أنماط: (46) نمط المُقيَّدون بأغلال الحدث
أما عن نمط الأخ الحبيس المقيد في أغلال الأحداث الماضية والآنية العاجز عن الانتقال منها أو الإفاقة من آثارها فهذا لنا معه وقفة مهمة للغاية وعذرًا إن طالت بعض الشيء نظرًا لأهميتها..
هذا النمط لا يستطيع المضي قُدمًا ولا ممارسة حياته بعد حدث جلل أو مصاب عظيم..
وهو نقيض النمط السابق التطبيعي لكنه هاهنا نقيض متطرِّف يظن أن كل إفاقة أو مضي قُدمًا إنما هي تطبيع مع الباطل ونسيان لما حدث؛ فلا يستطيع التفريق بين المرونة والتكيف الإيجابي وبين التمييع وقبول الباطل وشرعنة الخطأ وتكريسه..
إنه نمط مُكبَّل بأغلال البلاء مُقيَّد بقيود الأحداث حبيس خلف أسوار الماضي بطيء الإفاقة كثير الندب والعويل مُتفرِّغ للوم النفس والغبر..
وإن من أخطر الأمور أن تتحوّل المصائب والأخطاء والخطايا أو المخطئون والمتسببون في مشكلة إلى جدران معتمة أو قضبان غليظة يظل تفكير هذا النمط حبيسًا بداخلها فلا يرى الدنيا إلا من خلالها ولا يستطيع أن يتجاوزها إلى غيرها..
لقد قاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد عن تسعة عشر غزوة وقيل تسع وعشرون، هذا بخلاف ما يقارب السبعين سرية التي أرسلها على مدار السنوات العشر التي هي فقط مدة العهد المدني..
يعني كما أورد الحافظ ابن حجر في الفتح: المجموع كله يقارب المائة غزوة وسرية في عشر سنوات فقط حتى وفاته بأبي هو وأمي..
لو حسبت المتوسط ستجده في حدود عشر غزوات وسرايا كل عام..
يعني تقريبًا لا يمرّ شهر من حياة المسلمين في المدينة دون حدث جلل من غزوة أو سرية..
بل من الممكن أن تجد غزوتين لا تفصل بينهما إلا أيام قليلة كما حدث في غزوتي أُحد وحمراء الأسد وكذلك في الخندق وبني قريظة..
هذا بخلاف تآمر المنافقين وتربُّص اليهود ومشاكل المجتمع الوليد والأمة الناشئة..
مع ذلك لو تأمَّلت ستجد في ظل تلك الحياة الحافلة الحاشدة أن جُلّ المسائل الشرعية والأغلبية الساحقة من الأمور الفقهية وأحاديث الأحكام قيلت وتعلَّمها الصحابة رضوان الله عليهم في تلك الأيام الممتلئة بالأحداث الجسام...
لم تُثنِهم تلك المشاغل والهموم ولم تمنعهم تلك العظائم من التعلم والتعبُّد ومن السؤال والتدبر والفهم، ولم يحبسوا أنفسهم خلف جدران المصائب ولم تُقيِّدهم أغلال الأخطأء وآصار الخلل..
في يوم أحد أخطأ الرماة بنزولهم من ذلكم التل الذي أقامهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مسارعين إلى غنائم زائلة، وعاصين بذلك أمر النبي الأمين الذي أحكم لهم النهي قائلَا: «كُونُوا مَكَانَكُمْ، لا تَبْرَحُوا وَإِنْ رَأَيْتُمُ الطَّيْرَ تَخْطَفُنَا»..
لكنهم أخطأوا وخالفوا أمره ووقعوا فيما نهاهم عنه..
ثم كانت المصيبة..
ولقد أصابتهم تلك المصيبة بما هو من عند أنفسهم وذلك بنص القرآن كما نزلت به سورة آل عمران..
وقد تم بيان الخطأ والمخطئ وتم توضيح أبعاد المصيبة وتداعياتها وحُمِّلت المسؤولية للمخطئ..
ثم ماذا بعد؟!
هل ظل التوبيخ أو التلاوم وحسب؟!
هل مكث المسلمون يندبون ويتباكون؟!
هل ظلَّت كل سورة من سور القرآن تتحدَّث عن ذلك الخطأ وهل استمر اللوم والمعتبة في كل حديثٍ من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم قيل بعدها؟!
بل هل كانت الآيات التي نزلت في تلك المناسبة وتعليقًا على ذلك الحدث كلها تتكلَّم عن هذا الخطأ؟!
الجواب: لا..
لقد حدث الانتقال الطبيعي والمنطقي من بيان الخطأ وتحميل المسؤولية المناسبة للمخطئ إلى الخطوة التالية وهي العمل وإصلاح ذلك الخطأ وبذل الوسع لاجتناب الوقوع فيه في المرات القادمة..
ولقد نزلت الآيات مبينة لعوامل النصر ومفعمة بالأمل وحسن المآل ومُبشِّرة بمصير من سبق من الشهداء وأنهم أحياء عند ربهم فرحين ومستبشرين..
ثم كان التوجيه وتصحيح الخلل ولفت النظر لمواطنه بشكلٍ واضح وحاسم وعملي..
ثم خُتِمَت السورة بالتوجيه الاستنفاري الدائم الذي يُنبِّه المؤمن إلى أنه ينبغي أن يظل في تلك الحالة من الجلد والرباط والعملية..
وهكذا فعل نبي الله يعقوب عليه السلام مع بنيه..
فرغم أنه كان يدرك أن أنفسهم قد سوَّلت لهم أمرًا في المرة الأولى وكذلك الثانية..
ورغم أنه قد بين إدراكه لذلك وقال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف من الآية:83]..
إلا إنه لم يتوقف عند هذه النقطة..
ومع الألم الشديد لفقد ولديه والحزن الذي له ابيضَّت العينان فإنه انتقل بنبل النبوة إلى الجزء العقدي والعملي بشكلٍ مباشر فقال: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87]..
هيَّا تحرَّكوا..
انتقلوا إلى ما يُفيد..
أصلحوا وغَيِّروا..
هكذا يكون التعامل مع الخطأ والأزمة والحدث..
مسؤولية بغير تقييد أو أسر للماضي..
وهكذا تمضي الحياة وتسير مراكب العمل وتمرّ قافلة الإصلاح..
أما أن يحبس الإنسان نفسه بنفسه في سجن الندب والعويل والبكاء على اللبن المسكوب أو أن يُصِر على حبس الآخرين خلف قضبان الماضي دون تفكير في تغيير عملي أو طرق لأبواب مختلفة للحل؛ فتلك مسالك الضعفاء الذين لا يستطيعون المُضي قُدمًا ولا التفكير بشكلٍ عملي..
وكذلك حامل الرسالة.. لا ينشغل طويلًا إلا بهدفه ولا ينفق وقته ويضيع حياته القصيرة في البكاء وجلد النفس والغير بشكلٍ قد يؤدي في النهاية إلى ضياع الهدف الأصلي وغياب القدرة على التغيير..
كان المستورد بن شداد رضي الله عنه، في مجلس فيه عمرو بن العاص رضي الله عنه، فبينما هم جلوس حدثهم المستورد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «تقوم الساعة والروم أكثر الناس»..
فقال له عمرو بن العاص رضي الله عنه: " أبصر ما تقول " -أي تبيَُّن وتثبَّت وراجع قولك هل سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال المستورد: " أقول ما سمعت من رسول الله قال: «تقوم الساعة والروم أكثر الناس» "..
هنا وبعد تبينه من ثقة رواية المستورد قال عمرو بن العاص رضي الله عنه، أما لئن قلت ذلك إن فيهم خصالًا أربعًا: " إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرّة بعد فرّة، وأرحمهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك».
لقد ركَّز سيدنا عمرو بن العاص على خمس خصال في غاية الأهمية إن وُجدوا في أمة فقد حققت بها شوطًا طويلًا في مضمار الرفعة الدنيوية والنجاح الأممي..
الخصال الخمسة جميعها تحض عليها الشريعة الإسلامية الغرّاء بينما نجد واقع المسلمين بشكلٍ كبير في منأى عنها وبدلًا من أن نقول: هذه بضاعتنا رُدَّت إلينا نجد بُعدًا عمليًا عن جُل تلك الخصائص والأخلاق..
فما الحلم والقوة والثبات النفسي والمسارعة للنصر بعد الهزيمة والكرّ بعد الفرّ والرحمة والبِرّ والتكافل الاجتماعي، والعدل ونبذ الظلم والصدع في وجوه الظالمين بالحق لدفع ظلمهم إلا خصالٌ وقواعد إسلامية تواترت النصوص الشرعية على الحض عليها..
لكنني أخص هذا النمط الحبيس بتلك الخصلة الثانية التي أشار إليها سيدنا عمرو..
تأمّل..
" وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة "..
فمتى يفيق أخي الحبيس ويكسِر أغلال الماضي الأليم ثم يمضي في حياته إلى التغيير والإصلاح..!
متى يتجاوز تلك الأسوار؟! أسوار الحدث...!
مختارات