بلاء يوسف
قال الله تعالى في سورة يوسف {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [يوسف:21] يذكر الله في هذه الآية أنه مكن ليوسف!فأي تمكين هنا! إنه من غيابت الجب إلى قوم أرض لا يعرفهم ولا يعرفونه وحيداً فريداً!ثم إنه يباع خادماً فأي تمكين إذن!وأين هو؟ولماذا قدم الله بهذا الآية في وسط المهالك؟
إن وقفة متأنية متدبرة لكتاب الله تفتح لقلبك أبواباً من الفهم وأفاقاً من الإيمان وتنشر عليه صفحات من المعرفة بالله وبحقائق الحياة. وبتدبر هذه الآيات يتضح للمتأمل معنى من أروع المعاني وحقيقة من آكد الحقائق.إنه كما قيل”من رحم البلاء يخرج العز” نعم إنه معنى بديع جداً فكأني بالله أراد ألا تذهب عقول السامعين إلى مذهب بعيد فيظنون أن الله وحاشاه قد أهان نبيه أو أن الله تاركه للناس يتقاذفونه هنا وهناك إن الله يريد أن يقول لا ليس أمر كذلك إنه تدبير الملك ليس الأمر لأهواء البشر ولا لرغباتهم إنها إرادة الله لنبيه يوسف وهو بعينه لن يتركه ولن يدعه بل إن هذا البلاء الذي تسمعون سيكون بعده فرجاً قريباً وتمكيناً كبيراً به يعلو يوسف في مراتب الكرماء الأصفياء في الأخرة وله في الدنيا تمكين يخرج من وسط هذه البلايا والملمات،ولازال هذا أصل في الشرع ثابت أن البلاء منبع إخراج الرجال الذي لهم تدين الأرض وبهم يسود الدين ولهذا كان أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم،كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم -لهذا كان البلاء والصبر عليه أحد أهم أسباب الإمامة في الدين قال تعالى {وجعلنا منهم آئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}[السجدة:24] وكلا الأمرين المذكورين في الآية”الصبر واليقين”كلاهما يتحققان في البلاء ذلك أنه لايصبر على بلاء الله صبراً جميلاً محموداً إلا موقن بآياته مصدقاً لوعوده ولهذا تأمل حال الأنبياء جميعاً تجدهم في الذروة من البلاء ثم الصالحين بعدهم وذلك ما هو إلا تمهيد لكرامة الآخرة ورفعة للدرجات وللقيادة في الدنيا والتمكين ولهذا جاء في الخبر أن البلاء يظل بالمؤمن حتى يدعه كالذهب الأحمر أو يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة فيكون آئنذاك أهلاً للتمكين والرحمة والكرامة وقد قال الله تعالى {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع نقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين*الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون*أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وألئك هم المهتدون} [البقرة:155-175] والمقصود:كما أنه من بين فرث ودم يخرج لبناً خالصاً سائغاً للشاربين فك وكما أنه من وسط ظلام الليل ينبثق النور فمن رحم البلاء يخرج العز وينال التمكين والإمامة في الدين كما بشر الله في وسط البلاء الذي ابتلي به يوسف أنه ممكن له في الأرض ومعلي مكانته فقال له الملك بعد هذا له {إنك اليوم لدينا مكين أمين} فقال يوسف {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}فقال الله بعد ذلك {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء}. والحمد لله رب العالمين.
مختارات