أثر معرفة القواعد على الأسلوب الأدبي
بسم الله الرحمن الرحيم
حين تريد أن تعبر عن لقائك بصاحبك عيسى وهو راكب، فربما كتبتَ الجملة التالية:
(لَقَيت عيسا راكبٌ).
فإذا تعلمتَ بعد ذلك النحو فقط، فربما كتبتها هكذا:
(لَقَيت عيسا راكبا).
وإذا تعلمتَ بعد ذلك الصرف فقط، فربما كتبتَها هكذا:
(لَقِيتُ عيسا راكبا).
وإذا تعلمتَ الإملاء فستكون الجملة هكذا:
(لَقِيتُ عيسى راكبا).
لعلك تلاحظ أن الجملة تغيرت مرارا مع كل علم يضع طرف بنانه على شَباةِ قلمك، وأمست هذه الجملة القصيرة مع تعاضد العلوم مستويةً على سوقها، مسلَّمَةً لا شِيَة فيها، فهي صلبة من جهة البناء الخارجي، وهذا هو ما تمنحه لنا في الجملة علوم القواعد على مهاراتنا التعبيرية، وهي منحة ليست هيِّنةً كما ترى، لكن علينا أيضا أن ندرك حدودَ تأثير هذه العلوم على الأسلوب، وأنه مهما بلغ من الأهمية إلا أن له حدودا لا يستطيع تجاوز أسوارها، فهذا المثال السالف قُصد به تقريب صورة حدود التأثير.
أما هدم البناء اللغوي للجملة من أساسِها، ثم افتراع جمل أخرى أكثر أناقة وجمالا، أو اختراع سياقات جديدة أرقَّ صياغةً وبناءً، أو انتقاء طرائق مختلفة في التعبير والبيان عن المراد المضمر في الضلوع، فهذا –مع شرطِ وجود الملَكة- إرثُ القراءة الدقيقة في الأساليب العالية المودَعة كتاب الله تعالى، والمشتملة عليه البلاغة النبوية العظيمة، وهو أيضا نتيجة إدامة النظر في تركةِ الأقلام الفصيحة المقتدرة على النفاذ إلى بواطن المعاني.
هذه حقيقةٌ أردت الإبانة عنها حين رأيت من يرسم حدودا لملكة البيان لا تتجاوز معرفة قواعد الإعراب وما في بابها، وهذا ذكر لنصف الطريق، أما الاقتصار عليه فهو لا يوصل إلى المقصود بحال، وقد نبَّه على هذا المعنى الدقيق العلامة النحوي أبو حيان الأندلسي -وبالغ في تقريره- فقال: (أكثر أئمة العربية هم بمعزل عن التصرف في الفصاحة والتفنن في البلاغة.. وقل أن ترى نحويا بارعا في النظم والنثر، كما قل أن ترى بارعا في الفصاحة يتوغل في علم النحو). فالنحو والصرف ونحوهما من علوم القواعد يقومان بمهمة ترسيم وضبط الحدود الخارجية لدولة الأسلوب، أما البنية التحتية والإدارة الداخلية لهذه الدولة فليست هي مهمة سيبويه وأبي علي الفارسي وابن جني ونظرائهم، وإنما فَسَحَ هؤلاء النحاة الصدرَ لأصحاب المعلقات وأبي تمام والمتنبي والجاجظ وابن قتيبة والجرجاني ليتولوا مهمة إدارة هذه الدولة من الداخل!
مختارات