{وأصلحنا له زوجه} - [الجزء الأول]
في سياق الحديث عن نبي الله زكريا وطلبه الذرية: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ يخبرنا الله أنه استجاب دعاءه ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾، والسؤال الذي يحير المتدبرين لماذا يقول الله: ﴿وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ ؟ ألا يكفي أنه أباه نبي فيرث الابن صلاح أبيه، إن كان الصلاح يورث كما يظن الناس؟
يقول الرازي في تفسيره: " واعلم أن قوله: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ يدل على أن الواو لا تفيد الترتيب، لأن إصلاح الزوج مقدم على هبة الولد "، فالله لم يوهب لزكريا الولد حتى أصلح له المنبت، لأنه كما يقول الله: ﴿وَالبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخرُجُ نَباتُهُ بِإِذنِ رَبِّهِ﴾، فأصلح الله له المنبت ليكون نباته طيبا، وإذا كان هذا في شأن زكريا فما ظنك بغيره من الناس؟
إنها لفتة قرآنية كريمة إلى ضرورة وأهمية صلاح المرأة، ولا أجل من ذلك بأن يمتن الله على نبي من أنبيائه بأنه أصلح له زوجه، ونجد هذا واضحاً ملموساً لمن تدبر دعاء عباد الرحمن الذي أثنى الله عليهم به: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾، فبدؤوا بسؤال صلاح الزوج قبل الولد لأنهم ألصق، ولأنهم الأصل كما يقول العلامة ابن باديس.
وهذه السورة مكية، فإذن حضور المرأة في القرآن سابق جداً ومبكر، لأن القرآن في مكيه كان ينبئ الفرد المسلم؛ امرأة ورجلا سواء بسواء، لأنهما لبنة ونواة المجتمع المسلم الذي كان محور حديث مدنيه، وهذا ما يكفي المسلمة فخراً به وتمسكاً بالقرآن.
إن تعويل القرآن هنا على صلاح المرأة في صلاح الأبناء أصل في الشريعة، فنجد السنة زاخرة بالدعوة إلى اختيار المرأة الصالحة في الزواج: (فاظفر بذات الدين تربت يداك)([1]) إنها دعوة من الرسول صلى الله عليه وسلم كما في أحد تفاسير معنى قوله (تربت يداك) لمن يختار لأبنائه امرأة صالحة، وحسب هذه الدعوة النبوية للمسلم المحب لرسوله صلى الله عليه وسلم ترغيباً في اختيار الصالحة وغيرها من النصوص التي يحفظها الجميع وقَلَّ من يعمل بها.
وهذه اللفتة كما هي رسالة إلى الزوج في اختيار الشريك الصالح، هي كذلك رسالة لأولياء المرأة بحسن تربيتها وصلاحها، وتكاد النصوص تتظافر على ذلك بترتيب جزيل الثواب على الإحسان في تربية البنات والأخوات كما في حديث (من يلي من هذه البنات شيئاً، فأحسن إليهن، كُنَّ له ستراً من النار)([2]) وهل يكون الإحسان في تربية المرأة إلا بإصلاحها؟
ومن علم تأثير المرأة في صلاح الأجيال فلا يعجب من تخريجها لنا الأئمة الثلاث: مالكاً والشافعي وأحمد، فلهذا تجد في كلام الأئمة الكبار هؤلاء " كانت أمي " و " قالت لي أمي " و " ذهبت بي أمي " في برٍّ عجيب لهؤلاء الأئمة تجاه أمهاتهم، وغيرهم كثير، لكننا اخترنا هؤلاء الأعلام لاشتهارهم، وإلا فعددٌ هائل من أعلامنا أيتام.
المرأة لأهميتها ودورها في المجتمع كانت محط عناية الإسلام، واهتم القرآن بها وخاطبها خطاب إصلاح وبناء، وأنزل فيها آيات، وأنزل لأجلها سوراً، وسميت باسمها سور، كل هذا تنبيها لأمة الإسلام ألا تغفل أمر المرأة وألا تهمل تربيتها وإصلاحها فيسلم المجتمع ولا تتقوض أركانه.
كانت هذه الآية سابقة لجميع الدراسات التربوية التي تنص على أهمية وجود الأم في حياة الطفل، والتي بدورها كذلك تعول على الأم في التربية والتعليم، وبقدر حضور الأم وغيابها يكون الأبناء في المجتمع.
ولما كان أمر المرأة بهذه الأهمية الكبيرة، كانت محطةُ استهداف أعداء الأمة للمرأة، وندرك تراكضهم وتسارعهم في تغريبها ومحاولة إفسادها في مكر كبار على المجتمع، لا يختص به قطر مسلم دون آخر؛ هم أدركوا أن صلاح المرأة أخطر عليهم من القنابل، وأن أرحام الصالحات هي مصانع الرجال، فوجهوا معركتهم نحو المصانع ليصنعوا الأجيال كما يريدون هم لا كما يريد الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره وأن تكون المرأة المسلمة أوعى مما يظنون فلذا نوجه لها الحديث في المقال القادم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) رواه البخاري ح (5090).
([2]) رواه البخاري ح (5995)، ومسلم ح (2629).
مختارات