في ظلال الصمدية ..."الصمد"
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.. وبعد..
فمن أسمائه سبحانه الصمد..
والصمد اسم كما ترى بالغ الهيبة.. قويّ الحروف.. شامخ المعنى.. قليل الورود.. ذو جلالة خاصّة..
وها نحن ندلف بخيالاتنا إلى عالَ الصمديّة لنستلهم شيئا من معاني الصمد..
الصمد هو من تصمد إليه الخلائق.. أي تلجأ إليه.. هذا من أجلّ معاني هذا الاسم.. لذا فسوف نطوف بهذا المعنى..
الصمد هو المقصود في الرغائب، المستغاث به عند المصائب، والمفزوع إليه وقت النوائب..
جاء ذكره في سورة من أعظم سور المصحف، ومن أقصرها، وهي سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن الكريم..
" قل هو الله أحد * الله الصمد "
وكأن الصمود له سبحانه أهم تجليّات الإخلاص في العبادة.. فمن أكثر من استحضار معنى الإخلاص في عباداته.. أكسب قلبه صفة الرضوخ إلى مولاه والصمود له وعدم الالتجاء إلاّ إليه..
يحتاج المخلوق إلى نصر فيقول يا الله..
يحتاج إلى إعانة فيقول يا الله..
يحتاج إلى حفظ فيقول يا الله..
يحتاج إلى هداية فيقول يا الله..
يحتاج إلى لطف فيقول يا الله..
أحاطك بالاحتياجات لتحيط نفسه بأسمائه وصفاته.. وهذا معنى الصمديّة..
في كل لحظات حياتك أنت بحاجة إليه، لذلك من أسمائه الصمد لأنّك ترجع إليه اختياراً وقهراً..
المزارع إذا تأخر وقت الحصاد.. وقد تعاظمت حاجته للثمر.. وصار الماء شحيحاً.. نظر إلى السماء وقال يا الله..
ركاب السفينة إذا تلاطمت بهم الأمواج وزعزعت فكرة الموت طمأنينة الحياة في نفوسهم قالوا يا الله..
إذا أعلن كابتن الطائرة أن عجلاتها رفضت التحرّك ولذلك فسيأخذ جولة على المطار إلى أن تُحل المشكلة.. ينسى ركاب الطائرة كل الشخصيات المهمة.. ولا يتذكرون إلا الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه..
وعيناك على رسّام القلب.. تنظر إلى تلك الخطوط المتعرّجة ومريضك تخفت أنفاسه.. وتتضاءل نبضاته.. وتلك الخطوط تأخذ قليلا قليلا في الهبوط.. لحظتها تنسى اسم الممرضة.. ويتبخّر من رأسك وجه الطبيب وتقول: أرجوك يا الله كن معه..
جاء شيخ أعرابيّ اسمه الحُصين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فسأله النبي كم تعبد يا حُصين؟ فقال: سبعة.. ستّة في الأرض وواحد في السماء.. فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: من لرهبك؟ قال الذي في السماء.. قال من لرغبك؟ قال الذي في السماء.. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم فاترك الذين في الأرض واعبد الذي في السماء.. فأسلم..
فالذي تصمد إليه عند الرهبة والرغبة هو وحده من يستحق العبادة..
خلق في نفوس عباده حاجة إلى حبّه سبحانه..
هناك نوع من الحب المقدّس في قلوب العباد لا يشبعه إلا الانحناء له.. والطواف ببيته.. والوقوف بين يديه.. والقيام من النوم لأجله.. وبذل المهج في سبيله..
الحياة بكل تجلياتها أصابع تشير إلى السماء.. وتقول لك: الذي تبحث عنه هناك.. في السماء..
امرأة يخلو بها فاجر في إحدى الخلوات فيراودها عن نفسها، ولكنّها تأبى ! فيقول حاثّا لها: لا يرانا إلا الكواكب.. فتردّ بشموخ: فأين مكوكبها؟
أين الله؟
إنّه قلب صامد إلى الله.. يراقبه.. متيقن من أنّه عليم خبير سميع بصير محيط..
وصمودك إليه بقلبك تماما كصمود المصلّي إلى شجرة أو عصا ليصلي إليها.. جاعلا منها سترة للصلاة !
هكذا يجب أن يكون القلب.. يوزّع رغباته في كل الاتجاهات لكن الاتجاه الأمامي يجب أن يكون لله فقط..
ضع يمين قلبك ما شئت ويساره ما شئت.. ولكن أمامه لا تضع إلا مرضاة الله.. إلا مراقبة الله.. إلا حب الله
إذا بحثت عن شيء فلم تجده فدعه.. وابحث عن الله..
هو الذي جعل ذلك الشيء يضيع لتصمد إليه وتلتجئ.. لتقول يا الله أعد إليّ ضالّتي.. فيعيدها.. فتنشغل بها.. وتنساه..
تنقطع الأمطار، وتصبح الدنيا قاحلة على عهد موسى عليه السلام فيخرج هو وقومه وهم آلاف من الرجال والنساء والولدان.. فيرى موسى نملة خرجت رافعة يديها إلى السماء صامدة إلى ربّ السحاب.. فعلم موسى أن هذا الصمود.. وهذا الذل لن يعقبه إلا هطول السماء بماء منهمر فقال لقومه: ارجعوا فقد كُفيتم..
فعادوا على صوت الرعود.. ورذاذ المطر..
في طفولتي كنت أسمع دعاء لأحد القرّاء فيهزني: " اللهم أوقفنا مطايانا ببابك.. فلا تطردنا عن جنابك ".. هذا الإيقاف للمطايا بباب الكريم هو معنى الصمد..
من لحاجاتك غيره؟
يجب أن تعلم أنّه لو لم يأذن للدواء أن يؤدّي مفعوله في جسدك لما ارتفع عنك ذلك المرض..
يجب أن توقن أنّه لو لم يصرف تلك السيارة المتهوّرة عنك لكنت الآن في عداد الموتى..
يجب أن تتأكد أنّه لو لم يحطك برعايته عندما ركبت البحر.. لكنت الآن طعماً لأسماك المحيط..
ولهذا تصمد إليه لترتاح.. ليهدأ لُهاثك.. لتلين مفاصلك.. لأنّك بدونه تركض وتلهث وتتوتّر..
أنصت إلى أولئك الذين تعبث بهم سفينة، أو يرون الموت وهو مقبل عليهم، وتعصف بهم رياح التقلّبات سوف تسمعهم بجميع أديانهم يلهجون باسمه: يا الله..
" هو الذي يسيّركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيّبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنّوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين "
جعل في داخلك حاجة لأن تقول اسمه.. هناك أمن يعمّ كيانك إن قلت يا الله.. فإذا لم تقلها اختياراً.. قلتها اضطراراً.. وإن لم تصرخ بها إيماناً.. صرخت بها قهراً..
عدّل بوصلة قلبك باتّجاهه ثم سر في أي طريق.. وستصل " فأينما تولّوا فثمّ وجه الله "
إذا التجأت لفلان من الناس صباحاً قد يغلق بابه دونك في المساء.
إذا نصرك على زيد قد لا ينصرك على عمرو..
إذا أعطاك اليوم فسوف يمنعك بالغد..
أما الله.. فلا
" هو الحي لا إله إلا هو فادعوه... "
يعطي بالليل والنهار.. ينصرك على الجميع إن كنت مظلوما.. لا يغلق بابه.. يده سحاء الليل والنهار.. أكرم الأكرمين.. لذلك تصمد إليه الخلائق.. فإذا جرّبت أن تصمد إلى غيره في حاجة رجعت خائبا.. ولا بد
أعجبتني مقولة لأبي حامد الغزالي يقول فيها عن اسم الله الأعظم: " فرّغ قلبك من غيره ثم ادعه بأي اسم يجبك "..
وهذا فحوى معنى الصمد.. اجعل في قلبك الله.. ثم قل أي شيء سيكون إلهيّ المسحة.. وربّانيّ الصبغة..
كل عارض يعرض إنّما هو رسالة تقول لك: لديك رب فالتجئ إليه..
المرض رسالة لتذلّ له
والفقر برقيّة لتسجد له
والضعف مكالمة تقول لك استجلب القوّة من القويّ..
الحياة كلّها تصرخ في وجهك: لديك رب.. اصمد إليه..
يقول رسول الله لطفل في السابعة صار فيما بعد يعرف بعبد الله بن عباس: " احفظ الله يحفظك.. احفظ الله تجده تجاهك "..
أمامك.. احفظه في نفسك وجوارحك وخطراتك.. سيكون أمامك بحفظه ومعيّته ونصرته..
الصمد لا تهدأ قلوب خلقه حتى تضع زوّاداتها عند عتبة ملكه..
انظر في أي اتجاه شئت.. ولكن اجعل في قلبك عينين لا تنظران إلاّ إليه..
تحدّث بكل ما تريد.. ولكن اجعل في قلبك لساناً لا ينطق إلا بذكره..
استمع إلى الجميع.. ولكن اصنع في قلبك سمعاً لا يدرك إلا كلامه..
امش إلى حيث شئت.. ولكن احفر في قلبك خطوات نهايتها عرش الملك..
اصمد إليه بقلبك وروحك وتفكيرك وجسدك وإراداتك وأحلامك وأوهامك
إذا أمسكت قلماً فتساءل: هل يرضى سبحانه عن توقيعي على هذه الورقة؟
إذا هممت بكلمة تقولها فتساءل: هل سأقول شيئا يرضيه؟
إذا وقفت موقفاً تساءل: هل موقفي هذا محبوب عنده أم لا؟
اصنع ناقوساً وعلّقه في أعلى قلبك دقاته تقول:
ماذا يريد الله؟ ماذا يريد الله؟ ماذا يريد الله..
اصمد إليه في كل حين.. وإذا ما استيقظت في نصف الليل تذكره.. خيالاتك سوداء بدون أن تتذكره.. عقلك خراب دون أن يمرّ اسمه على خطراتك.. أحلامك مستنقعات فإذا جاء ذكر الحي الذي لا يموت عليها صارت أنهارا وأشجارا وعصافير شادية..
إذا علّمت روحك الصمود إليه.. فإنّها مع الزمن تستحي أن تطلبه الدنيا لأنّها ليست الحيّز الذي خلقك له.. كل آمالك أخروية..
قال الخليفة لابن عمر وهو يطوف حول الكعبة سلني يا ابن عمر.. فنظر إليك بشموخ الصامد لله وقال.. من أمر الدنيا أم الآخرة؟ فقال أما الآخرة فلله ولكن من شؤون الدنيا.. فقال: لم أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسألها من لا يملكها !!
الصمود لله يحوّلك إلى عظيم.. مستهتر بملوك التراب..
الدنيا تخصص يجهله الصامدون لله..
قال أمير لابن تيمية.. سمعنا أنّك تريد ملكنا يا ابن تيمية !
فرفع ابن تيمية رأسه باستهتار وقال: ملكك؟
والله إن ملكك وملك آبائك وأجدادك لا يساوي عندي جناح بعوضة !
رجل يعرّض وجهه ويعرض مسألته لله آناء الليل.. كيف يذل لقطعة خزف أطراف النهار؟
اللحظة التي تصمد فيها إليه لأجل حاجتك.. هي نفسها اللحظة التي تصبح حاجتك ملك يمينك..
لا عبور لأي رغبة إلا من طريق الله.. لا وجود لأي حاجة إلا في ساحة الله.. لا إمكانيّة لحدوث شيء إلا بالله..
فإنّه وحده الذي لا حول في الوجود ولا قوّة إلا به..
لا يمكن لخليّة أن تتحرّك ولا لذرة أن تكون ولا لقطرة أن تتبخر ولا لورقة شجر أن تسقط إلا بحوله وقوّته..
لا يستطيع العالم كلّه أن يمسّك بسوء لم يشئه الله.. ولا يستطيع العالم كله أن يدفع عنك سوءاً قدّره الله..
إذن فاجعل وجهك إليه.. وألجئ ظهرك إليه.. وفوّض أمرك إليه
فهو الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد..
مختارات