النسمة الثانية: نعم بلا شكر (3)
6. الوقت:
الوقت نعمة: وذلك ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» (صحيح كما في ص ج ص رقم [6778]).
يعني أن المستفيدين من أوقاتهم قلة، وأن الكثير مفرط مغبون قد صرف وقته في غير محله، والغبن: أن تشتري بأضعاف الثمن، أو تبيع بأقل من الثمن الذي اشتريت به، فمن تفرغ ولم يسع لصلاح آخرته فهو كالمغبون الذي خدع في البيع، وهذا لأن الدنيا مزرعة الآخرة وفيها التجارة التي يظهر ربحها غدا، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله اليوم فهو الفائز بإذن الله.
نماذج مدهشة:
الحافظ القدوة شيخ الإسلام حماد بن سلمة: قال عنه تلميذه عبد الرحمن بن مهدي: لو قيل لحماد بن سلمة: إنك تموت غدا ما قدر أن يزيد في العمل شيئا، ولهذا كافأه الله أن توفاه وهو يصلى.
كان الإمام ابن تيمية الجد مجد الدين أبو البركات: إذا دخل الخلاء يقول لجليسه؛ اقرأ في هذا الكتاب، وارفع صوتك حتى اسمع حتى لا يضيع من وقتي شيء.
الحافظ الحجة الأوحد عبيد بن يعيش الكوفي شيخ البخاري ومسلم، قال عن نفسه: " أقمت ثلاثين سنة ما أكلت بيدي بالليل، كانت أختي تلقمني، وأنا أكتب الحديث!!
سيد الحفاظ وشيخ المحدثين يحيى بن معين: قال: " كتبت بيدي ألف ألف حديث ". ولهذا بلغ من العلم مبلغا قال عنه الإمام أحمد: " كل حديث لا يعرفه يحيى بن معين فليس بحديث ".
أبو عثمان البقلاوي: إني وقت الإفطار أحس بروحي كأنها ستخرج؛ لأجل اشتغالي بالأكل عن الذكر.
هذه النماذج العالية والهمم الوثابة هي التي يصدق فيها قول الشاعر:
سعدت أعين رأتك وقرت *** والعيون التي رأت من رآكا
لطيفة: قال ابن الجوزي ينصح ولده: " واعلم يا بني أن الأيام تبسط ساعات، وأن الساعات تبسط أنفاسًا، وكل نفس خزانة، فاحذر أن يذهب نفس بغير شيء فترى في القيامة خزانة فارغة فتندم، وانظر كل ساعة من ساعاتك لما تذهب، فلا تودعها إلا إلى أشرف ما يمكن، ولا تهمل نفسك وعودها أشرف ما يكون من العمل وأحسنه، وابعث إلى صندوق القبر ما يسرك يوم الوصول إليه ".
إذا بلغ الفتى ستين عاما *** فنصف العمر تمضيه الليالي
ونصف النصف يمضي ليس يدري *** وباقي العمر هم واشتغال
الوقت نقمة: حين يبذل في شراء النار بعصيان الجبار، وبيع الجنة بأبخس الأثمان، ولهذا قالوا: من علامات المقت إضاعة الوقت، فمن أبغضه الله شغله عن ذكره وأضاع وقته.
أخي.. الكسل بئس الرفيق، وتضييع الأوقات يورث الندم يوم القيامة، وذلة الأقدام فوق الصراط، وعض أصابع الندم في جهنم.
فانتبه لنفسك، وكن عالما، أو متعلما، أو مطالعا، أو مستمعا، أو قارئا، أو تاليا، أو ذاكرا، أو عابدا.
ولا تكن قاتلا أوقاتك.. خانقا أنفاسك.. مبددا ساعاتك، طالبا للراحة والكسل على حساب الجنة والعمل.
نداء إلى الشباب: أرسلته لكم امرأة هي التابعية الجليلة حفصة بنت سيرين فقالت: خذوا من أنفسكم وأنتم شباب، فإني رأيت العمل إلا في الشباب.
ولسرعة انقضائه التي تشبه البرق إذا ومض قال الإمام أحمد: ما شبهت الشباب إلا بشيء كان في كمي فسقط.
فاعلموا أيها الشباب قبل فوات الأوان وحلول الموعد وزيارة ملك الموت، بل اعملوا قبل أن يغزو والشيب رؤوسكم فتضعفوا عن القيام، وتفتروا عن الصيام وتندموا،كما سبق وندم أبو عثمان الحافظ الأديب المشهور فقال:
أترجو أن تكون وأنت شيخ *** كما قد كنت أيام الشباب
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب *** قديم كالجديد من الثياب
ومن علم أن الشباب ضيف لا يعود، شغل هذه المرحلة من عمره بطاعة الله، واستعان به على الصالح لدينه ودنياه، ومن تعود في صغره على شيء كان قدرا عليه في كبره، ومن أتبع نفسه هواها ندم حين يشيخ، ولات ينفع الندم.
أخي الشاب.. اغتنم فرصة شبابك ودع عنك الاعتذار عن أعمال الأبرار وصحبة الأخيار ودموع الأسحار.
إذا كان يؤذيك حر المصيف، وكرب الخريف، وبرد الشتاء، ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لي متى؟!
قدوة الشباب: سعد بن معاذ سيد شباب الأنصار أسلم قبل الهجرة بعام واستشهد في العام الخامس من الهجرة، أي عاش مسلما 6 سنين فحسب، ومع هذا كان من بركة استغلاله لأوقاته طوال هذه السنوات الست أن اهتز عرش الرحمن لموته، وشيعته الملائكة إلى قبره، ولما تعجب المسلمون من قطعة حرير ولينها قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا» (صحيح كما في ص ج ص رقم [7059]).
هذه القدوة يا شباب فأين المقتدي؟! وهذه الطريق فأين السالك؟!
وماذا بعد الكلام: أخي.. اعلم أن من لم يشكر نعم الله عليه عرضها للزوال:
شكر نعمة المال: أخرج زكاة مالك، فأن لم تجب فيه الزكاة فأخرج منه صدقة، فإنها مهما صغرت وقاء لك من النار: «اتقوا النار ولو بشق تمرة».
الطالب يخرج من مصروفه، والفقير يعطي من هو أفقر منه، والمحتاج يمنح من أعدمته الحاجة، والغني أولى من أولئك جميعا بالإنفاق.
شكر نعمة البصر: أ- اجعل لنفسك ساعة كل أسبوع تتفكر بها في خلق الله، أو شاهد برنامجا لهذا الأمر (العلم والإيمان)، أو اخرج في رحلة خلوية مع أهلك تجعل فيها وقتا للتدبر (العبادة المهجورة).
ب- اعصر عينك لتبكي.. اشهد الجنائز لتبكي.. احضر دروس العلم والرقائق لتبكي.. اقرأ القرآن بحزن لتبكي.. تفكر في ذنوبك لتبكي.
اشكر نعمة اللسان: أ- لا يزال لسانك رطبا بذكر الله: اشغل لسانك بالذكر في المواصلات.. في الطريق.. في الشارع.. في أوقات الفراغ.. ولا تصرف وقتا في غير فائدة.
ب- الأمر بالمعروف والحث على الخير والدعوة إلى الله من أعظم أعمال اللسان أجرا وبركة.
ج- لا تطلب الربح وأنت تضيع رأس المال: لا تكذب، لا تغتب، لا تشتم، لا تنم، لا...
شكر نعمة الزوجة: أ-اتفق معها على أن تحفظا من كتاب الله سبحانه وتعالى وردا ثابتا كل أسبوع.
ب- اسألها عن صلاتها وقرآنها وعلاقتها بربها، كما تسألها عن أحوال بيتها وأبنائها.
ج- ترفق معها في النصيحة وتدرج في التنفيذ، فما كان الرفق في شيء إلا زانه (رفقا بالقوارير).
شكر نعمة الوقت: أ- نظم جدولا لأعمالك خلال الأسبوع وحدد أوقات الفراغ استعدادًا لملئها.
ب- الواجبات أكثر من الأوقات، فعاون غيرك على الانتفاع بوقته، وإن كان لك حاجة فأوجز في قضائها.
مختارات