معالم التوحيد في الحج
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فإن الله خلق الخلق ليعبدوه وبالإلوهية يفردوه؛ قال - تعالى -: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذارياتّ:56]، ولقد بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وداعين إلي عبادة الله وحده لا شريك له، قال - سبحانه -: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحلّ:36]، ولأجل هذا كانت العبادات المشروعة علامةً على هذا التوحيد وتأكيداً له؛ فالصلوات لإقامة ذكر الله، قال - تعالى -: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه:ّ14]، والله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت، والصوم عبودية خالصة لله - تعالى - كما جاء في الحديث المتفق عليه: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)، والمال مال الله يستخلف فيه عباده، والزكاة حق الله في هذا المال قال - تعالى -: ﴿ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيه ﴾ [الحديد:7]، وقال - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾ [المعارج: 24-25].
والحج لزيارة بيت الله الحرام، وإدامة ذكر الله وإعلان الطاعة والانقياد له - سبحانه - وتعظيم شعائره وشرائعه، وتتجلي معالم التوحيد في الحج في كل شعيرة من شعائره، وموقف من مواقفه وعمل من أعماله وذكر من أذكاره.
أولاً: بناء البيت العتيق:
أمر الله خليله إبراهيم - عليه السلام - أن يبني البيت الحرام ليكون مثابة للناس وأمنا، وليكون قبلة للمؤمنين الموحدين، ومنارة لنداء التوحيد. فكان إبراهيم يبني ويرفع القواعد من البيت ومعه ولده إسماعيل - عليهما السلام - وهما يدعوان الله - تعالى -: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ﴾ [البقرة:ّ127]، وهذا الدعاء منهما - عليهما السلام - وهما يبنيان البيت من أدل الدلائل على توحيدهما، ورجائهما في الله - تعالى -، وخوفهما ألا يقبل عملهما، وكان بعض السلف يبكي إذا قرأ هذه الآية ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا.. ﴾ [البقرة:127]ّ، ثم يقول: " يا خليل الرحمن، ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقبل منك ". وأراد الله - تعالى - أن يكون هذا البيت الذي بناه إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - موضعاً للمناسك، ومكاناً للطواف، وأمر - سبحانه - بتطهيره من كل ما يعارض التوحيد، ثم قام ولدهما محمد الخليل الثاني - صلى الله عليه وسلم - بتطهير البيت من الأصنام والأوثان يوم فتح مكة وهو يتلو قول الله - تعالى -: ﴿ وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء:81]، ثم بين النبي - صلى الله عليه وسلم - للناس مناسكهم ومشاعرهم ليبقي البيت منارة للتوحيد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وجعل يقول للناس: (خذوا عني مناسككم)، ويقول: (قفوا على مشاعر أبيكم إبراهيم)، قال الله - تعالى -: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴾ [البقرة:125-129]، وقال - تعالى -: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ *لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ذَلِكَ * وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب ﴾ [الحج: 26-32].ّ
ثانياً: التلبية شعار المؤمنين الموحدين:
التلبية شعار الحجيج منذ نادى إبراهيم - عليه السلام - في الناس بالحج ممتثلاً قول الله - تعالى -: ﴿ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾.
لقد كان العرب في الجاهلية يحجون ويلبون، ولكنهم يلبسون حجهم وتلبيتهم بما كانوا عليه من الشرك بالله فيقولون: " ليبك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك ".
وجاء النبي الخاتم - صلى الله عليه وسلم - ليعلن التوحيد ويهدم أركان الشرك، لبى بالتوحيد: " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك "، وكان بعض الناس يزيد على تلبية رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- فلم ينكر عليهم ماداموا على التوحيد، ولكنه التزم هذه التلبية لا يزيد عليها، ففيها توحيد الله - عز وجل -، ونفي الشريك عنه، وإثبات الحمد والنعمة والملك لله وحده لا شريك له.
وقد صح عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان يلبي بتلبية رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ويزيد مع هذا: " لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل " رواه مسلم، " لبيك مرغوبًا ومرهوبًا إليك، ذا النعماء والفضل الحسن " ابن أبي شيبة، كما ذكره ابن حجر فتح الباريّ، ويروى عن أنس - رضي الله عنه -: " لبيك حجًا حقًا تعبدًا ورقًا ".
وتبدأ التلبية عند الإهلال، وتستمر حتى يرى المعتمر الكعبة فيقطع التلبية ويبدأ الطواف، وتستمر مع الحاج حتى يرمي جمرة العقبة يوم النحر.
ويستحب رفع الصوت بالتلبية، فأفضل الحج العج والثج، والعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة الدماء يوم النحر، أي ذبح الهدي والأضحية.
وفي الحديث يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أتاني جبريل فقال: يا محمد، مُر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحج) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وتكرار التلبية، وتكرار لفظ لبيك يفيد استمرار الإجابة، أي إجابة بعد إجابة، وقيل: التلبية من اللزوم والإقامة، والمعنى أقمت ببابك إقامة بعد أخرى وأجبت نداءك مرة بعد أخرى، ولازمت الإقامة على طاعتك.
ولقد كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يلبون إذا دعاهم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فيقول الواحد منهم: (لبيك رسول الله وسعديك)، فالتلبية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - متابعة هديه وسنته، والتلبية لله توحيد وطاعة، والمؤمن لا ينفك عن التلبية والاستجابة حتى يلقى الله - عز وجل -، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، وبشرته الملائكة برضوان الله فاستبشر، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه.
وجزاء المستجيبين لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - الجنة قال - تعالى -:﴿ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المِهَاد ﴾ [الرعد:ّ18].
ثالثاً: تعظيم البيت من تعظيم رب البيت - سبحانه وتعالى -:
قال - تعالى -: ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوب ﴾ [الحج: 32]، وقال - تعالى -: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِين ﴾ [البقرة:96].
وتعظيم البيت العتيق يكون بالتوجه إليه في الصلاة كما قال - تعالى -: ﴿ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه ﴾ [البقرة: 144]، ويكون كذلك بالطواف به، واستلام الركنين اليمانيين، وتقبيل الحجر الأسود، اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم.
لقد أمر الله بالطواف ببيته فقال - تعالى -: ﴿ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾، مما يدل على أن الطواف خاص بهذا البيت فلا يجوز الطواف ببيت غيره على وجه الأرض، لا بالأضرحة ولا بالأشجار ولا بالأحجار، ومن هنا يعلم الحاج أن كل طواف بغير البيت العتيق فهو باطل، وليس عبادة لله - عز وجل -، وإنما هو عبادة لمن شرعه وأمر به من شياطين الإنس والجن.
ومن مظاهر توحيد الله في الطواف بالبيت العتيق أن الطائف حين يستلم الركن اليماني والحجر الأسود يعتقد أنه يستلمهما لأنهما من شعائر الله، فهو يستلمهما طاعة لله واقتداء برسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حينما استلم الحجر وقبله: " والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك ".
ومن مظاهر التوحيد أن الطائف بالبيت العتيق يصلي خلف مقام إبراهيم ركعتين خفيفتين يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب وسورتي الكافرون والإخلاص، فيقرأ في الأولى سورة البراءة من الشرك ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ [الكافرون:1-2]، ويقرأ في الثانية سورة الإخلاص التي هي صفة الرحمن والتي تعدل ثلث القرآن.
رابعاً: السعي بين جبلي الصفا والمروة والدعاء والتهليل فيه:
لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصعد جبلي الصفا والمروة ويسعى بينهما ممتثلاً أمر الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ [البقرة:158]، فيبدأ بجبل الصفا قائلاً: " أبدأ بما بدأ الله به "، ثم يصعد الجبل ويرفع يديه مستقبلاً البيت معلناً توحيد الله قائلاً: " لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده "، ثم يدعو بما تيسر رافعاً يديه، ويكرر هذا الذكر والدعاء ثلاث مرات. [رواه مسلم].
خامساً: دعاء يوم عرفة:
سار النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه إلى عرفة وكان مِن أصحابه الملبّي، ومنهم المُكبِّرُ، وهو يسمَعُ ذلك ولا يُنْكِرُ على هؤلاء ولا على هؤلاء، فوجد القُبَّة قد ضُرِبَتْ له بِنَمِرَة بأمره، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمسُ، أمر بناقته القَصواء فَرُحِلتْ، ثم سار حتى أتى بَطن الوادي من أرض عُرَنَةَ فخطب النَّاسَ وهو على راحِلته خُطبة عظيمة قرَّرَ فيها قواعِد الإسلام، وهَدَمَ فيها قواعِدَ الشِّرْكِ والجاهلية، وقرَّر فيها تحريمَ المحرَّمات التي اتفقت المِللُ على تحريمها، وهى الدِّماءُ، والأموالُ، والأعراض، ووضع فيها أُمورَ الجاهلية تحتَ قدميه، ووضع فيها ربا الجاهلية كُلَّه وأبطله، وأوصاهم بالنساء خيراً، وذكر الحقَّ الذي لهن والذي عليهن، وأن الواجبَ لهن الرزقُ والكِسوةُ بالمعروف، ولم يُقدِّر ذلك بتقدير، وأوصى الأُمَّة فيها بالاعتصام بكتاب الله، وأخبر أنهم لن يَضِلِّوا ما داموا معتصمين به، ثم أخبرهم أنهم مسئولون عنه، واستنطقهم بماذا يقولُون، وبماذا يشهدون، فقالوا: " نشهد أنك قد بَلَّغْتَ، وأَدَّيْتَ، ونَصَحْتَ، فرفع أُصبعه إلى السماء، واستشهد اللهَ عليهم ثلاثَ مرات، وأمرهم أن يُبَلِّغ شاهدُهم غائبَهم، ثم صلى الظهر والعصر جمعًا وقصرًا، فلما فرغ من صلاته، ركب حتى أتى الموقفَ، فوقف، واستقبل القِبْلة، فأخذَ في الدُّعاء والتضرُّع والابتهال إلى غروب الشمس، وأمر النَّاس أن يرفعُوا عن بطن عُرَنَةَ، وأخبر أن عرفة لا تختص بموقفه ذلك، بل قال: (وقَفْتُ هاهنا وعَرَفَةُ كُلُّها مَوْقِفٌ).
وكان في دعائه رافعاً يديه إلى صدره كاستطعام المسكين، وأخبرهم أنَّ خَيْرَ الدُّعَاء دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ. وذكر الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه قال: " كان أكثرُ دُعاءِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ عَرَفة (لا إله إلاَّ اللهُ وحدَهْ لا شرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحمدُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شيء قَدِير) ".
وذكر البيهقيُ من حديث علىّ - رضي الله عنه -: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (أَكْثَرُ دُعائي ودُعاءِ الأَنْبيَاء مِنْ قَبْلي بِعَرَفَةَ لا إله إلاَّ الله وَحْدَه لا شَرِيكَ لَه، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وهُوَ عَلى كُلِّ شَيء قَدِير) [زاد المعادّ].
سادساً: الحج يذكر بمواطن ومشاهد الآخرة:
ويتجلى هذا حينما يترك الحاج وطنه وبلده وأهله وولده قادماً على الله - عز وجل -، فيتجرد من ثيابه ويلبس إزاراً ورداءً أبيضين نظيفين كأنهما أكفان الموتى، ويقف مع الحجيج على صعيد عرفات فيتذكر الموقف العظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين.
قال بعض العلماء: من أعظم معاني التوحيد في الحج أن الحج يذكر الإنسان بالآخرة، فإن الإنسان من أول لحظة في الحج إذا خرج من بيته يتوجه إلى الميقات، فيأتيه أمر الله - عز وجل - في الميقات أن يتجرد من ثيابه، وأن ينزع عنه المخيط فإذا تجرد من ثيابه تذكر إذا جرده أهله من ثيابه حين يموت ليغسلوه، هو اليوم يجرد نفسه؛ ولكنه غداً يُجَرَّدُ ثم إذا لبس ثياب الإحرام فإنه يتذكر لبس الأكفان، وعندما يلبس ثياب الإحرام فإنه يمنع من الطيب، ومن قص الشعر، ومن الترفه، فيتذكر أنه إذا صار إلى قبره يحال بينه وبين أي شيء من ملاذ الدنيا ومتعها وما فيها من الشهوات والملهيات، كذلك هو في حجه يُمنع من هذه الأمور لكي يتذكر الآخرة.
ثم إذا صار إلى صعيد عرفات تذكر وقوف الناس بين يدي الله - عز وجل - حفاة عراة غرلاً، فيتذكر مثل هذه المواقف؛ ولذلك يقولون: الحج يعين على تذكر الآخرة.
قال أبو العتاهية:
سابعاً: ذكر الله في الحج:
فالحاج يأتي ربه ذاكرًا ملبيًا مستجيبًا، قد تجرد من دنياه، وترك بلده وأرضه وأهله وثياب وزينته، وأقبل على الله أشعث أغبر مُحْرِمًا، يلبي ويكبر، ويدعو ويستغفر، ويقف عند المشاعر وقد تملكته مشاعر الحب والرغبة والرهبة والخوف والرجاء، ولا يفتر قلبه ولا لسانه عن ذكر ربه وخالقه ومولاه.
وقد أمر الله - عز وجل - الحاج بذكره، وكرر الأمر في مواضع من كتابه العزيز، حتى لا تكاد تجد آية في كتاب الله - عز وجل - تخاطب الحاج إلا وتجد فيها الأمر بذكر الله - عز وجل -، قال - تعالى -: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُون ﴾ [البقرة:198-203].
وقد ختمت هذه الآيات بذكر الله - تعالى - تنويهًا بختام الحج بالذكر، فكما يبدأ الحج بالذكر ينتهي بالذكر.
هذا، وقد سبق أن كتبنا مقالاً مفصلاً عن ذكر الله في الحج يُغني عن إعادته.
فانظر -رحمك الله- إلى هذه العبادة الجليلة وما فيها من المشاعر التي تجيش لها المشاعر فتنبض القلوب المؤمنة بذكر الله - عز وجل -، وإعلان الاستجابة لندائه - سبحانه -، والتوجه إليه وحده لا شريك له.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل والسر والعلن، وأن يملأ قلوبنا بطاعته ومحبته وتعظيمه وخشيته، وأن يرزقنا حج بيته، وأن يقبل عباده الذاكرين الملبين، وأن يردهم إلى أهليهم سالمين غانمين بحج مبرور وذنب مغفور، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
مختارات