من أفعال الرب
التمهيد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد
فإن من أنواع التوحيد " توحيد الربوبية " وهو توحيد الله بأفعاله، والملاحظ هو تركيز الكتب والرسائل التي تعالج مسائل وشئون العقيدة على التوحيدين: الألوهية والأسماء والصفات، ثم لا تجد تركيزاً _مقارباً لاهتمامهم بذين النوعين _ على النوع الثالث، وسبب ذلك تعلق الكثير من البدع الاعتقادية بتوحيدي الألوهية والأسماء والصفات مما حدا بالعلماء لأن يصرفوا اهتمامهم بهما لينفوا عنهما انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، وقد أحسنوا رحمهم الله.
إلا أني أتمنى أن نحدث في هذا الزمن اهتماماً زائداً بتوحيد الربوبية، ونعيد نشر ما طوي من قضاياه ومسائله، وذلك لأسباب منها:
1_لأن العبد مطالب أن يؤمن بهذا التوحيد ويستكمله، فلله أفعال يجب على العبد أن يؤمن بها وبأنها من قبله سبحانه، ولكن يحدث هذا ما لم يطلع العبد ويتفكر في هذه الأفعال، وتطرق مسمعه ليحصل لديه اليقين بأنه سبحانه الفعال لما يريد، وأنه لما يشاء قادر.
2_أن هذا التوحيد يستلزم توحيد الألوهية، وتوحيد الألوهية يتضمن هذا التوحيد: فهو عتبة لن يوحّد العبد إلهه بعباداته وتضرّعاته ما لم يمر عليها.. وقد دعا القرآن المشركين أن يوحدوا الله ألوهياً وكانت طريقته هي إقرارهم بتوحيد الربوبية.
3_ولأن هذا التوحيد باب عظيم من أبواب تقوية الإيمان وتثبيت دعائمه في القلب..فلا بد للقلب ليحيا أن يجيل نظره في هذا الباب ويتفحصه بتأمل حتى يحصل له الاطمئنان وهو معنى تطرق القرآن الكريم لأهميته.
إذا عُلم هذا، فإني أنوي أن أفرد هذه المقالة للحديث عن مجموعة أفعال للرب سبحانه مذكورة في كتابه يجمعها معنى: الصرف والتحضيض..
الصرف والتحضيض
يفعل الله سبحانه وتعالى إن أراد أن يُتمّ قدره أموراً ذكرها في كتابه وعلى لسان رسوله يُتم بها المقدور بحكمة وهيمنة، يجمع هذه الأمور معنى: " الصرف " للحيلولة بين العبد والفعل، و " التحضيض " لتشجيع العبد على الفعل وهي أفعال داخلة تحت اتصافه سبحانه بالقدرة والمشيئة والإرادة والخلق وغير ذلك من الصفات العليّة.. فهذا الكون له، وكل ما يحدث فيه هو داخل تحت فعله ومشيئته وإرادته سبحانه.. فمن هذه الأفعال:
1_ إراءة غير الموجود: فقد يظهر سبحانه شيئا للعيان لا وجود له على الحقيقة ليتمم قدره ويقضيه " ليقضي الله أمراً كان مفعولاً " ، وقد جاء هذا الفعل في القرآن الكريم: فإنه لمّا شاء الله سبحانه أن يتم نصره لأوليائه في غزوة بدر أمدهم بما شاء من المدد ثم جعل عددهم القليل يكثر في أعين المشركين، قال تعالى: " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار " فأرى الله المشركين في أَحد أوجه تفسير هذه الآية المسلمين ضِعف ما هم عليه.. وذلك ليدب الوهن في قلوبهم فيحصل بذلك نصر الفئة المؤمنة.
فقد يريك الرب سبحانه شيئا لا وجود له ليصرفك أو يشجّعك أو يؤنسك أو يوحشك.. فمن خلق عينيك قادر على أن يريهما ما ليس له وجود في الحقيقة ليتمّ قضاءه النافذ.
ويلحق بهذا رؤية المنام: " إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر " .. فقد تكون الرؤيا صارفة عن فعل أو محضضة عليه، ينشرح صدرك للإقدام على عمل ما بعد رؤيا، وينقبض عن الإقدام فتحجم في ظروف أخرى !
2_ إخفاء الموجود: وهذا عكس الأول، فقد يخفي سبحانه عنك شيئا هو موجود في الحقيقة ليقضي الله قدره ويتمّه.. وفي هذا تفسير لظاهرة عدم رؤية بعض الأشخاص لبعض الأمور التي يبحثون عنها، فقد تبحث عن مفتاح سيارتك فلا تجده وهو في يدك ! ولا تدري أن المولى يريد بذلك أن تتأخر عن حادث لو خرجت في الوقت الذي أردته لقتلك ! أو يريدك أن تلجأ إليه لتُحدث بذلك عبودية يأجرك عليها، وغير ذلك من الحكم، وأهم حكمة فيما نحن فيه أن يتمّ سبحانه قضاءه وينجز أمره، فيعدم عن ناظريك الموجود أو شيئا منه حتى يتم بذلك ما لم يكن ليتم لو رأيته موجوداً.
ومن هذا ما حدث للمسلمين وللمشركين قبيل غزوة بدر الكبرى عندما أرى الله كُلاً من الفريقين خصمه أقل مما هو عليه ليحضضه ويشجّعه ذلك على القتال، قال تعالى: " وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور " قال عكرمة: حضض بعضكم على بعض: أي شجّع وأسقط المهابة والخوف لتتم أعظم معركة في الإسلام. وقال عبّاد بن عبد الله: ليلقي بينهم الحرب ؛ للنقمة ممن أراد الانتقام منه، والإنعام على من أراد تمام النعمة عليه من أهل ولايته.
ومما يدل على هذا الفعل الإلهي _ إخفاء الموجود _ قول الحق: " وأنزل جنوداً لم تروها " .. ولا نعلم عن حكمة عدم الإراءة هنا، ولكن قد يكون سببها ألا يتكل المؤمنون على الملائكة بل يتكلوا على الله ويمعنوا في اللجأ إليه، لأن نصرهم يوم بدر كان بسبب توكلهم وصدقهم مع الله، فلو نقص ذلك الصدق لنقص ذلك النصر والله أعلم.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: " وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون " ومما يذكره بعض المفسرين في تفسير هذه الآية ما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة عندما خرج من بيته والمشركون محدقون به فلم يروه. وهذا واضح فيما ذهبنا إليه من أن الله تعالى يخفي عن بعض عباده بعض الموجود ليتم قضاءه.. واستطراداً أذكر نقلين جيّدين حول معنى هذه الآية:
يقول الشنقيطي:
" وقد قدمنا أن هذا الطبع والختم على القلوب، وكذلك الأغلال في الأعناق، والسد من بين أيديهم ومن خلفهم، أن جميع تلك الموانع المانعة من الإيمان، ووصول الخير إلى القلوب أن الله إنما جعلها عليهم بسبب مسارعتهم لتكذيب الرسل، والتمادي على الكفر، فعاقبهم الله على ذلك، بطمس البصائر والختم على القلوب والطبع عليها، والغشاوة على الأبصار ; لأن من شؤم السيئات أن الله جل وعلا يعاقب صاحبها عليها بتماديه على الشر، والحيلولة بينه وبين الخير جزاه الله بذلك على كفره جزاء وفاقا "
ويقول الطاهر بن عاشور نقلاً عن مفاتيح الغيب:
" وفي مفاتيح الغيب: مانع الإيمان: إما أن يكون في النفس، وإما أن يكون خارجا عنها. ولهم المانعان جميعا: أما في النفس فالغل، وأما من الخارج فالسد فلا يقع نظرهم على أنفسهم فيروا الآيات التي في أنفسهم لأن المقمح لا يرى نفسه، ولا يقع نظرهم على الآفاق لأن من بين السدين لا يبصرون الآفاق فلا تتبين لهم الآيات كما قال تعالى: ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) " .
3_ تغيير صفة الشيء: قد يريك الله الشيء على غير ما هو عليه، فيريك المفزع حسناً لتقدم، ويريك الحسن مفزعاً لتحجم، ويريك النائم يقظان واليقظان نائماً وعلى ذلك فقس من الأشياء التي قد يغيّر الله صفاتها لتراها بصفة يتمّ معها قدره سبحانه، وقد دل على هذا الفعل قوله سبحانه: " لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً " يقول ابن كثير عن تفسير هذه الآية: " أي أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم ؛ لما ألبسوا من المهابة والذعر ؛ لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس، حتى يبلغ الكتاب أجله، وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم، لما له في ذلك من الحجة والحكمة البالغة، والرحمة الواسعة " اهـ
ومن ذلك والله أعلم قوله: " وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود " فجعل الله عليهم أمارات اليقظين وهم نيام: قيل كانت عيونهم مفتوحة ! ولعل هذا من تفسير سبب الرعب في الآية السابقة.
4_ تحبيب وتزيين الشيء القبيح بجعله كالحسن، وتحبيب وتزيين الشيء الحسن بجعله أكثر حسناً أو جعل هوى النفس معه..أما تزيين القبيح فأشهره تزيين الكفر في قلوب الكافرين والعياذ بالله، فإذا علم الله من عبده إقبالا على الكفر وإحجاماً عن الإيمان فقد يكون عقوبته تزيين الكفر له قال تعالى " كذلك زيّن للكافرين ما كانوا يعملون " يقول الطاهر بن عاشور عن هذا الجزء من الآية: " استئناف بياني، لأن التمثيل المذكور قبلها يثير في نفس السامع سؤالا، أن يقول: كيف رضوا لأنفسهم البقاء في هذه الضلالات، وكيف لم يشعروا بالبون بين حالهم وحال الذين أسلموا ؛ فإذا كانوا قبل مجيء الإسلام في غفلة عن انحطاط حالهم في اعتقادهم وأعمالهم، فكيف لما دعاهم الإسلام إلى الحق ونصب لهم الأدلة والبراهين بقوا في ضلالهم لم يقلعوا عنه وهم أهل عقول وفطنة فكان حقيقا بأن يبين له السبب في دوامهم على الضلال، وهو أن ما عملوه كان تزينه لهم الشياطين، هذا التزيين العجيب، الذي لو أراد أحد تقريبه لم يجد ضلالا مزينا أوضح منه وأعجب فلا يشبه ضلالهم إلا بنفسه على حد قولهم: والسفاهة كاسمها. " اهـ
وتأمل قول الحق: " أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم " فاحذر أن تكون استحساناتك تزييناً لقبيح. واطلب منه أن يريك الحق حقاً فمن الناس من أراهم الله الحق باطلاً والباطل حقاً.. ولا هُدى إلا منه سبحانه.
ودليل النوع الثاني من التزيين والتحبيب قول الحق: " ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم ".. فإن رأيت الإيمان شيئاً محبباً مزيّناً فاحمد الله فكم قد بُغّض لغيرك ممن كتب الله عليهم الشقاء، ومن زعم أن الإيمان مسألة منطقية بحتة تحتاج إلى حجاج وإقناع مجرّد فقد أبعد النجعة، بل هي مسألة توفيقية اختيارية اصطفائية: قد يخلق الله في قلب العبد بسبب كسبه وعمله ما يجعله يراها على غير ما هي عليه، فيراها قبيحة بعيدة عن المنطق مكروهة، يلفظها قلبه قبل أن يدير عقله في سبر غورها، فتنسد طرق الإقناع لانسداد طرق الميل النفسي الممهد للإقناع.. نسأل الله حباً لهذا الإيمان وأن نراه حسناً..
5_لقاء العبد من لم يرد لقاءه: وهو ما يرجعه البعض للصدفة، وهو في الحقيقة مما قد يكون لإتمام قضاء أراده الله، فتلقى رجلاً لم تكن تخطط للقائه فيحدثك عن فقير ما فتتصدق عليه فيكون لقاؤك له صنع من الله لذلك الفقير، أو تلقى آخر فيؤخرك الحديث معه عن سوء، أو يشجّعك كلامه على خير، أو ليحدث بينك وبينه قتال مقدّس ! كما وقع في غزوة بدر الكبرى، قال تعالى: " إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد " ثم تأمل تعقيب الله على هذا التفصيل: " ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً " فليقضي الله أمر هذه المعركة المقدسة أحدث من اللقاءات غير المخطط لها ما أحدث فسبحان من له الخلق والأمر.
6_ قذف الرعب وإنزال الأمَنة: وقد اختص إنزال الرعب في القرآن بالكافرين، والقلوب هي مستودعات الرعب، وهذا الرعب شعور لا يعلمه المؤمن من جنس الخوف ولكنّه ممزوج بفزع شديد، وهو من لطف الله بالمؤمنين ومن دلائل بغض الله لأعدائه الكافرين، وهو شعور مباغت مفاجئ دل على مباغتته ومفاجأته تعديته بفعلي: القذف والإلقاء: " وقذف في قلوبهم الرعب "، " سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب " أما كيف يكون الرعب صرفاً فهو مما يذعر به الله قلوب الذين كفروا فيكفون أيديهم عن الذين آمنوا كما فعل الرعب بجيش قريش، فإنهم بعد أن عادوا من معركة أحد شجّعوا بعضهم على العود لاستئصال شأفة المؤمنين فقذف الله في قلوبهم الرعب فلم يقدروا أن يعودوا..
ومن عجيب تفاسير هذه الآية أن من العلماء من أجراها وعممها ولم يخصّها بوقت الحرب قال الإمام الرازي: " ظاهر قوله " سنلقيفي قلوب الذين كفروا الرعب " يقتضي وقوع الرعب في جميع الكفار، فذهب بعض العلماء إلى إجراء هذا العموم على ظاهره ؛ لأنه لا أحد يخالف دين الإسلام إلا وفي قلبه ضرب من الرعب من المسلمين، إما في الحرب، وإما عند المحاجة. "
وعكسه الأمنة، قال تعالى: " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه " وهو نعاس مبارك يغشى الذين آمنوا في المعركة فيثبّتهم الله به ويزيدهم به نشاطاً وقدرة على القتال ويطفئ به عنهم الغمّ والحزن..
وقد يقاس عليه أو هو منه ذلك النوم اليسير الذي يعقب حلول مصيبة على المؤمن، يخفف الله به عنه، لأن خفوت الحزن يحدث بعد أول نومة ينامها الإنسان كما هو مشاهد في أحزان الموت.
وهناك أفعال أخرى تندرج تحت الصرف من مثل التثبيط والختم والطبع والإغواء... ومما يندرج تحت معنى التحضيض التوفيق والتيسير والهداية وشرح الصدر...، وللرغبة في عدم الإطالة سأكتفي بما ذكرته.. أسأل الله تعالى أن ينفعنا بالقرآن وأن يزيدنا بصيرة بما فيه من الهدايات.. وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن يبصرنا بأسباب مرضاته.. وصلى الله وسلم على سيّدنا محمد.
مختارات