إنّها الصحوة "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين"
لو تأمّلنا أهم الأسباب التي ساهمت في انجراف الشباب خلف التيارات الفكرية الوافدة على ثقافتنا لكان الاستخذاء والانهزاميّة من الأسباب المهمة، فالروح المنهزمة تبحث عمّن تلوذ إليه، وتحتمي به..
اقرأ ما أنتجته الليبراليّة لدينا من كتب ومقالات ولقاءات، حتماً ستجد الثيمة السائدة هناك هي الانهزام.. هذا الانهزام الذي جعل الثقافة الماديّة الغربيّة تفرض نفسها على تلك الأنفس المستخذية.. فصارت تسبّح بحمد الرجل الغربي والآلة الغربيّة والتفكير الغربي والقيمة الغربية..
بل إن جزيئات الانهزام الذي ساهم إعلامنا في بثّها صارت مكوّناً ضمنيّاً من مكوّنات حياتنا العامة وليست الثقافيّة بالضرورة.. فبتنا نتباهى بأن أثاثنا على الطراز الأمريكي، وملابسنا على الموضة الفرنسيّة.. وسياراتنا مصنوعة في ألمانيا ! وباتت كلمات من مثل (أوكي.. ألو.. باي) ينطقها الصغير قبل الكبير بكل اعتياديّة.. وكأنّها من صميم ثقافتنا، لا وافداً ينبغي فحصة والبحث في مدى الحاجة إليه..
هذا الانهزام كان وسيكون الجسر الذي تصعد من خلاله القيم الدخيلة على ثقافتنا، وسيكون الممهد الأهم لاختطاف الشباب المؤمن ثم رميهم في أوحال المبادئ الناحيّة منحى الإلحاد ولو كان جزئيّا.
يؤسفني كثيراً حين أقرأ لعلماء مسلمين، ثم أجد أن طريقتهم البحثيّة توغل فيما يظنونه (موضوعيّة) إلى درجة تجعلك تشك هل من يكتب هذا الكلام يؤمن بمحمد صلى الله عليه سلم؟ فلا تعثر في كلامه على آية أو حديث، مع أن السياق يطلب ذلك، وتراه يفسّر ظواهر ميتافيزيقيّة غامضة بكل ما يمكنه أن يفسّره به، وبكل ما قاءه غربيون وشرقيّون لا يرجون لله وقاراً، ثم لا تجده يحيل على مفسّرات دينيّة لتلك الظواهر ! اقرأ إن شئت: خوارق اللاشعور، وكتاب الأحلام بين العلم والعقيدة كليهما لعلي الوردي، عالم الاجتماع العراقي الذي بهر أصحابنا التنويريين!
الصحوة المباركة كان من أهم ما بثّته عبر قنواتها المتعددة روح العزّة والاعتداد بالذات الفرديّة والمجتمعيّة وبالقيم الإسلاميّة الرفيعة..
صار الشاب الصحويّ الصغير لا يجد غضاضة في أن يلبس ثوباً قصيراً يظهر جزءاً من ساقيه، ويمشي بين أقرانه في المدرسة وفي اللقاءات العائلية المليئة بالسخرية، كان يسمع من قرانه ومن هم فوق الأقران كلمات ساخرة وهازئة بلبسه الذي ترفضه العادات، ومع ذلك فقد كان معتزاً بذلك اللباس، إنّك إن صمدت في وجه تلك الأمواج الهازئة لأجل ثوب ترتديه.. فسوف تكون أشد صموداً عندما تواجهك الصحافة في الغد لتنتزع منك قيمة تعتقدها.. فالصحوة التي تعتبر _ في نظري_ تطبيقاً مقارباً للبيئة النبويّة جعلت أبناءها يعتزون بثيابهم قبل قيمهم.. فكان الثوب واللحية وغيرهما كالسور دون ما هو أهم من مبادئ وعقائد وأفكار.. لذلك فإن آخر ما يفكر فيه الصحويّ هو الحديث حول عقيدته المستقاة من كتاب الله وسنّة رسول الله.. فهي عنده الحرم المقدّس الذي لا يبيح لأحد المساس بحُرمته ومكانته..
لقد ربّت الصحوة أبناءها على أن يعتزّوا بكل ما عندهم من خير وإن تواضعت إمكانيّاته.. فالنشيد مثلاً كان ظاهرة فنيّة متواضعة جداً مقارنة بظاهرة الأغنية.. ومع ذلك فكان الصحويّ يشنّف مسمعيه بتلك الكلمات الجهاديّة والحماسية والإيمانيّة غير آبهٍ بما يترنّم به زملاؤه في المدارس من أغانٍ غراميّة شَدَتْ بها حنجرة أبي نورة.. أو صدح بها صوت الأرض كما يسمّونه ! فقد كفاه أداء أبي مازن وأبي دجانة وخالد الخلف ومحمد المساعد وأضرابهم.. ذلك الأداء المتواضع فنيّاً عن أقوى الحناجر العربيّة والعالميّة.. لماذا؟ لأن هنا عزّة.. هنا يجد قيمه التي يؤمن بها.. فلم يكن يفكر وهو في وحدته لا أحد يرقبه أن يدير مؤشّر المذياع في سيّارته على محطّة يسمع من خلالها لآخر ما ألقت به مؤسسات الغناء أو الغثاء.
أذكر جيداً نظرات الازدراء التي كنا نتلقاها من زملائنا في المدارس لأننا لا نتابع ما يتابعون من مباريات، أو لا نشاهد ما يشاهدون من أفلام، أو لا نحفظ ما يحفظون من أغانٍ.. وأذكر أيضاً تلك المشاعر الحزينة التي كانت تجول في قلوبنا ليس حزناً من ذلك الازدراء، وإنما هو الحزن على تلك الهمم المتواضعة، فكنا في الوقت الذي نتلقى فيه السخرية صباحاً من فلان نجتمع ليلاً لندرس الطريقة المناسبة لنصح هذا الفلان وتوجيهه وحثّه على الالتحاق بركب الصحوة.. فكنّا ننجح في هذا ونرسب.. ولكن لم نكن أبداً نيأس، لقد أمدتنا آيات القرآن التي حفظناها في المساجد بروح خالدة لا تموت، كل شيء من أمور الدنيا يدور ما بين التافه وغير المهم، المهم الوحيد هو تعبيد الخلق للحق.. هذا ونحن مازلنا بعدُ في المتوسطة والثانوية !
لقد أترعت الصحوة المباركة أبناءها بكل ما يدعم شعور الاعتزاز لديهم، فصار الصغار قبل الكبار يهزمون الجيوش المحبّطة والمخذّلة.. فيدحرونهم بقال الله وقال رسوله حتى يولّوا مدبرين.
وبالطبع فأنا لا أتحدّث عن هذه الصحوّة كما يتحدّث البعض باعتبارها شيئا من الماضي الجميل، بل أنا أعتقد أنها مازالت الحاضر وستكون المستقبل بإذن الله.. صحيح أنها استعاضت عن الكاسيت بالمنتديات والمدوّنات والمواقع الاجتماعيّة، وعن التركيز على العاطفة بالتركيز على العلم، وعن صوت سلمان العودة بقلم إبراهيم السكران.. ولكنّها مازالت صحوة ويقظة ونهضة واعتزازاً وثباتاً إن شاء الله..فلتبشر الليبراليّة الموشومة، والتنوير المظلم، والتغريب بكل غلوائه بجيوش الصحوة التي امتلأت بهم المساجد اليوم، وبثّتهم حلق التحفيظ في الحياة.. في كل تفاصيل الحياة، تجدهم في الحرم المكي يملئون أروقته، وفي الشارع، وفي المحافل، وفي المدارس، وفي الجامعات، وفي الأزقة، بنورانيّتهم لا تنويرهم، وبكفاحهم وعزّتهم كأنّهم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي..مع ملاحظة أنها لا يلزم من التشبيه توافق طرفيه في كل الجوانب.
كان الصحوي يتلقّى كمّاً من الكلمات المخذلّة من مثل: مطوّع بريدة، جماعة جهيمان، مطوّع الغفلة، مشايخ الكاسيت.. وهو إلى الآن يتلقى أشباه هذه اللموزات، فتصبحه الصحافة وتمسيه بكلمات من مثل: خفافيش الظلام، الإرهابيّون، الظلاميّون، الماضويّون، المتطرفون.. الخ، ومع كل هذه التكدّسات الساخرة إلا أن الفتى الصحويّ مازال يبتسم هازئاً بكل هذا الركام الكاذب.
مازالت اللحى والثياب القصيرة تضجّ بها الأماكن، ومازالت أشعار عبد الرحمن العشماوي وحبيب اللويحق وعبد الرحمن بارود وجابر قميحة وغيرهم تشكّل ذاكرة الجيل، ويترنّم بها الجميع..
مازال الصحوي معتزاً بأشيائه: إن نطق: فقال الله وقال رسوله.. وإن كتب: فرواه البخاري ومسلم، وإن استشهد: فذكره ابن تيمية في الفتاوى وابن حجر في الفتح، وإن ترنّم فمسلمون مسلمون مسلمون.. حيث كان الحق والعدل نكون.. لم تُرضخه تلك الصواعق المرسلة عليه من كل جانب، ولم تهدّ من عزيمته أكوام الأعمدة الصحفية التي يكتبها مجموعة خُشُبٍ مسنّدة..
صحيح فقد انهزم البعض، لقد دفنت تراجعاتهم أحلامهم فوضعوا نيتشه مكان ابن القيم، وديكارت في مقابل ابن تيمية، وجان جاك روسو عوضاً عن ابن رجب الحنبلي.. ولكن هذا كلّه لا يخرم مما سبق وقلناه، فكل قافلة يتساقط منها بعض المتاع البالي.. بل هم الصدأ الذي لابد أن يُنفى ويزال لتبقى بقيّة الأجزاء الصحوية محافظة على متانتها ولمعانها ! فالقرآن وهو القرآن لم يحُلْ بين بعض من كان صحابيّاً والكفر بالله.. مع أنه نزل على أولئك البعض، وشهدوا هداياته.. ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم..
وبالطبع فالهزيمة ليست ظاهريّة كما يعتقد البعض، فإن بعض من تغيّر ظاهره مازال باطنه ينبض بالعزّة الإيمانيّة، مازال الإسلام هو أول ما يفكر به حين يصحو وآخر ما يخطر بباله قبل أن ينام، مازال يحث أبناءه على حلق التحفيظ ويتمعّر وجهه إن انتهكت حرمات الله.. فأولئك الرجال، وإن تغيّر شيء من ظاهرهم.. مشكلتنا مع من بدلوا تبديلاً.. أولئك الذين أ جبرتهم انهزاميّة أرواحهم على أن يتلقّفوا كل قول بشرط ألا يكون من أقوال الماضي، وينشروا كل رأي على أن يكون رأياً لم يخرج من جمجمة سلفيّة ! أولئك الذين خانتهم العزائم.. وسكبت عليهم الأيام قِرَب الهزائم حتى تركتهم أذلة وهم صاغرون..
وتكسّرت بحمد الله أمواج الإلحاد والتغريب على شواطئ رجال وشباب وأبناء الصحوة المباركة، بسبب تلك المبادئ التي يعتزون بها.. ويعلون رؤوسهم في المحافل احتفاء بما فيها من نور مبين، بل تراهم كالأسود يحضرون في كل مجمع تنتهك فيه حرمات الإيمان فيغارون لله وكأن في أعينهم النقع غضباً لمن على العرش استوى.. فلا تكاد تلتقي عيناك بأحدهم في دهاليز الحياة المظلمة حتى يهالك نوره، وعظمته، فتتمتم في نفسك: " ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون " .
مختارات