الليلة الثالثة
يا لِلحظةِ الاقترابِ من صِوتِ زَمزمَ وهي تَسيل ..
ويا للبركةِ إذ تَتدفقُ من زَمزم في البيتِ الحرامِ في زَمنِ العَشْرِ من ذِي الحِجَّة !
هنا .. تَتضاعفُ البَركةُ حتى تَسكن الحَجيجَ ؛ فيعودونَ مبارَكين مُبللين بالرّحمة !
يَغمسونَ أيديهم في زَمزم و يَنغمسونَ ؛ فَيغنمون و يَتمنون !
فيا لله ..
يا لله كيفَ تكونُ ضِفافُ الأحلامِ بعيدةً .. فإذا انسكَبتْ فيكَ زَمزم ؛ تَناولتَها كأنّ حِبالَ الدِلاءِ في زمزم مَشدودٌ بها الدعاء !
في مَرح النّشوَة ؛ يَستظلون عند أكوابِ زمزم ..
يطيلونَ المكثَ و يَحكونَ للماءِ بكل اللغاتِ أسرارَ الحاجات ..
يُودِعونها في الماء المُنساب على مهلٍ في الأفواه ..
ثم يَنتظرون تَنزّلها من اللوحِ المَحفوظ .. فقد حرّكوا سِلسلة الإجابَة !
يَنبتونَ في الماء المُبارك ؛ِ و تَنبتُ لهم الأمْنيات ..
فهنيئًا لمن انزاحَ دربُه نحوَ مكّة .. هنيئًا .. فقد طُويتْ له إلى القُربِ المَسافات !
هنا الوجدُ ..
وهنا كلّ ما يَتمنى الحَاجُّ يَجد .. هنا يُفكُ قيدُ الأسير ..
وهنا يُمحى آثارُ الضَياع ..
وهنا .. كلما وقعتْ قطرةٌ على قطرةٍ فارَتْ زمزمُ بالبركات !
على حافَّة البِئر المُبارك ؛ِ جلسَ ابن حجر العَسقلانيّ وقال :
َ ( شربتُ ماءَ زمزمَ لِأصلَ إلى مرتبةِ الإمام الذّهَبي في الحِفظ ) فبَلغَها وزادَ عليه !
أيُّ عمقٍ هذا وأيُّ أُفُقٍ في الدّعاء !
وجلسَ بعدَه السّيوطيُّ ؛ على نيةِ أن يَبلغَ في الفِقه مرتبةَ الإمامِ البَلقينيّ ، فبلغَ من العِلمِ مَبلغًا عظيمًا ، وتركَ للأمّة مُؤلفاتٍ بلا عدٍّ ولا حَصْر ..
كأنّ السيوطيُّ كانَ يشربُ زمزمَ ؛ ينوي بها أن يظلّ عودًا أخضرًا !
و لما سُئلَ ابنُ خزيمة ؛ من أينَ أوتيتَ هذا العلم .. قال :
" إني لما شربتُ ماءَ زمزم سألتُ الله علمًا نافعًا " !
سَكبَ جِرارَ زمزمَ في فَمه ؛ فانسكبَ له علمُ الحديث ،ِ ولم تُغرب شمسُ ابن خزيمة بعدها أبدًا !
وشَرِبَه القُرطبيّ لحفظِ القرآنِ ؛ فَتسير عليه في مدة وجيزةٍ ، وقد كان يَثقلُ عليه من قَبل !
وشربَه الحاكمُ للتأليف ؛ِ فكانَ من أجودِ الناسِ تصنيفًا وتأليفًا !
و ذُكرَ في سيرةِ ابن الجزريّ ؛ أنَ والدَه مكثَ أربعينَ سنةً لم يُولد له ولدٌ ، فَحجَّ وشَرب ماءَ زمزم بِنيّة أن يَرزقَه اللهُ ولدًا عالمًا ؛ فَرزقَه اللهُ بمحمّد الجزري ، عالِم القِراءاتِ الجَليل ، الذي تَلقّى علمَه مئاتُ الآلافِ من المُسلمين ..
وكانَ ذلك بعضُ أسرارِ زَمزم !
وكانَ عمرُ بن الخطابِ يَشربه ويقول :
" اللهمّ إني أشرَبُه لِظمأِ يومِ القيامة " .
حتّى يَبرد اللهيبُ .. وتُبدِّد زمزمُ كلَّ الحَريق !
على حوافِّ البِئر .. هَمسَ السّلفُ بِخَفِيِّ الدّعاء ؛ أن يبلغَهم اللهُ ما فوقَ السّحاب !
فيا لِعظمَة الحَاجَات حينَ تَبزغ .. فَتجعَل من قَطراتِ زَمزم مطرًا لا يَنفد ..
أولئكَ قومٌ ؛ كانوا يَحصونَ أمنياتِهم ، ويَصنعونَ من رشفةِ الماءِ معجزةَ الإجابة ..
المُعجزَةُ ليس في أن تنالَ ما تَتمنى ..
المعجزة ؛ُ أن تَسألَ ما لا يَنقطِع !
فيا قلبُ الحاجِ ..
حُمْ حولَ البِئر ؛ لعلَّ نِيةً تقعُ على نيةٍ فتتشابَه النهايات !
تتخافتُ أصواتُ الحجيجِ عندَ زَمزم .. كأنّ الضبابَ يسترُ أصواتهم وهي تَبتلُّ بالبكاء ..
يُخبرونَ اللهَ بكل شيء ؛ٍ ثم يَغسلون بقايَا أرواحِهم بما تبقّى في الأكوابِ من ضُوءِ الماء !
ما أجملَ زمزمَ تتسعُ لنا ولا تَضيق ..
نُلقي في بَرَكتها لغةً مَلأى بالأمنياتِ الثقيلة .. فلا تَغورُ ؛ بل تَفورُ و تَزيد !
ما أحنّ زمزم !
تمتدُّ إلى كلماتِنا ..
وتَتناهى إلى عُمقنا ؛ ثم تَضمُّنا حتى نَذوب فيها .. كأنّها هاجرُ يومَ ضَمَّت زمزم بيديها ؛ خِشيَة أن تَنقصَ فزادتْ على بَركَة الماءِ برَكة يَديها !
يَجلسُ الحَجيجُ في كلّ رَواحٍ إلى أباريقِ زَمزم المَنثورة ؛ِ كأنّها لحظةٌ من مَشهد الجَنة .. حيثُ يطوفُ على المؤمنين { وِلدانٌ مُخلدُونَ بأكوابٍ وأباريقَ من مَعِين } !
يَتضلعونَ من زمزم ؛ فَيتسعونَ .. وتتَسِع لهم المداراتُ ؛ فلا شيءَ بعدَ اليوم مَسدود !
يقومونُ وقد عَلِق الماءُ بالأقدام .. تتسللُ القَطراتُ في مَساماتِ الأجْسادِ ، ويَرتَدي الحجيجُ ماءَ زمزم !
كم خَطوةٍ في العُمر ؛ تَحمِلُ نَدى زمزم !!
كم خطوةٍ في العُمرِ ؛ مَبلولَة بالبرَكة !!
" ألا ياليتَني حَصاةٌ في طريقِ قَدَمٍ اغتسلتْ بماءِ زمزم " !
يا للبركةِ تَرفلُ في المَسير ..
يا للبركة وهي تَصنعُ لك خطوةَ البِدء ؛ فلا مُنتهى !
ويا للودِّ الإلهي ّ..
إذ يَستقبل اللهُ عبادَه في بيتِه بشربَة ماءٍ تَسترُهم من العَراء !
يا للودّ الإلهي ..
إذ يَهمسِ الحاجُ في الماءِ ؛ فتصيرُ الأمنيةُ طيرًا ، ويرفرفُ الدعاءُ روحًا ؛ وتُلتقطُ الأحلامُ !
يا للودّ الإلهي ..
حينَ ينتبذُ الحاجُ قَصيًا عن أهله ؛ فيردّه اللهُ مُضاءً بقناديلِ البِشارَةِ والعَطاء !
ويا لأهدابِ العُيون ..
التي رأتْ من ربّها ما يحيلُ المرارةَ نعيمًا و ريًّا !
فلا تَحْرِمْ إلهي من تَمنّى ..
ولا تَمنعْ إلهي أيّ صبِ !
فهل لي رشفةٌ منها قريبَا
أداوي مُهجتي و أبلُّ قلبي
فَحسبي جُرعَة أُطفِي أواري
و أنفعُ غِلّتي و أزيلُ كَربي