ملاحظة عابرة في تأريخ الأفكار
بسم الله الرحمن الرحيم
المرء حينما يؤرخ فإنه يتأثر بطبيعة اهتماماته الخاصَّة وما يحبه وما لا يحبه من الأفكار والمذاهب والعلوم وعلى أساس ذلك يقوم بالمفاضلة والتقييم
وأغلب الناس مهما تضلَّعوا علما لا يستطيعون أن يبرحوا زاوية اهتماماتهم الضيقة لينفذوا بأبصارهم إلى رؤية الضوء الممتد الذي لا يصل إليهم
فالمشتغل بعلم القراءات يرى الشاطبيَّ مجدِّدَ القرون، والمعتني بعلم مصطلح الحديث يبالغ في تصوير أثر الخطيب البغدادي على جميع الفنون، والمهتم بتحرير أحد المذاهب الفقهية يدهمه شعور قوي بأن ابن عابدين الحنفي أو البهوتي الحنبلي ذوي أثر بالغ في صياغة تفاصيل واقعنا المعاصر!
بل بعض الخارجين من عباءةِ شيخٍ معاصر لا يكادون يرون زاويةً في هذا العالم تفلت من قبضة أثرِ الشيخ، وهكذا إذا دخل المرء مغارةً في أحد الكهوف فإنه يرى أعماقها بوضوح تام إلى صورةٍ تحجب عنه رؤية تفاصيل المغارات المجاورة في الجبال المتاخمة!
وليس المراد نفي تأثير بعض هؤلاء الذين وردت أسماؤهم بإطلاق، إنما المقصود الإشارة إلى طبيعة الإنسان حينما يستغرقه علمٌ أو فكرة فإنها غالبا ما تعصب عينيه عن رؤية ما سواها.
وهذا القصور في الرؤية يمتد إلى غالب الذين اشتغلوا بتاريخ الأفكار مهما حاولوا الحياد والحديث عنها من الخارج، فغالبا ما يُساق الحديث عن المؤثرين على الثقافة بحسب تأثيرها على الشخص نفسه،
وقد رأيت الشيخ محمود شاكر حينما عدَّ أقطاب النهضة الحديثة؛ ذكر في مقدمتهم صاحب الخزانة عبدالقادر البغدادي، ورأيت أن المؤرخ الانجليزي برتراند رسل يغلو في تمجيد أفلاطون ويقلل من قيمة أرسطو فلسفيا، وفي نظري القاصر أن الشيخ محمودًا -رحمه الله- وبرتراند رسل لم يفلتا من قبضة استيلاء التخصص والاهتمام حين قصدا النظر إلى تاريخ الأفكار؛ لذا أبدى فؤاد زكريا هذه الملاحظة الدقيقة معللا تمجيد رسل لأفلاطون:
(لأن رسل يبدي اهتماما في كتابه بالجوانب الرياضية، على حين أن أرسطو لم يكن يهتم أصلا بالرياضيات، وربما كان في هذا مثل ملموس لما قلته من قبل عن طريقة الفيلسوف في كتابة تاريخ الفلسفة وكيف أن موقفه الخاص يتحكم أحيانا في رؤيته للفكر الفلسفي السابق)
فالموقف الخاص شديد التحكم في الرؤية العامة، والإفلات من نفاذ سطوته يستلزم جهدا مضاعفا لمن أراد دراسة تاريخ الأفكار؛ لئلا يكون ترتيب تأثير الأفكار البشرية بالقلم هو بحسب ترتيب مكانتها في القلب!
مختارات