غرق فرعون 1
المكان: شاطئ بحر القصب المسمى حاليا بخليج السويس.. الزمان: في مثل هذا اليوم قبل عدة آلاف من السنين. من بعيد بدت العاصفة الرملية، أصوات تتعالى تدريجيا مع اقتراب الغبار الثائر، صليل معادن و دبيب مدوٍ يتصاعد، يبدو أنه وقع سنابك خيل يختلط بصهيلها الذى يتضح رويدا رويدا، يبدو أنه ما كانوا يفرون منه. ليست عاصفة رملية إذا إنما هى سحابة تراب أثارته سنابك خيل الطاغية. تردد الخبر بين الجمع الواقف على مشارف بحر هائج ترتطم أمواجه بأقدامهم ثم تعود آفلة إلى منبعها لتتلوها أمواج أخر، توجهت أنظار الجمع القلق إلى الجيش الجرار الذى يقترب بخطى حثيثة، يبدو أنه لا فائدة، سرى ذلك الشعور فى قلوب قوم ما انفكوا عن الإرجاف لأعوام و قد أفسدت فطرتهم عقود من الظلم و الاستعباد جعلت شعار لومهم لمنقذهم و قائدهم: " أوذينا من قبل أن تأتينا و من بعد ما جئتنا "، لم يتغيروا على ما يبدو، اليأس نفسه و الخوف الذى طالما صاحبهم يظهر الآن من أعين تدور فى محاجرها كالذى يغشى عليه من الموت، إنا لمدركون.. كلمتان حوتا عديدا من المؤكدات اللفظية نطق بها بنو إسرائيل بأصوات رعديدة تقطر بالفزع و تنضح بفقدان الأمل، و كأنهم نسوا كل ما مر بهم، وكأن كل الآيات التى رأوا فيها تجليات قدرة ربهم يجريها على يدى قائدهم قد تم محوها من أذهانهم، يا لضعف ذاكرتكم! أنسيتم العصا المتحولة و اليد البيضاء من غير سوء آية أخرى، أغفلتم عن الجراد و القمل و الضفادع و الدم التى ابتلى بها عدوكم و مذلكم و قومه بينما نجاكم الله منها؟ ويحكم، أين عقولكم؟! إنه نبيكم و منقذكم الذى ما كذبكم يوما، أولم يعدكم أن يهلك ربكم عدوكم و يستخلفكم فى الأرض من بعدهم فينظر كيف تعملون، فمالكم كيف تحكمون؟! ثم كانت الصفعة؛ صفعة يقين على قلب كل مرجف واهن أكد بيأس أنهم مدركون، صفعة بكلمة من ثلاثة أحرف بددت غيابات الإرجاف البادى من صياحهم، كلا.... قالها الكليم وضيئة تتلألأ بأنوار العقيدة، كلا... قالها حاسمة قاطعة لا شك فيها، و كيف لا يفعل و هو من ارتقى على درجات الثقة درجة تلو أخرى، كيف لا يفعل و قد تعلم الدرس مرة بعد مرة، تعلم أنه لا يخاف لدى الله المرسلون، تعلم ألا يخاف و هو الأعلى بإيمانه، تعلم أنه بآيات ربه و من اتبعه الغالبون، و تذكر الوعد الربانى؛ الوعد الذى كلمه به ربه منذ أعوام مخاطبا إياه و أخاه: لا تخافا إننى معكما أسمع و أرى، هذا الوعد الذى وجد قلبا خصيبا لتنمو فيه جذور الثقة المطلقة فى مآل الأمر و تنبت منها شجرة طيبة من يقين راسخ أصلها ثابت و وفرعها فى السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها. و كان من أُكُلِها أن قال بعد حرفه الحاسم: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي}، إنه يدرك معنى المعية؛ معية الملك الحق، فكيف يخاف أو يشك؟! إن معه ربه يسمع و يرى، لا شك إذاً أنه سيهدى، لذا قالها بحزم نافذ: {سَيَهْدِينِ}، لكن كيف؟! لا توجد أسباب؛ من أمامهم بحر لجى ثائر لا يأمن أصحاب السفن على أنفسهم فيه، فما بالك بقوم قد أجهدهم طول المسير فى صحراء مصر الشرقية وقد جفت حلوقهم و جلودهم تحت حر شمسها، و لا مركب لهم إلا أقدام قد كلت من عناء الرحلة، و من خلفهم طاغوت و جيش هادر لا هم لهم و لا غاية إلا إفناءهم، من أين أتيت بهذا اليقين يا موسى؟! دلنا إذا على المفر وخبرنا بربك عن طريق النجاة. و من أدراكم أنه يعرف بعد؟! إنه يصدق ربه، و هذا قد يسبق علمه بالتفاصيل لكنه يوقن أنه سيعلم فى الوقت المناسب، و هاقد علم، قد جاء الوحى، وصل روح القدس القوى الأمين، ها هى العصا ترتفع من جديد لا لتتحول هذه المرة إنما لتحوِّل؛ لتحول مغرقا عميقا، إلى ملاذ آمن، و سبحان من جعل المغرق ملاذا، و الملاذ مغرقا! نعم؛ لقد كان الملاذ يوما مغرقا لولد نوح عليه السلام، فلم ينجه جبل آوى إليه و لم يعصمه ارتفاعه من أمر الله، و ها هو المغرق يتحول إلى الملاذ الوحيد الذى سيأوى إليه موسى و قومه، مشهد مهيب لم تر الدنيا مثله؛ جبلان عظيمان من الماء كأنهما شلالان يهدران عن اليمين و الشمال و بينهما أودية ضيقة يختلط طين أرضها بشعب مرجانية حادة يجاهد القوم فى تفاديها و المرور من خلالها، يا له من مشهد و يا لها من آية! لقد انشق البحر فكان كل فرق كالطود العظيم، مر بنو إسرائيل يسارعون الخطي، و لو نظر أحدهم إلى جبل الماء بجواره لربما أفزعه ظل قرش يتجول، أو سرب مخلوقات بحرية يسبح بحثا عن رزقه، و لا تفصل بينهم و بينه إلا أمتار. لكن الله أراد لهم أن يمروا، و أن يأمنوا و ينجوا.
مختارات