فن العنوان
لم يكن اختيار العنوان قديما يسبب أي إجهاد لدى مؤلف كتاب ما، فما على المؤلف إلا أن يرى أي كلمة تميز كتابه عن غيره فيضعها في غلاف كتابه وسماً مميزاً لا نصاً موازيا كاشفاً، وفي بعض الأحيان يرى أن لا حاجة لتمييزه بعنوان فقد خلقه الله مميزا عن غيره بأمور أعظم من العنوان، فها هو سيبويه يؤلف كتابه الشهير في النحو فيغدو اسمه " الكتاب " علما عليه، دون أن يقصد سيبويه لذلك، فالمشهور أنه لم يسمّه أصلا، بل تركه هكذا بدون عنوان، يقول السيرافي: وكان كتاب سيبويه لشهرته وفضله علما عند النحويين فكان يقال بالبصرة: قرأ فلان الكتاب، فيعلم أنه كتاب سيبويه..
أما موطّأ الإمام مالك فقد اشتق عنوانه من كلمة أوحى بها أبو جعفر المنصور للإمام مالك بأن يكتب كتابا (يوطّئه للناس) فيكون سهلا موطأ، فاشتق عنوانه من تلك الكلمة المباركة، أيضا رسالة الإمام الشافعي مشتقة من معناها فهي رسالة، ومسند الإمام أحمد هو مسند، وبعض الرسائل كانت تحمل أسماء الأماكن التي كتبت فيها أو البلدان التي كتبت لها وتعد رسائل شيخ الإسلام من أشهرها أمثال: الحموية، والواسطية، والتدمرية، والفتاوى المصرية..الخ والرسالة التبوكية لابن القيم مثال أيضا على مثل هذه العنونة.
وإذا اتجهنا إلى الشعر نرى أن عناوين القصائد كانت تشتق من القوافي فهذه سينية البحتري وتلك لاميّة العرب للشنفرى وأختها لاميّة العجم للطغرائي وهكذا، أو يطلق عليها وصف عام مثل سمط الدهر، أو سمطا الدهر، أو المذهبات أو المعلقات..
وقد يُكتفى بنسبة القصيدة لقائلها ليحدث بذلك تمييزها عن غيرها كما يقال: قصيدة عمرو بن كلثوم، ويعنون بها معلّقته " ألا هُبّي بصحنك فاصبحينا " وقد قال الشاعر عن بني تغلب قوم عمرو هذا:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة *** قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
المقصود من كل هذا أن عنونة النتاج سواء كان كتابا أو نصا لم يكن المقصود منه إلا تمييز قصيدة عن أخرى أو كتابا عن آخر، فإذا ما كان النص أو الكتاب من الشهرة بمكان في نسبته لقائله استغنوا بتلك الشهرة عن تسميته، لأن المقصود _ وهو التمييز _ حاصل دون عنونة.
بعد ظهور مدرسة الديوان الشعرية التي يتزعمها العقاد والمازني وعبد الرحمن شكري وما بعدها من مدارس أدبيّة كجماعة أبولّو ومدرسة المهجر صار العنوان عتبة مهمة لقراءة النص، فهو جزء لا يتجزأ من النص تماما كالبيت الأول والبيت الأخير والصورة المعبرة التي توضع بجانب القصيدة، كلّها عتبات يبث من خلالها الشاعر تكثيفا ما لنصه، قل مثل ذلك عنوان الرواية أو القصة ثم المقالة والكتاب، لم يعد التمييز هو غرضه الأهم (أعني العنوان) بل بات التمييز غرضا فرعيا، لأن الغرض الأهم هو ضخ شيء من الشعرية أو إضاءة النص أو إشارة خاطفة إلى معادل موضوعي تحتويه القصيدة !
لهذا نجد أن بعض الشعراء يتعبون _ حقيقة _ في اختيار عناوين قصائدهم، بل إنّك تكتفي في بعض المرات بقراءة العنوان حتى تحكم على جودة القصيدة ومدى شاعريّتها، وبعض المرات يكون العنوان خير تفسير لغموض قصيدة ما أو مقالة ما..
قل مثل ذلك المقالات، وقد قرأت كلاما استعجبت منه للأستاذ عبد الله الهدلق، وكيف أنّه يعاني معاناة ليست بالهيّنة مع العنوان، حتى أنّه بعض المرّات يبني مقالا على عنوان ما، فيسبق العنوان ولادة المقال بأشهر ! وهذا وإن كان غريبا، إلا أنّه دليل واضح على وعي الكاتب الهدلق بما يعنيه العنوان وبما يضيفه وبما ينقله من إيحاءات لا يستهين بها الكاتب.
الصحافة استغلّت فكرة العنوان في المقالات والكتب والقصائد واقتبست منها فكرة المانشيتات التي تكون عادة في الصفحات الأولى لتمسك بها القراء من تلابيبهم كما يقال، والذكاء في كتابة المانشيت يختلف من صحيفة إلى أخرى وقد قرأت شيئا حول هذا للكاتب الدكتور أحمد السعيّد وقد أتى من ذاكرته بمانشيتات قديمة من بعض الصحف لفتت نظره لدرجة أنّه عجز أن يتخلص منها، وبما أن الحديث قد جرّني لذكر الدكتور السعيّد فالشهادة لله أنه من أخطر من قرأت لهم في مسألة اقتناص عنوان مقالة أو قصيدة أو عنوان عام في المجلات التي كان يترأس تحريرها، أذكر جيّدا بعض عناوينه في مجلّة الأسرة التي كانت تأسرني حقيقة، بل يبدو أن ولعه وإبداعه في هذا الجانب أوحى إليه بفكرة " حديث الصورة " فقد كان يأتي بصورة معبرة ثم يضع لها عنوانا، أذكر جيدا " حلم آثر الهوى أن يطيله " وهو شطر من بيت جعله مفتاحا لإحدى الصور، وها أنا أكتبه الآن بعد مضي خمسة عشر سنة على قراءتي الأولى له !
وبما أن الحديث قد جاء عن مجلة الأسرة فمن أبرز العناوين التي قرأتها في ذلك الوقت " عندما تتحرّك المحنّطات " كان عنوانا لمقالة للأستاذ عبد العزيز الماجد يرحمه الله في مجلة الأسرة، وكانت مقالة غاية في التأثير عليّ في تلك المدّة.
كانت قديما تبهرني عناوين قصائد الشاعر الضخم عبد الرحمن بن صالح العشماوي، ثم بعد زمن اكتشفت أني صرت أستنسخها دون أن أعلم وأضعها عناوين لقصائدي، سواء كان استنساخا كربونيا أو حتى استنساخا أسلوبيا، وخذ قاعدة: أي عنوان يبدأ بكلمة (عندما) فهو عشماويّ نسبا وصهرا، لا شك في ذلك ولا ريب، أظن قصائده التي تبدأ بعندما هذه تعدّ بالعشرات، فانتقلت العدوى لي ولكثير من لداتي فلا نكاد نكتب قصيدة إلا ونعنونها بعندما تغرب الشمس، أو عندما تموت الأزهار، أو عندما تتآكل الأنسجة ! المهم هو عندما هذه !
في العادة يكون العنوان من كلمة (حلم، شفق، امتعاض، لؤلؤة...الخ)، أو من جملة اسميه " مبتدأ وخبر " وأبغض ما تكون العناوين إن جاءت بصيغة الجملة الفعلية كماتت الطفلة، وقام المجاهدون.. حتى إن بعض الكتاب يعاني من كسل غير طبيعي في الإتيان بعنوان جيّد لنتاجه الذي يبدو أنه تعب فيه، فيكتب مقالا جيدا في الجملة، ثم يعجز أن يأتي بعنوان يكون خير تقدمة لمقاله، فيجتزئ شيئا من مقدمة المقال أو من نهايته ويضعه كعنوان، وبالهناء والشفاء، وهذا استهانة واضحة بدلالة العنوان وبرسالته..
الدكاترة زكي مبارك له عنوان مضحك أو مبكي لا أدري كيف استطاع أن يقبله طرّة لكتابه " ليلى المريضة في العراق " فلو اقتبس من الشاعر قوله " ليلى في العراق مريضة " ولم يقدم ويؤخر لكان أقل قبحا من هذا العنوان المشوّه، ولعلمكم فإن زكي مبارك هذا من القلّة الذين تستمتع بقراءة ما يكتبون، فقد آتاه الله قلما محنّكا جدا، تكفي فيه شهادة أديب العصر علي الطنطاوي، وأديب السعودية أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، والذي جعله أفضل كاتب لديه هو وابن القيّم رحمهم الله جميعا حيّهم وميّتهم.
من أروع العناوين عناوين كتب عبد القادر المازني (قبض الريح، حصاد الهشيم، خيوط العنكبوت " أيضا كتاب مصطفى صادق الرافعي " على السفود " أعتبره درّة في العناوين.. خاصة أنه خير تفسير وابتسار لموضوع الكتاب الذي كان عبارة عن هجائيّة لشعر للعقاد غفر الله لهم جميعا، فشواه على السفود شويا محترما، ويستأهل شعر العقاد الشوي فهو لا شيء مقارنة بشعر شوقي الذي تعامل معه العقاد بطفولية نقدية في كتابه الديوان..
أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري متواضع جدا في عناوينه: (لن تلحد، شيء من التباريح، تباريح التباريح... الخ) أبدا لا يوجد أي جهد في اختيار العنوان، قل مثل ذلك في كتب الشيخ علي الطنطاوي (قصص من التاريخ، الذكريات، أفكار ومباحث..)
أسوأ ما يمكن أن يُمنى به كاتب هذه الأيام هو تلك العناوين الاستعطافية التي يبدو بها الكاتب وكأنه يستعطف القارئ أن يقرأ مقاله، كتلك التي تضع نتيجة إحصائية مخيفة في العنوان، أو جزءا من خبر لافت، هذه عادة يكتبها كتاب الأعمدة اليومية، الذين ضاقت بهم الحيل في إنتاج عناوين مناسبة فصاروا يتقمّشون من هنا وهناك، استثني البعض من أبرزهم الكاتب المبدع اللذيذ جدا " فهد عامر الأحمدي " الذي يفصّل العنوان على المقال بالضبط، فيدهشك العنوان أولا، ثم تقرأ المقال فتجد نفس الدهشة لا أكثر ولا أقل !
إن كنت سأنهي مقالي بنصيحة حول العنوان لي ولأحبتي الكتاب فهي أن يكون مختصرا، مميزّا، غير خادع، بعيدا عن السجع ما أمكن! وإن احتوى على لمسة شاعريّة فشيء يزيد من الرونق، والشاعرية قد تكون بتقليل الجرعة المنطقية، فعنوان ديوان درويش الشهير " كزهر اللوز أو أبعد " ناقص المنطقية مترع بالشاعرية، وعلى هذا فقس.
مختارات