك من احتياجات المجتمع.
وبالمقابل: تأمل في الظاهرة العلمية تجد كثيراً من طلاب العلم المتميزين، والأكاديمين الجادّين، وتأمل مثلاً طلبة العلم القادرين على البحث ممن ينشرون بعض مشاركاتهم في المنتديات العلمية: كملتقى أهل الحديث، وملتقى أهل التفسير، وملتقى أهل اللغة، والمجلس العلمي، ونحوها.
وتأمل في كثير من الأقسام العلمية في الكليات الشرعية، فلا تجد قسماً إلا وفيه ثلة علمية مميزة انتسبت للقسم لدواعي العلم، لا لدواعي وظيفية أو اجتماعية.
حسناً.. إذا تأملت العلاقة بين احتياجاتنا العلمية الواقعية الماسة، والكوادر المتميزة القادرة على البحث والكتابة؛ رأيت هناك نوعاً من الفتور في التجاوب السريع ونشر الأبحاث والأوراق العلمية، ومناقشة الأبحاث والدراسات المنشورة، وإشعال الوسط العلمي بالإنتاج والتداول والتتميم والنقد والاعتراض والتعزيز، برغم وجود قدر مشكور طبعاً من الدراسات، فأنا لا ارتاح لمسلك القسوة في تصوير الواقع، والميل لجلد الذات، ونكران المنجزات.
والحقيقة أنني عرضت هذا الموضوع على كثير من المتخصصين المتميزين، من طلاب علم مستقلين أو أكاديميين، وكنت أسألهم: لماذا لا يكتبون وينشرون ويعالجون المسائل التي يفور بها المجتمع اليوم؟
فرأيت كثيراً منهم يتحدث عن أنه يؤجل هذه المشروعات حتى ينهي طلب العلم ويكمل مشواره العلمي ونحو هذه العبارات، والحقيقة أن هذا العذر فرع عن تصور أن التصنيف وسيلة عطاء محض، وهذا تصور خاطئ، فالتصنيف والتأليف هو وسيلة تلقٍ أيضاً، ووسيلة لتمتين التأصيل العلمي لطالب العلم كما تمت الإشارة إليه في الشواهد السابقة.
وقد يقول البعض إن دعوة طلاب العلم للتصنيف والتأليف والبحث والنشر قد يدعو غير المؤهلين، إضافة إلى أن المكتبات تغص بدراسات غير مؤصلة.
والجواب أن هذا المحذور للأسف لم يعِق إلا المتميزين، ولم يلتزم بهذا التصور إلا طلاب العلم الجادّين، أما المتسورون على العلم وأصحاب " التأليف للتجارة "، فهؤلاء هم الذين قفزوا على هذا المحذور، ولذلك أصبح طالب العلم المؤهل اليوم يتجنب التأليف والنشر، وغير المؤهل يتجرأ على ركوب غمار المطابع.
ودعنا نضرب مثلاً لفكرة عملية للتأليف بهدف التعلم: لو أن طالب علم أراد أن يدرس علم أصول الفقه –مثلاً- ويؤصل نفسه فيه، فلو حفظ متناً معتمداً، أو عمد إلى القراءة والتأمل والاستظهار في كتاب مميز: كالمستصفى، أو إحكام الآمدي، أو التحبير للمرداوي، أو البدر الطالع للمحلي؛ لحصل شيئاً جيداً.
لكن لو أن هذا الطالب جعل تصنيفه تحصيلا وتحصيله تصنيفاً، فجعل له مشروعاً –مثلاً- في شرح مختصر التحرير لابن النجار، فيأخذ كل مسألة من مسائله، ويجعلها كالترجمة للباب أو العنوان، ويقرأ المصادر ويقارن ويوازن بينها في كل مسألة، ثم يكتب حصيلة تأمله في المصادر في شرح هذه الفقرة من المتن، لكان هذا الطالب إذا انتهى من شرح الكتاب قد حصّل هدفين، فالهدف الأول: أنه الآن قد قارن وتأمل مسائل أصول الفقه بالمقارنة بين المصادر فحققها وحررها ودقق فيها، وقد أثبتت التجربة أن (مقارنة المصادر ينبوع التحقيق). والهدف الثاني أنه يجد نفسه أمام مصنَّف قد انتهى منه يحسن أن يدفعه لمن يراجعه من المختصين ويصححه وينقحه، ثم يستشيرهم في طباعته ونشره، فيجعله الله له -بإذن الله- من العمل الباقي بعد الموت. وهكذا تعلم وصنّف في ذات الوقت، وكسر قلم النسخ وأخذ قلم التخريج. ولا أشك طرفة عين أن من تعلم أصول الفقه بهذه الطريقة فقد وصل لدرجة التحقيق في العلم، بخلاف من اكتفى بالتعلم بطريقة حفظ متن أو استظهار كتاب متوسط، فالحافظ أو المستظهر لا يدرك إلا قولاً واحداً منقولاً، وأما من حقق وحرر فهو الذي يقف على أدغال العلم وأعماقه وأغواره، ويفرز الصور ويحرر الاستدلالات، وفي كلٍ خير.
والهدف من هذه المقالة تنشيط البحث والتأليف بين طلبة العلم المتميزين المتهيبين من التصنيف ظناً منهم أنه مرحلة تكون بعد الانتهاء من طلب العلم، وغفلتهم عن كون التصنيف من وسائل التعلم، وهكذا سائر أوجه الإنتاج والعطاء، كتدريس العلم، والقضاء، والفتيا، والخطابة، ونحوها، فكلها وسائل تعلّم للشخص ذاته أولاً.
وأسأل الله أن نرى ذلك اليوم الذي تلتهب فه ساحتنا العلمية بالدراسات المتجاوبة فورياً مع احتياجات المجتمع، بالتصنيف والتكميل والنقد والاعتراض والتلخيص والتقريب والتهذيب، وإنما يحيا العلم ويتنفس في مثل هذه المناخات النشطة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
مختارات