انسحاق الشخصية وضياع الهوية
رغم كون ما تعرضه الأفلام والمسلسلات الغربية وتحديدا النوعية الخفيفة المبهجة = لا ينقل صورة دقيقة ومكتملة للحياة هناك كما يقر بذلك الغربيون أنفسهم وتؤكده شهادة كثير من أصدقائنا الذين قضوا أو يقضون فترة من حياتهم هناك. ورغم أن ما تنقله تلك الأفلام من عادات أو مشاعر أو ردود أفعال على المبالغات التي تحتويها = يناسب بشكل أو بآخر ثقافة تلك الشعوب وخياراتهم الاجتماعية والدينية والمبادئية بينما قد لا يناسب غيرهم. رغم ذلك كله تجد ذلك الإصرار المبتذل على استيراد ما تقدمه تلك الأفلام والمسلسلات بحذافيره واستقدام واقع بديل مغاير تماما لواقعنا وسيظل مغايرا شئنا ذلك أم أبينا... بشكل أبسط وأوضح لمن يصرون على استيراده = مش لايق عليكم لا يناسبكم... شكلكم فيه غلط. مثال واضح لذلك يتضح من خلال العلاقات بين الجنسين في الجامعات والحالة العاطفية التي يعيشونها والديكور المصاحب لها ابتداء من لحظة الإعتراف الرومانسية ومرورا بلافتات الإعتذار عند الخصام أو التهنئة بيوم ميلاد أو أي مناسبة أخرى مهما بلغت تفاهتها حتى تكاد تفاصيل تلك العلاقات والمشاعر تستعرض بشكل شبه كامل عبر لافتات في الشوارع ومنشورات على صفحات التواصل وانتهاء باللحظة الحاسمة المحورية... لحظة التقدم لخطبة البنت التي لابد أن تكون مهيبة ومشهودة. دعك من واقعة العين التي يتحدث عنها الناس هذه الأيام فهي لا تعنيني بذاتها ولا بما آلت إليه وإنما يلفت انتباهي الظاهرة نفسها... ما حدث في تلك الواقعة لم يكن ليثير هذه الضجة لولا ما تطور إليه وتم تسجيله بالصوت والصورة، لم يكن ليثير ضجة لأنه وللأسف صار شيئا شبه عادي ومتكرر، ولهذا أقول أنه كظاهرة يعد نموذجا مثاليا لتلك الحالة المزرية التي آل إليها كثير من شبابنا... انسحاق نفسي كامل أمام ثقافة مستوردة أدت لهذه التمثيلية السمجة التي يقوم بها المتقدم للزواج. نعم هي في الواقع مجرد مسرحية مفتعلة وربما صدقها هو أو صدقتها هي نظرا لمدى الإنهزام الذي صارت إليه نفسيهما... لماذا؟ الإجابة ببساطة أنه لا مبرر... لا مبرر لتلك الفرحة المصطنعة... لا مبرر للصراخ والهتاف المتشنج... لا مبرر للغموض الذي يسبق التقدم... لا مبرر أصلا للمفاجأة برمتها. ربما كان ذلك مفهوما في مجتمع غربي يعد فيه الزواج خطوة متأخرة عند المتحابين ولا يلجأون إليها إلا اختياريا لأنها ببساطة لن تقدم لهم شيئا مختلفا عما يفعلونه بدون زواج اللهم إلا الديمومة وإقامة أسرة مستقرة. لذلك قد يُفهم تهلل أسارير الفتاة حين يتقدم إليها حبيبها لأنه يعبر بذلك التقدم عن خيار مصيري وخطوة ربما لم يكن يخطوها أبدا. لكن ما علاقة هذا بنا؟ ما أفهمه أن وجود ذلك النوع من العلاقة في مجتمعنا رغم المناهي الشرعية التي تحوطه = مصيره الزواج، وأعتقد أن هذا بديهي عندنا حتى لو كان أحد الطرفين يخادع فيه الطرف الآخر، غالبا سيخدعه بوعد بالزواج وأن هذا هو المصير الطبيعي لتلك العلاقة؛ لكن هل كانت الفتاة تظن مثلا أنه يحبها فقط وشكرا على كدة؟ هل كانت تتوقع أن علاقتهما مجرد شيء مبهم ليس مآله الزواج فلما قام بتلك المسرحية = (اتخضت)! ولنفترض جدلا أنها فوجئت بطلبه الذي تقدم به أمام الجامعة كلها وعبر كاميرات المحمول، وبعدين يعني.. ايه اللي حصل؟ ما الداعي لهذه الفرحة المبالغ فيها؟ هل هو بذلك قد تزوجها وانتهى الأمر؟ هو وهي وكل من حولهما يعلمون أن الخطوات الحقيقية لم تبدأ بعد أصلا، فرحت وهللت ثم رفض والدها لأي سبب. فرحت وهللت ثم اختلفوا على القايمة. فرحت وهللت ثم تنازع الأهل على الستائر أو السجاجيد أو النيش وما أدراك ما النيش؟!! هل لا يعلمان كل هذه التفاصيل؟ هل سقطا بمظلة ليستيقظا فجأة ويجدوا أنفسهم في بلادنا الرجعية بعد أن عاشا سائر حياتهما في بلاد العم سام؟ الإجابة لا... هما يعلمان ويدركان والكل يعلم ويدرك ويفهم أن الفرحة الحقيقية تكون مثلا عند موافقة الوالد وقبول الزواج أو عند تمامه؛ لكن التقدم نفسه؟ تقدم إيه... معلوم ضمنيا في مجتمعنا التلازم البدهي بين الحب والزواج؛ لكنه للأسف الإصرار على الاستيراد حتى لو كان بالتلفيق والتكلف، إنها الحاجة لافتعال بهجة مقلدة لا تمت لواقعنا وتفاصيله بصلة. فما بالك لو تحدثنا عن علاقة كل ما سبق بديننا والتشريعات التي تحكم علاقة الرجل بالمرأة والآداب الشرعية التي تزين تلك العلاقة؟ أظن أن الفجوة حينئذ ستكون أوسع من أن يحويها مقال... لكن يظل أصل المشكلة قبل تفاصيلها مرتبطا في نظري بتلك الهزيمة التي نتكبدها يوميا والإنسحاق الذي يرزح أيناؤنا تحت نيره والضياع الذي يعيشونه... هزيمة النفس وانسحاق الشخصية وضياع الهوية.
مختارات